وعامة من كذب الرسل يعلم أن الحق معهم، وأنهم صادقون؛ لكن إما لحسدهم، وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه، وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وصداقة وغير ذلك، فيرون في أتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق.
ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، وإنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح: قَالُوا "أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ" [الشعراء:111]، ومعلوم أن أتباع الأزلين لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وخباب بن الأرت وعمار بن يسار وغيرهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: "وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"
ومثل قول فرعون "فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ" [المؤمنون: 47]، قال فرعون "قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ" [الشعراء: 18-19].
ومثل قول مشركي العرب "إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا" [القصص: 57]، قال الله تعالى "أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا" [القصص: 57].
ومثل قول قوم شعيب له "أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء" [هود: 87]
ومثل قول عامة المشركين "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" [الزخرف: 23].
ومثل هذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم؛ فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار.
المصدر:
- ابن تيمية، الإيمان، تحقيق الألباني، ص180 بتصرف.