إسلام الوجه لله والإحسان هما أصلا الشريعة

إسلام الوجه لله والإحسان هما أصلا الشريعة | مرابط

الكاتب: شيخ الإسلام ابن تيمية

761 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الإسلام

والإسلام يستعمل لازما معدى بحرف اللام، مثل ما ذكر في هذه الآيات، ومثل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] (سورة الزمر: آية 54) . ومثل قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] (سورة النمل: من الآية 44) . ومثل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (سورة آل عمران: آية 83) . ومثل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 71 - 72] (سورة الأنعام: آية 71، ومن الآية 72)

ويستعمل متعديا مقرونا بالإحسان، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] (سورة البقرة: الآيتان 111، 112) . وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] (سورة النساء: آية 125) . فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين، وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان، وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردا لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر.

 

إسلام الوجه لله والإحسان

وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله، والإحسان - هما الأصلان المتقدمان وهما: كون العمل خالصا لله، صوابا موافقا للسنة والشريعة، وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله، كما قال بعضهم: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل

وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه، وإقامة الوجه، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] (سورة الأعراف: من الآية 29) . وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] (سورة الروم: من الآية 30) . وتوجيه الوجه كقول الخليل: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] (سورة الأنعام: آية 79) . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يقول إذا أوى إلى فراشه: «اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك»

فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه، ويتناول المتوجه نحوه كما يقال: أي وجه تريد؟ أي أي وجهة وناحية تقصد، وذلك أنهما متلازمان، فحيث توجه الإنسان توجه وجهه، ووجهه مستلزم لتوجهه، وهذا في باطنه وظاهره جميعا، فهذه أربعة أمور، والباطن هو الأصل، والظاهر، هو الكمال والشعار، فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وهو قول عمر رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، والعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسنا في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب.

ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين، كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (سورة الملك: من الآية 2) . قال: أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير، قال: لا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، ورويا عن الحسن البصري مثله، ولفظه: " لا يصلح " مكان " لا يقبل "، وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيا، فأخبر أنه لا بد من قول وعمل، إذ الإيمان قول وعمل، لا بد من هذين، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيمانا - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل.

وأصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، وهذا ظاهر، فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وهي الشريعة وهي ما أمر الله به ورسوله، لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله، فلا يقبله الله، ولا يصلح: مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب.

ولفظ " السنة " في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، وأمثال ذلك. والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين.


 

المصدر:

شيخ الإسلام ابن تيمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص58

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط
فكر مقالات

تعلمت من أوقات الفراغ


أوقات العمل تملكنا ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة فالذي يعرف وقته يعرف قيمة حياته ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب لأن مالك وقته يملك كل شيء ويصبح في حياته سيد الأحرار

بقلم: عباس محمود العقاد
5257
هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة | مرابط
أباطيل وشبهات تفريغات

هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة


يقولون إن سيدنا يوسف عليه السلام سعى للوصول إلى الرئاسة وطلبها واجتهد لكي يصل إليها فلا مشكلة إذن أن نسعى نحن أيضا إلى المناصب والرئاسة والحقيقة أن نظرتهم لقصة سيدنا يوسف سطحية للغاية ولكنه الهوى إذا استحكم وسيطر على الإنسان لن يعجزه شيء عن خلق المبررات وإيجاد الأسباب وفي هذا المقال المختصر مناقشة لقصة الرئاسة وسيدنا يوسف

بقلم: محمد صالح المنجد
2299
مضاهاة الخلق | مرابط
اقتباسات وقطوف

مضاهاة الخلق


يستطيع الإنسان على فعل الكثير من الأشياء في الحياة الدنيا ولكنه يعجز عن مضاهاة خلق الرحمن وتلك من الحجج التي جاءت في القرآن الكريم وكان بها التحدي لأمم المشركين والكافرين وبين يديكم مقتطف من كتاب النبأ العظيم عن عجز مضاهاة الخلق

بقلم: محمد عبد الله دراز
692
كن طبيبا لنفسك | مرابط
اقتباسات وقطوف

كن طبيبا لنفسك


اعلموا أنه من لم يحسن أن يكون طبيبا لنفسه لم يصلح أن يكون طبيبا لنفس غيره ومن لم يحسن أن يؤدب نفسه لم يحسن أن يؤدب نفس غيره. واعلموا أن من لم يعرف ما لله عزوجل عليه في نفسه مما أمر به ونهاه عنه ولم يأخذ نفسه بعلم ذلك كيف يصلح أن يؤدب زوجته وولده وقد أخذ الله عزوجل عليه تعليمهم ما جهلوه؟! وما أسوأ حال من توانى عن تأديب نفسه ورياضتها بالعلم وما أحسن حال من عني بتأديب نفسه وعلم ما أمره الله عزوجل به وما نهاه عنه وصبر على مخالفة نفسه واستعان بالله العلي العظيم.

بقلم: الآجري
254
هل المذاهب الفقهية بدعة محدثة؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل المذاهب الفقهية بدعة محدثة؟


هل المذاهب الفقهية بدعة محدثة وأنه لا يجوز تقليد المذاهب بل يجب اتباع الدليل أينما كان وأن أصحاب المذاهب الفقهية أضاعوا السنن لجمودهم على آراء أئمتهم كما يقول بعض المعاصرين؟ بين يديكم الرد الشافي على هذا السؤال.

بقلم: أ.د.حاكم المطيري
570
عن نتائج الثانوية العامة والجامعات | مرابط
مقالات

عن نتائج الثانوية العامة والجامعات


مفاهيم النجاح والفشل والتفوق والتعثر من أكثر المفاهيم تشوها في زماننا هذا ومن أكثرها استعمالا في تشييء الإنسان وتسليعه وتحويله من إنسان إلى آلة بنحطلها benchmark للأداء الآلاتي الجامد بتاعها وبعدين نلزق عليها label فيه سعرها مقابل هذه الأرقام أو حتى ماركتها.

بقلم: كريم حلمي
429