التربية وضياع الأبناء

التربية وضياع الأبناء | مرابط

الكاتب: خالد الراشد

427 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، قال تعالى: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ" [البقرة:281].

 

أحبتي في الله! كثير من الناس فرطوا في أوقاتهم، وفرطوا في أعمالهم، ومع زيادة التفريط ضيعوا أبناءهم ومن يعولون، فمع بداية أيام الإجازات انقلبت الموازين في البيوت، فأصبح الليل نهارًا، والنهار ليلًا، وأصبح الأبناء في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل بلا حسيب وبلا رقيب! واعلم -بارك الله فيك- أنك إن غفلت عن تربية هؤلاء فإن الشارع يربي، والشاشات والقنوات تربي، وأصحاب السوء يربون، والمخدرات والمسكرات تربي، وقد يكون الابن صالحًا لكن مع التفريط والإهمال يصبح من الضائعين.

 

جاءني أحد الآباء يبكي بدموع حارة وقد مات ابنه، ويريد أن يعرف: هل تسبب هو في ضياعه؟ قال: كان ابني من الصالحين، من الذين يحافظون على الصلوات، ويحفظون القرآن، وفجأة بدأت أحواله تتغير، وبدأ يكثر السهر، وبدأ يلازم الشارع أكثر من لزومه للبيت، وبدأت طباعه تتغير، والطيور على أشكالها تقع.

فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه
فكم فاسقًا أردى مطيعًا حين آخاه

 

يقول هذا الرجل: وبدأ ابني يسرق، وبدأ يحتال ويكذب، وأهملت الأمر في أوله، ثم بدأ الأمر يتعاظم شيئًا فشيئًا، فبدأت أتتبعه، ثم اكتشفت أن ابني صار مدمنًا للمخدرات، فطلبت له العلاج، وأخذته هنا وأخذته هناك، وسافرت به إلى كل مكان، وكان يرفض العلاج، وكلما رجعنا من السفر عاد إلى أصحاب الشر؛ فأخذوه مرة ثانية، فحاولت نصحه بكل الطرق وبشتى الأحوال ولم يكن يستجب للعلاج، فقررت أن أحبسه في الدار، فحبسته في دار فيها دورة مياه - أعزكم الله- يأكل ويشرب، ولا يغادر المكان، وقلت: أحبسه حتى يقضي الله بيني وبينه أمرًا كان مفعولًا، فبدأ صياحه يزيد، وقلت لأمه ولأخواته ولأقاربه: لا تفتحوا له الباب، ولا تأخذكم الشفقة والرحمة عليه، لا نريد أن نخسره، فقد خسرناه بما فيه الكفاية، ونريد أن نسترجع ابننا من الضياع الذي بدأ يسير عليه، وصار بكاؤه وصياحه يخف يومًا بعد يوم، وبدأ يستجيب لنا، لكن أصحاب السوء كانوا يترددون حول بيتنا ويسمعونه، إنهم قريبون منه.

 

ومضت أيام فجاءت جدة العيال لزيارتهم، فلما سمع صوتها أخذ يبكي ورفع صوته بالبكاء قائلًا: ارحميني يا جدة! واسمعيني يا جدة! أنا تبت، وأنا كذا وكذا، فرقت الجدة لأمره، وفتحت له الباب، فالتقطه أصحاب المخدرات مرة أخرى، وخرج معهم، يقول الأب: جئت من وظيفتي في ذلك اليوم فرأيت بابه مفتوح، قالوا لي: جدته فتحت له الباب، قال: فألقي في روعي أني لن أرى ابني بعد ذلك اليوم، مضى يوم ومضى اليوم الثاني، بحثت عنه في كل مكان، ولم يبق جحر ضب إلا دخلته، وفي اليوم الثالث تعبت وأيست من وجوده، أين يختبئون؟ أين يذهبون؟ لا أعلم..

 

وبعد أيام وفي ساعة متأخرة من الليل إذا طارق يطرق الباب، فقلت: اللهم! إني أعوذ بك من طوارق الليل إلا طارقًا يطرق بخير، فتحت الباب فإذا بسيارة الشرطة، قالوا لي: أنت فلان بن فلان؟ قلت: نعم، قالوا لي: البس ثيابك فنحن نريدك في أمر هام، فلبست الثياب وانطلقت معهم، فأخذوني إلى مجمع من المجمعات يغلق في تلك الساعات من الليل، فأدخلوني في سرية وفي هدوء تام، وأخذوني إلى دورات المياه، وقالوا لي: تعرف على هذه الجثة، فنظرت إليه فإذا هو ابني ابن التاسعة عشرة من العمر قد فارق الحياة، فأين أصحابه؟ وأين الذين أوصلوه إلى تلك النهاية؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!

 

ومثل هذا كثير، فكم خسرنا من أبنائنا بمثل هذه الصورة؟ وهذا بسبب تفريط الآباء، وبسبب تضييع البيوت للأمانة، وعدم حفظ الأوقات، فنتركهم هملًا في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل، فلا صلاة فجر يصلونها، ولا صلاة جماعة يحافظون عليها.

فما المطلوب منا أن نصنعه للأبناء؟

 

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" [التحريم:6]، وكيف يكون ذلك؟ يكون ذلك بأن نربيهم على فعل الطاعات، ونربيهم على ترك الفواحش والمنكرات، ونهيئ لهم في البيوت البيئة الصالحة التي يعبدون الله فيها، فنطهر البيوت من الفواحش والمنكرات.

