
وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من الألفاظ ومقالة مخالفيهم أقبح مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من الألفاظ وَمن رزقه الله بَصِيرَة فَهُوَ يكْشف بِهِ حَقِيقَة مَا تَحت تِلْكَ الألفاظ من الْحق وَالْبَاطِل وَلَا تغتر بِاللَّفْظِ كَمَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى
تَقول هَذَا جنى النَّحْل تمدحه ... وإن نَشأ قلت ذَا قيء الزنابير
مدحا وذما وَمَا جَاوَزت وصفهما ... وَالْحق قد يَعْتَرِيه سوء تَعْبِير
فَإِذا اردت الِاطِّلَاع على كنه الْمَعْنى هَل هُوَ حق اَوْ بَاطِل فجرده من لِبَاس الْعبارَة وجرد قَلْبك عَن النفرة والميل ثمَّ اعط النّظر حَقه نَاظرا بِعَين الإنصاف، وَلَا تكن مِمَّن ينظر فِي مقَالَة أصحابه وَمن يحسن ظَنّه نظرا تَاما بِكُل قلبه ثمَّ ينظر فِي مقَالَة خصومه وَمِمَّنْ يسيء ظَنّه بِهِ كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بِعَين الْعَدَاوَة يرى المحاسن مساوئ والناظر بِعَين الْمحبَّة عَكسه وَمَا سلم من هَذَا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبُول الْحق وَقد قيل:
وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة ... كَمَا أن عين السخط تبدي المساويا
وَقَالَ آخر:
نظرُوا بِعَين عَدَاوَة لَو أنها ... عين الرِّضَا لاستحسنوا مَا استقبحوا
فَإِذا كَانَ هَذَا فِي نظر الْعين الَّذِي يدْرك الحسوسات وَلَا يتَمَكَّن من المكابرة فِيهَا فَمَا الظَّن بِنَظَر الْقلب الَّذِي يدْرك الْمعَانِي الَّتِي هِيَ عرضة المكابرة وَالله الْمُسْتَعَان على معرفَة الْحق وقبوله ورد الْبَاطِل وَعدم الاغترار بِهِ
المصدر:
مفتاح دار السعادة، ابن القيم