ليست السنة كلها تشريعا ج2

ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط

الخلل في تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية

ولتوضيح وجه الخلل في هذه القسمة سنناقش الركنين الأساسيين الذين اعتُمِدَ عليهما في هذه القسمة، وِفق الأسس التالية:

 

الاجتهادات النبوية

الأساس الأول: الاجتهادات النبوية لا تنافي التشريع:
ينبغي إدراك أن قضية وقوع الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم مسألة خلافية طويلة الذيل، عالجها العلماء في كتبهم الأصولية بشيء من الطول، وخلاصة اتجاهاتهم في هذه المسألة ترجع إلى اتجاهين رئيسيين:

الاتجاه الأول: من منع وقوعه مطلقًا.
الاتجاه الثاني: من أجاز وقوعه، وهؤلاء اختلفوا على رأيين:

منهم من قصره في الشأن الدنيوي فقط دون الشأن الديني.
ومنهم من أجازه في الشأن الدنيوي والديني، وهم الأكثر.

وهذا الاتجاه الثاني الذي يجيز الاجتهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم، منهم من أدخل اجتهاده في باب العصمة، فجعل الاجتهاد منزهًا ابتداءً عن وقوع الخطأ، ومنهم من أخرجه عن حد العصمة فجوز وقوع الخطأ فيه ولكن منع من الإقرار عليه، فيكون معصومًا فيها باعتبار المآل، وهو ما عبر عنه بعض الحنفية بالوحي الباطن، فما كان منه صلى الله عليه وسلم من تصرفات بمقتضى الوحي ابتداءً فهو عمل بالوحي الظاهر، واجتهاده صلى الله عليه وسلم الذي وقع إقراره عمل بالوحي الباطن.

فعلى كل حال، فالخلاف في جواز الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفيد في توسيع مفهوم السنة غير التشريعية وإخراج هذا اللون من التصرفات جملةً وتفصيلًا من إطار الوحي، إذ أوسع الأقوال الأصولية فيها يمنع من الإقرار على الخطأ، ويؤكد على أن الوحي سيعقب ذلك بإقرار أو تخطئة فيؤول الأمر إلى معرفة الحق في المسألة بالوحي إما بالإقرار أو بالتخطئة والتصويب، ففي النهاية الحكم الشرعي قد استقر سواءً قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد فيه ثم أقره الوحي، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متبعًا للوحي ولم يجتهد، فمحصلة الخلاف هنا غير مؤثرة بتاتًا.

والمقصود أن كل اجتهاد صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيه خطأ في نفس الأمر فلا بد أن يأتي من الوحي ما يكشف عن وقوع هذا الخطأ، فلا يصح تعكير مبدأ الخضوع للوحي ومنه السنة بذريعة أن ما كان واقعًا منه صلى الله عليه وسلم باجتهاد عرضة للخطأ والصواب، إذ التصرفات الاجتهادية في الأصل باب مضيق، والخطأ في هذا الباب المضيق مضيق، ومتى قُدِّر وقوع شيء منه فسيعقبه بيانٌ يكشف عن وجه الخطأ، فيكون في هذا البيان بيانٌ لمراد الشريعة.

 

التصرف النبوي

الأساس الثاني: الأصل في التصرف النبوي صدوره عنه باعتبارات النبوة:
ما سبق تقريره من حجية السنة النبوية دال على أن الأصل فيما يصدر من الجناب النبوي أنه صادر بمقتضى النبوة كقول الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق).
فلا يصح الخروج عن هذا الأصل إلا مع القرائن المرجحة للخروج عنه فيأخذ التصرف النبوي بعد ذلك ما يليق به من الأحكام.

وإذا تدبرت أحوال الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وجدت هذا ظاهرًا في تعاطيهم مع ما كان يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من التصرفات، فالأصل أنها موضع للتسليم والانقياد، فإذا اشتبه عليهم طبيعة تصرفٍ معين بادروا إلى السؤال عنه للتحقق، بما يؤكد أو ينفي الطبيعة التي صدر عنها هذا التصرف، بعد وجود قرينةٍ دفعت لحالة الاشتباه، ولو كان مستقرًا عندهم أن ما كان من السنة متصلًا بالشؤون الدنيوية أو السياسية أو العسكرية خارج عن التشريع لما كان ثمَّ حاجة لهذا التحفظ والسؤال والاستفصال، وإنما كان سؤالهم واستشكالهم ناشئًا عن قضية طارئة على تصرف مخصوص مع استصحاب الأصل الذي تصدر عنه التصرفات النبوية.