وأزيدكم من الشعر بيتًا؛ حتى تعرفوا مقدار المأساة!

 

بالأمس القريب جاءني رجل يستفتي، فقلت له: ما سؤالك؟ قال لي: سؤالي عظيم، فالأمر أكبر مما تتصور، استر علي ستر الله عليك، قلت له: ما القضية؟ قال: لي زوجتان، أتعاهد هذه، وأتعاهد تلك، ولي ابن في سن العشرين، يغدو ويروح بلا حسيب وبلا رقيب، فأدمن شرب الخمور فأردت أن أدخله مصحة لكن فات الأوان، فقد اعتدى ابني على ابنتي ابنة السابعة عشرة وهو في حالة سكر شديد! فقلت له: صحح الموقف، قال: مضى وقت التصحيح؛ فالبنت حبلى من الزنى من أخيها وهي الآن في الشهر الرابع!

هذا ما يحدث في بيوت المسلمين اليوم، قلت له: فماذا أصنع؟ قال: أريد أن يقام عليه القصاص، لا أريد أن أراه بعد اليوم، لكن ماذا أصنع بالبنية التي تحمل ابنًا في بطنها؟!

 

وليست هذه بالمرة الأولى التي نسمع بمثل هذا، أما آن لنا أن ننتبه ونربي البنين والبنات، فنهيئ لهم البيئة الصالحة، ونتخلص من الشاشات والقنوات التي أفسدت أخلاق البنين والبنات؟!

 

اتقوا الله عباد الله! واحفظوا بيوتكم، واحفظوا أبناءكم، واحفظوا أعراضكم، واحفظوا صغاركم، وطهروا بيوتكم من المخالفات قبل أن يقع الفأس على الرأس. اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد. اللهم طهر بيوتنا وبيوت المسلمين من الفواحش والمنكرات يا رب العالمين! اللهم أصلح البنين والبنات، والنساء والأطفال يا حي يا قيوم! اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا يا رب العالمين!

 

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين، وصن أعراضنا، واحقن دماءنا، وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تؤاخذنا بالتقصير، إنك -يا مولانا- نعم المولى ونعم النصير.

 

عباد الله! "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

 


 

المصدر:

من محاضرة أهمية الوقت وخطورة إهمال تربية الأولاد - سليمان الراشد

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التربية
اقرأ أيضا
إنما أهلك من قبلكم الدينار | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

إنما أهلك من قبلكم الدينار


إن الإسلام لا ينهى عن جمع المال وعن كسبه من طريق مشروع حلال لكن المشكلة هذا الجمع كم أولئك الناس الذين يتيسر لهم الجمع من طريق مشروع ثم إن توفر لهم ذلك فكم هم أولئك الذين يصرفون هذا المال المكتسب من طريق مشروع في طريق مشروع قليل جدا

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
527
من أسباب ضياع الوقت | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

من أسباب ضياع الوقت


الوقت المستغل هو الوقت الذي نقضيه في الوفاء بالتزاماتنا الوظيفية والإنتاجية وكذلك الوقت الذي نقضيه فيما يعد مهما للبقاء على قيد الحياة مثل: النوم والأكل والرياضة والعناية بالصحة أما وقت الفراغ فهو الوقت الذي يمضي دون أن نقوم بأي عمل مفيد أو مهم إنه وقت يمضي دون أن نعرف ماذا نصنع به هناك نوع من أوقات الفراغ يضيع أثناء تأديتنا لأعمالنا وذلك حين لا نؤدي أعمالنا بطريقة صحيحة وجادة كما هو شأن كثير من الموظفين

بقلم: د عبد الكريم بكار
662
ثم ما هي اللغة | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

ثم ما هي اللغة


إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدا عليها فلا تهرم ولا تموت لأنها أعدت من الأزل فلكا دائرا للنيرين الأرضيين العظيمين كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
724
حجية الظن في ثبوت الأخبار | مرابط
أبحاث

حجية الظن في ثبوت الأخبار


فبعض الناس يتعامل مع اليقين-القطع-العلم كدرجة واحدة كأنه الدرجة المائة في النسبة المئوية فإذا وصفنا نوعا معينا من الأدلة باليقيني أو أنه يفيد العلم فهو الدرجة ١٠٠ ويلزم أن كل ما دونه لا يفيد العلم ولا اليقين ولو كان درجة ٩٩ والحقيقة أن اليقين يتفاوت وليس على درجة واحدة فتحقق أعلى درجات اليقين في نوع من الأدلة لا يعني بالضرورة أن كل ما دونه من الأنواع قد خرج من دائرة إفادة العلم واليقين

بقلم: معتز عبد الرحمن
265
حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه


وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ولا محاربيهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمونون عليه في الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه مكذب له

بقلم: عبد المحسن العباد
537
الشعر الجاهلي واللغة ج1 | مرابط
مناقشات

الشعر الجاهلي واللغة ج1


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها من فساد وتخريب وبين يديكم مقال يقف بنا على زعم طه حسين بأنه لا يسلم بصحة هذه الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي وأن هذا الشعر لا يمثل اللغة العربية ولا يعبر عنها بحال

بقلم: محمد الخضر حسين
752