في [ص 162] و[163] أخذ المؤلف -يقصد أبا رية- على الصحابي الجليل أبي هريرة أنه كان أكثر الصحابة حَدِيثًا عن رسول الله، على حين أنه لم يصاحب النَّبِيَّ إِلاَّ نحو ثلاث سنين، وقد ذكر أبو محمد بن حزم أن " مسند بقي بن مخلد " قد احتوى من حديث أبي هريرة على (5374) ... إلخ ما قال.
خَصَائِصُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَسْبَابُ إِكْثَارِهِ:
وأحب أنْ أقول للمؤلف وأمثاله:
التفرغ وقلة الشواغل
[أ] ما وجه الغرابة في كثرة رواية سيدنا أبي هريرة، مع حداثة صحبته بالنسبة لغيره، مع أن الثلاث السنين ليست بالزمن القصير في عمر الصحبة؟ وليس ذلك ببدع في العقل ولا العادة، فكم من شخص قد يجمع في الزمن القليل ما لا يجمعه غيره في أضعافه، والذكاء والإقبال على العلم والتفرغ من الشواغل الدنيوية، كل ذلك يساعد على الإكثار من الجمع والتحصيل، وإنا لنجد في عصورنا المتأخرة بعض التلاميذ والمريدين الذين لازموا أساتذتهم وشيوخهم مدة وجيزة، يقيدون عنهم الكتب والمجلدات ويحفظون عن ظهر قلب من كلامهم ما يربوعلى ما حفظه أبوهريرة عن رسول الله، وذلك على فرق ما بين عصرنا وعصرهم، وما بينهم وبين أبي هريرة من جهة التفرغ والاستعداد وتكاليف الحياة.
وأحب أن لا يعزب عن بالنا أن هذه الخمسة الآلاف والثلثمائة والأربعة والسبعون حديثًا الكثير منها لا يبلغ السطرين أوالثلاثة، ولو جُمعت كلها لما زادت عن جزء، فأي غرابة في هذا؟
[ب] إن أبا هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان رجلا لا أرب له في الدنيا وكان رَاضِيًا بالشيء اليسير، ولم يكن من الأهل والولد - آنذاك - ولا من التجارة والزراعة ما يشغله - فكان هَمُّهُ ملازمة رسول الله على ما يقيم صلبه وسأدع أبا هريرة يُفْصِحُ لنا عن السِرِّ في كثرة ما حفظ وروى.روى " البخاري " و" مسلم " وغيرهما - واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة: «إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُوهُرَيْرَةَ وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (1) إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} (2). إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ».
ولقد كان من دواعي إكثاره اَيْضًا تفرغه للعلم والرواية والفتيا بعد الرسول، حتى لقد رغب عن الإمارة لما طلبه إليها عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بعد أن عزله كما قدمنا هذا إلى ما امتاز به من ذاكرة وَقَّادَةٍ وحافظة قوية بِسَبَبِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسْيَانَهُ فَقَالَ لَهُ: «ابْسُطْ رِدَاءَكَ» قَالَ: فَبَسَطْتُهُ، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «ضُمَّهُ» فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدُ (3).
القدرة على الحفظ
وقد عد العلماء هذا من معجزاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد كان أبوهريرة أحفظ الصحابة للحديث في عهده، روى النَّسَائِيُّ بسند جيد في العلم من كتاب " السنن "، والحاكم في " المستدرك ": أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: «كُنْتُ أَنَا وَأَبُوهُرَيْرَةَ وَآخَرٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ادْعُوا فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبِي، وَأَمَّنَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ دَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ صَاحِبَايَ، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى، فَأَمَّنَ النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: وَنَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: سَبَقَكُمَا بِهَا الغُلاَمُ الدَّوْسِيُّ» وخرج البخاري في " التاريخ " من حديث محمد بن عمارة بن حزم: «أَنَّهُ قَعَدَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ مَشْيَخَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَجَعَلَ أَبُوهُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالحَدِيثِ فَلاَ يَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ فَيُرَاجِعُونَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ ... فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ».
وَمِمَّا يدل على حفظه اَيْضًا ما ذكره الحافظ ابن حجر في " الإصابة "، قَالَ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ: «أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، وَكَانَ أَجْلَسَنِي خَلْفَ السَّرِيرِ أَكْتُبُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي رَأْسِ الحَوْلِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ، فَمَا غَيَّرَ حَرْفًا عَنْ حَرْفٍ»، وقد عرف هذه الخصيصة لأبي هريرة الصحابة ومن جاء بعدهم من الأئمة، فهذا ابن عمر يقول: «إِنْ كُنْتَ لأَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللهِ وَأَعْرَفَنَا بِحَدِيثِهِ» وهذا هو إمام الأئمة الشافعي يقول: «أَبُوهُرَيْرَة أَحْفَظ مَنْ رَوَى الْحَدِيث فِي عَصْره» فكيف بعد هذا يجوز أن نتخذ من كثرة روايته وحفظه للحديث - حتى نشر منه ما لم ينشر غيره - بَابًا للطعن عليه في صدقه وأمانته؟
فالإكثار من الرواية مرجعه إلى طول الملازمة وعدم الشواغل الدنيوية، وقلة تكاليف الحياة والتفرغ للعلم والتعليم والفتيا، وعدم الاشتغال بشؤون الحُكْمِ والسياسة وتأخر الوفاة، وليس مرجعه إلى الفضل والمنزلة في الدين كما حاول المؤلف في صدر كلامه عن أبي هريرة أن يربط بينهما، ألا ترى إلى الخلفاء الثلاثة - على منزلتهم في الدين، ومكانتهم في الفضل ولصوقهم برسول الله - لم يكن لهم من التفرغ للعلم، والتخلي عن شؤون الدولة المترامية الأطراف، مَا يُهَيِّئُ لهم الإكثار من الرواية، فمن ثَمَّ قَلَّتْ روايتهم، أما الخليفة الرابع فإنه لما تأخرت وفاته وتهيأ له من التفرغ للعلم والفتيا ما لم يتهيأ لهم فقد كثرت مروياته (4)، فمحاولة الربط بين المنزلة في الدين وكثرة الرواية ليس من التحقيق العلمي في شيء، وقد أدرك السابقون ذلك، روى الأعمش عن أبي صالح قال: «كَانَ أَبُوهُرَيْرَةَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ بِأَفْضَلِهِمْ».
الإشارات المرجعية:
- [سورة البقرة، الآية: 159].
- [سورة البقرة، الآية: 160].
- قد شَكَّكَ المؤلف في هذه القصة وحاول إنكارها، وقدوته في ذلك هوالمستشرق اليهودي جولدتسيهر.
- " الاتقان ": 2/ 187.
المصدر:
- محمد بن محمد أبوشهبة، دفاع عن السنة، ص103