الانقياد المشروط

الانقياد المشروط | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

859 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الإشكالية

اعتاد كثير من ذوي التوجهات المنحرفة عن النص الشرعي أن يقلِّب في كتب الفقهاء أو يستفيد من التقنية الحديثة لاستخراج الأقوال والاختيارات الفقهية (القديمة والحديثة) التي يرونها تتفق مع بعض رؤاهم؛ ليصنعوا من أجزائها زورقًا آمنًا؛ لتجاوز أمواج الاعتراض والنكير التي لا تزداد نحو عبثهم إلا دفعًا وتصاعدًا.

وقف بعدها يشير بطَرْف عينه إلى كلِّ من يذكِّره بقول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن (فلانًا) يرى كذا، وأنه يرى رجحان اختيار (فلان)، وأن المسألة فيها اختلاف، فلا يصحُّ التضييق على الناس؛ ما دام في المسألة خلاف لأحد من الفقهاء.

فإن تنازعتم في شيء

إنَّ هذه القضية قد فصل فيها أَحَكم الحاكمين في نصٍّ مُحْكَم تنزيله؛ إذ قال - تعالى -: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٩٥]؛ فما يحدث من خلاف في الأحكام الشرعية، فإن مردَّه إلى كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما يستشعره بالضرورة كلُّ منقادٍ لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم.

وأما الاحتجاج بخلاف الفقهاء في ترك العمل بالنصوص فهو قلب للقضية؛ إذ أصبح حكم الله ورسوله حينها متوقِّفًا على كلام الفقهاء؛ فما دام ثَمَّ قول فقهي مخالف، فالنصوص متعطِّلة لحين الاتفاق على العمل بها، وبدلًا من أن تُحَاكَم أقوال الفقهاء لنصوص الوحي، تصبح دلالة الوحي متوقِّفة حتى يتمَّ الاتفاق على مفهومها.

لا شك أن هذه ممارسة بعيدة كلَّ البعد عمَّا كان عليه الفقهاء في خلافاتهم الفقهية؛ فهم وإن اختلفوا في كثير من المسائل إلا أنهم متفقون - قطعًا - على أن دلالة النصوص هي الحاكمة عليهم وأن أقوالهم تتلاشى مع حضور الوحي، ولم يكن أحد منهم يشترط (الإجماع) على النص حتى يتمَّ العمل به، ولا كان خلاف الفقهاء سقفًا يحول دون نفوذ شعاع الوحي، وقد كان هذا مفهومًا متقرِّرًا لدى جميع فقهاء المذاهب؛ فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المختلَف في تحريمه لا يكون حلالًا.

حيث يقول: (هذا مخالف لإجماع الأمة، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام)[1]. وحَكَم الفقيه ابن حزم على مَنْ هذا حاله، فقال: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقًا بإجماع الأمة)[2]، كما حكى ابن القطَّان اتفاق العلماء على حرمة ترك ما صحَّ من الشرع والاكتفاء فقط بما أُجمِع عليه[3].

ويطول المقام في تتبُّع أقوال الفقهاء في هذا الأصل الذي نختمه بهذه الخلاصة التي حرَّرها الحافظ ابن عبد البر: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله)[4]. ولا شكَّ أنَّ هذا موقف صارم، ورأي شديد ضدَّ من يعطِّل دلالة النصوص بحجَّة الخلاف لإدراك الفقهاء لِمَا في هذا الرأي من جنوح عن حقِّ التعظيم والانقياد الواجب للنص الشرعي.

خلاف الفقهاء

إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص؛ فهو من النص يبدأ وإليه يعود. ومَنْ خالف حُكْم النص، فإنما خالفه لاجتهاد يُثَاب فيه على جهده وصِدْق نيَّته؛ وإن خالف النص. ولم يكن حالهم حال المعرِض تمامًا عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدَّد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها رجع للنصِّ الشرعي؛ ليبحث عن مخرج وحلٍّ لمشكلة النصِّ يتمكَّن بها من تخفيف حدَّة الاعتراض التي لا يطيقها فجاء بزورق الخلاف الفقهي؛ فهل يستويان؟

ومن طريف القوم: أنَّهم – مع كلِّ هذا - حين يأتي الحكم المجمَع عليه بين فقهاء الإسلام ويتأكَّد لهم اتفاق فقهاء الإسلام على حكمٍ من الأحكام التي لا تروق للذائقة العصرية؛ فإن بوصلة التفكير لديهم يتحرَّك سهمها إلى الجهة المقابلة فيتذكَّر أن الإجماع من الأساس مشكوك فيه ويورد بعض شُبَه منكري الإجماع في التشكيك في حجِّية الإجماع أو إمكانية وقوعه واستحالة الجزم بنفي وجود قول فقهي معيَّن.