ففي قصة خبر تأبير النخل مثلًا، لما ترك الصحابة التأبيرَ متابعةً لظنِّ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استبان لهم بعد ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاله من عنده ظنًا وليس عن الوحي، دلَّ هذا على أن الأصل عندهم في الخطاب النبوي المتعلق بشأن الدنيا أن يكون موضوعًا للتشريع.

يزيد هذا المعنى تأكيدًا: ما جرى منهم رضي الله عنهم في مقامات أخرى من السؤال والاستفصال لطبيعة القول أو التصرف لمعرفة هل هو محض اجتهاد نبوي قابل للمناقشة أم هو صادر بمقتضى الوحي، ومن أمثلته:

سؤال الحباب بن المنذر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل.

ما قالته الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم حين فكر في مشاطرة غطفان تمر المدينة في غزوة الأحزاب، فقالوا له: يا رسول الله، أوحيٌ من السماء، فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك، أو هواك، فرأينا تبعٌ لهواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواءٍ ما ينالون منا تمرةً إلا بشرىً، أو قرىً.
ما جرى من بريرة رضي الله عنها، حين شفع النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها أن تعود إليه، فقالت له: يا رسول الله أتأمرني بذلك؟ قال: (لا إنما أنا شافعٌ).

فهذه التساؤلات جميعًا حول بعض التصرفات النبوية المتصلة بشأن دنيوي إذا تأملتها وجدت مبعثها احتمال أن تكون هذه التصرفات صادرة عن الوحي وموضوعة للتشريع، فلما حصل الاشتباه لوجود قرينة وقع التساؤل، فلو قُدّر أن الصحابة فهموا أن ما كان متصلًا بشأن الدنيا مطلقًا خارج عن إطار التشريع لما تساءلوا ولا استشكلوا، ولعرفوا أنهم مخيرون فيه مطلقًا، فلما لم يقع فَهِمْنَا أنهم إنما كانوا يلتزمون بسائر أمره وهو الأصل، والاستشكال طارئ على جزئيات معينة، لوجود قرينته الباعثة على الاستشكال.

 

التمييز بين مقامات التصرفات النبوية

الأساس الثالث: حقيقة التمييز بين مقامات التصرفات النبوية:
من المفيد في البحث الفقهي التمييز في التصرفات النبوية بين ما كان واقعًا باعتباره إمامًا، أو قاضيًا، وبين تصرفه باعتباره مبلغًا، ولهذا آثار عدة، وقد نبه له العلماء، ومن أشهر من قرره الإمام القرافي رحمه الله.

وقد استند بعض المعاصرين إلى هذا التنوع في المقامات لإثبات أن السنة التشريعية هي المتعلقة بجانب التبليغ والفتوى، وأما ما يتعلق بجانب الحكم والسياسة والقضاء فليس من الجانب التشريعي.

وهذا التمييز بين التصرفات النبوية صحيح من جهة الأصل، فبعض التصرفات النبوية صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا للمسلمين كإقامة الحدود، وتجهيز الجيوش، وتوزيع الغنائم، كما أن بعض التصرفات صدرت منه باعتباره قاضيًا يفصل بين الخصوم، وينظر في البينات، فما صدر باعتباره إمامًا يكون من الأحكام المتعلقة بالأئمة، وما صدر منه باعتباره قاضيًا يكون من الأحكام المتعلقة بالقضاة، فهذا المعنى حق لا شك فيه، لكن هذا ليس له علاقة بإخراج هذه الأبواب من السنة التشريعية، فهي سنة تشريعية لكنها خاصة بالأئمة والقضاة، فهي أحكام شرعية لكنها مخولة للسلطة وليست لآحاد الناس، ثم هي تتفاوت رتبة فمنها الواجب والمستحب والمباح.

 

الخلل هنا دخل من جهتين:

الجهة الأولى: أنهم نفوا التشريع عن هذه الأحكام، فحكموا أنها من قبيل السنة غير التشريعية، وهذا غلط، فهي تشريع، لكنه مختصة بذوي الولاية، فإقامة الحدود من الواجبات الشرعية، لكنها مختصة بالحكام وليست لآحاد الناس، ولا يصح أن يقال إن إقامة الحدود ليست من السنة التشريعية.