حتى وإن تمكَّنتَ - بعد هذا كلِّه - من إثبات الإجماع وأوقفتَه بعينيه على دلائل الإجماع؛ فإن بوصلة (الزورق) الفقهي سترفع لافتة: أن ثَمَّ اختيارات فقهية من المعاصرين، ومن غير المتخصِّصين - عند الحاجة إليهم - تخالف في هذا، وأنه يراه القول الموافق للنص الشرعي!

فهذا التفكير المنطقي يشترط الإجماع للاتفاق على النص، وحين يأتي الإجماع يشكِّك في صحته وإمكانيَّته، وحين يزول هذا التشكيك يرجع ليتمسَّك بأي قَشَّة من أقوال المعاصرين! هل لهذه (الظاهرة) تفسير أو علاج خير من أن يقرأ فيها قول الله - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: ٢٩].


الإشارات المرجعية:

  1. مجموع الفتاوى: 20/270.
  2. الإحكام في أصول الأحكام: 1/291، بل ذهب ابن حزم إلى أبعد من هذا، فقال عن هذا القول: (بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف؛ لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها)، الإحكام: 1/481. 
  3. انظر: الإقناع في مسائل الإجماع: 1/65. 
  4. جامع بيان العلم وفضله: 2/115.

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط
فكر مقالات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات


نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض أجل وهذه الشعوب نفسها هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على...

بقلم: محمود شاكر
1287
الجندر المفهوم والحقيقة والغاية ج1 | مرابط
الجندرية

الجندر المفهوم والحقيقة والغاية ج1


ومن القضايا التي تحاول البرامج الجندرية التصدي لها: الوظيفة الاجتماعية للرجل والمرأة على افتراض أن الرجل يهيمن على المرأة ويمارس قوة اجتماعية وسياسية عليها ضمن مصطلح المجتمع الذكوري وبالتالي يجب منح المرأة قوة سياسية واجتماعية واقتصادية تساوي القوة الممنوحة للرجل في جميع المستويات حتى في الأسرة

بقلم: حسن حسين الوالي
751
أثر الصوم في النفوس | مرابط
تعزيز اليقين فكر

أثر الصوم في النفوس


الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات وهو يعتبر المسلم تلميذا ملازما في مدرسة الحياة دائما فيها دائبا عليها يتلقى فيها ما تقتضيه طبيعته من نقص وكمال وما تقتضيه طبيعتها من خير وشر ومن ثم فهو يأخذه أخذ المربي في مزيج من الرفق والعنف بامتحانات دورية متكررة لا يخرج من امتحان منها إلا ليدخل في امتحان وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
1399
الدعاء والتقرب إلى الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

الدعاء والتقرب إلى الله


مقتطف من الفتاوى السعدية للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي يعلق فيه على الدعاء وكيف أن العبد يجب أن يقصد به التقرب إلى الله بجانب رغبته في حصول مطلوب أو دفع مرهوب فالدعاء من أعظم العبادات التي يتقرب بها من الله بل هو مخ العبادة وخلاصتها كما يقول

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
633
دلالة التواتر على حجية السنة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة التواتر على حجية السنة


إن إثبات صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا في شأن لزوم اتباع سنته يتطلب علما خاصا بالرواة والأسانيد وقوانين علم الحديث غير أن هناك أمورا كثيرة ثبتت عنه بنقل متواتر لا يتطلب ذلك العلم الخاص ولا يختلف كل من ينسب نفسه إلى شيء من العلم بالشرع في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم وفيها ما يبلغ أعلى ما يمكن أن يبلغه التواتر عند عموم البشر مما لا ينازع فيه أحد إلا السفسطائيون وأشباههم كالمنازعة في وجود شخص المسيح عليه السلام وفي وجود فراعنة مصر في التاريخ ونحو ذلك

بقلم: أحمد يوسف السيد
2171
لن تسرقوا منا رمضان | مرابط
فكر مقالات

لن تسرقوا منا رمضان


لماذا لم نتفكر بجدية في سر هذا السعار الفني والإعلامي في رمضان؟! لماذا يغرسون تلك المفاهيم الخفية التي تغير من طبيعة رمضان في الوجدان المسلم؟! لماذا يتحول رمضان إلى شهر مسلسلات وبرامج مسابقات وتفاهات وفوازير وسهرات؟! ما علاقة رمضان بالدورات الرياضية أو بالخيام الترفيهية؟!

بقلم: محمد علي يوسف
280