الجهة الثانية: أنهم عمموا الحكم على جميع أحكام السياسة والقضاء، وقاعدة التصرفات متعلقة ببعض ما تصرف به النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا أو قاضيًا، وليست متعلقة بكل باب السياسة والقضاء، وفرق كبير بين الأمرين، فبعض الأحكام الشرعية السياسية هي أحكام ثابتة للجميع وليست من قبيل التصرفات الخاصة بالأئمة أو القضاة.

 

الخلاصة:

والخلاصة: أن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام، لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما، وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلًا للتشريع عن أن يكون كذلك، فليس صحيحًا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، أو بتعدد أدواره الحياتية، وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها، والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح.

 


 

المصدر:

عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص41

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
رسالة المصلح | مرابط
اقتباسات وقطوف

رسالة المصلح


إن المصلح الصادق لا تغره أرقام المتابعين ولا أعداد المشاهدين ولا كثرة المنتسبين لبرامجه إذ إن نجاحه الحقيقي هو في تحقيق عبوديته لله تعالى بالقيام بدينه وتبليغ العلم النافع والإصلاح ما استطاع ثم إن بارك الله له فيما قدم فانتفع به الناس فهو يدرك أن هذا الفتح والبركة إنما هي من الله سبحانه وتعالى فيحمده ويشكره ويفرح بنعمة الله عليه وعاجل بشراه له.

بقلم: أحمد يوسف السيد
327
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ج4 | مرابط
تفريغات

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ج4


إن الله سبحانه وتعالى قد فرض فرائض وشرع شرائع وأمر بلزومها ومن أعظم هذه الشرائع هي أركان الإسلام الخمسة التي أمر الله عز وجل بها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بركنيتها للإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما في قوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا

بقلم: عبد العزيز الطريفي
829
شبهة: لماذا فرض الله الحجاب على المرأة دون الرجل؟ | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهة: لماذا فرض الله الحجاب على المرأة دون الرجل؟


تشريع الحجاب للمرأة في الحقيقة حفظ لحقوقها وحقوق غيرها من أخواتها وضبط لقاعدة التعامل بالعدل معها وتشريف للمرأة بأن جعل التعامل معها يكون بقوانين العدل لا بقوانين الجمال والقبح وقوانين الإغراء فتتحول إلى سلعة يختلف الرجال في تقويمها

بقلم: د سلطان العميري
754
الاستعداد النفسي للانحراف: لماذا يتأثر بعض الناس بمحمد شحرور | مرابط
فكر مقالات

الاستعداد النفسي للانحراف: لماذا يتأثر بعض الناس بمحمد شحرور


ما سبب تأثر بعض الناس بمثل محمد شحرور مع ما يقدم من مناقضة صريحة لأصول الإسلام وقراءة عبثية لنصوص الشريعة وأحكامها لو طلب مني أن أحدد أهم سبب في ذلك فسأقول: هو الاستعداد النفسي للانحراف هو القابلية للانحراف لدى بعض الناس فعندهم استعداد نفسي ومقتض ذاتي فلو لم يتأثر بشحرور فسيتأثر بشخص آخر وفي هذا المقال يقف الكاتب على أهم عوامل الاستعداد النفسي للانحراف ومآلاتها

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1977
فضل تعلم اللغة العربية | مرابط
تفريغات لسانيات

فضل تعلم اللغة العربية


الناس يرتفعون لفهمهم كلام الله جل في علاه ومراد الله في كتابه وهذا لا يكون إلا باللغة العربية ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان يضرب بالدرة على ذلك ويقول: تعلموا العربية فإنها لغة القرآن ونحن أعاجم لسنا بعرب فكثير من كلمات المصنفين لا نستطيع أن نعرف معانيها إلا بالرجوع إلى المعاجم اللغوية فاللغة العربية لها أهمية قصوى لأنها من علوم الآلة التي بها استقامة اللسان واستقامة اللسان ممدحة في الشرع وكذلك العقل عن الله جل في علاه وفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقلم: محمد حسن عبد الغفار
450
يا بلال قم فناد بالصلاة | مرابط
اقتباسات وقطوف

يا بلال قم فناد بالصلاة


فائدة منتقاة من فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني بخصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فناد بالصلاة فيدور الحديث هنا على حجية القيام وعلى المقصود بالمناداة والمراد منها ويعرض لنا آراء السلف في ذلك

بقلم: ابن حجر العسقلاني
664