تعلمت من أوقات الفراغ

تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

4870 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

أوقات العمل تملكنا ..... 

 

 

ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد ، فهي من أجل هذا  ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله ، وليست قيمة الوقت إلا  قيمة الحياة.

 

 

فالذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة  التي لا تساويها ثروة الذهب، لأن مالك وقته يملك كل شيء، ويصبح في حياته سيد  الأحرار. 

 

 

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه وعندنا في الشرق كثيرون بل  كثيرون جدا من هؤلاء الفراغين.   على القهوات وعلى أفاريز الطرقات ، في الصباح
وفي المساء ، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء ....

 

 

في كل وقت وكل موسم وكل مكان ألوف من الشباب الأقوياء والرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد  والورق أو في تعاطي الراح والدخان ، أو في مراقبة الغادين والغاديات والرائحين والرائحات      ليس هذا وقتا فارغا لأنهم مشغولون فيه ، وليس هذا زقتا مملوءا لأنهم يملئونه بما هو أفرغ من الفراغ.

 

 

هذا ليس بوقت على الاطلاق...

 

 

وليس معنى " وقت  الفراغ" أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدده ونرمي به مع الهبا ،ولكن وقت  الفراغ هو الوقت الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه ، بعد أن قضينا وقت العمل
مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة.

 

 

قرأت مرة في تاريخ  امريكا الشمالية ان انجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار "كندا" فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون ..لماذا؟

 

 

زعموا في تعليل ذلك – وأصابوا- أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة  عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض لأنهم يستطيعون أن  يقضوا أوقات الفراغ منعزلين منفردين ، وأن الفرنسي لا يطيق العزله ولا يحتمل أن يفرغ    لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل  بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه...

 

 

ويصدق علينا في الشرق ما  يصدق على الفرنسيين ، فإن الانسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات ، ولا يهتدي بعد البحث  الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.

 

 

إن كان قصارى ما أصاب  الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار "كندا" .. فالأمر معنا   أخطر وأعظم ، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون ، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه.

 

 

قيل عن أهل إسبرطة ..

 

 

قيل عن أهل اسبرطة أنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في الغراء ، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في  إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقاً بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم عناء التربية ، ومن ظهر عليه التخدُّر والسبات أهملوه ونبذوه ..

 

 

ولو أنني أردت امتحان  الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم ، فمن صبر عى هذه الساعات فهو  رجل ملآن بقوة  الفكر وقوة الخلق وقوة الاحتمال ، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير  فيه...   

 

 

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ

 

 

نتعلم منها كل شئ ولا نتعلم  شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال، إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت  فراغ .. فالمعارف التي نجمعها من التجارب  والكتب محصول نفيس ، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من  خزائن العقل والضمير ..  ولن تتيسر لنا هذه  الغربلة وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ ..

 

 

إن معارف التجربة والإطلاع  زرع في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين ، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ذلك ساعة التخزين...

 

 

وهي ســـاعة الفراغ

 

 

ساعة هي أَلْزم لنا من  ساعات العمل، لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير  فراغ الحياة. ولولا أننا نخشى أن يُقدّس الناس الفراغ لقلنا  أن تاريخ الانسانية من أوله إلى عهده الحاضر مَدينٌ لساعات الفراغ. 
لقد عرف التاريخ  الإنساني أقواما فارغين جَنَوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات ودفعوا به إلى الحرب  تارة وإلى الفتنة تارة أخرى لأنهم وجدوا أمامهم متسعا من الفراغ يعيشون فيه. ولكننا – حتى مع هذا – لا  نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ  الإنسان .

ماذا يبقى من تاريخ الانسانية لولا الفارغون الذين اتسعت أوقاتهم للبذخ والترف بين الحلي والحلل في ظلال القصور؟ 
من كان يجوب الأرض ويمخر  عباب البحر ليجلب الحرير والبهار والحجر النفيس والحجر الذي تبنى به الصروح؟

 

 

من كان يتعلم الملاحة؟

 

 

من كان يتعلم صناعة السفن؟ من كان يتعلم النسيج؟ من كان يستخرج اللآليء أو يبحث عن  شذور الذهب والفضة؟ من كان يرسل القوافل ويحذق فنون التجارة ؟ من كان يرصد النجوم ويدرس حركة الأفلاك في السماء؟

 

 

من كان يعرق هذه الأعمال

 

 

التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم؟

 


لقد  كان فراغا ذميما في  أكثر نواحيه ، ولكنه على مذمته قد أفادنا درسا خالدا لا يصح أن ننساه . ذلك الدرس  الخالد هو حاجة الناس جميعا إلى أوقات الفراغ، فهي شيء لا غنى عنه في حياة أمة ولا  في حياة أحد .. وحبذا قضاء الفراغ كله  فيما هو خير. ولكننا إذا خيرنا بين الفراغ بين الفراغ بخيره وشره  وبين ضياع الفراغ كله لاخترنا أهون الشرَّيْن.


إن العقلاء من أصحاب الأعمال يطلبون اليوم  متسعا من الفراغ لعمالهم بعد أن كان طلب الفراغ مقصورا على العمال.

 

فالعامل الذي يتسع وقته  للرياضة ينشط في عمله بعد عودته إليه..

 

 

والعامل الذي ينفق بعض  الوقت ينفق بعض المال فتدور الحركة – حركة البيع والشراء في الأســـواق.

 

 

حسبة من حساب الحرص لا من  حساب الإسراف , وحسبة يرضى عنها علم الاقتصاد ولا يرضى عليها علم الأخلاق .

 

 

لا بد من فـــراغ ...

 

ولا بد من فراغ نحفظه... والفراغ الذي نحفظه هو الذي  يحفظنا , لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعِضات.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أوقات-الفراغ #عباس-العقاد
اقرأ أيضا
لماذا خلقني كأنثى؟ | مرابط
فكر المرأة

لماذا خلقني كأنثى؟


هذا جزء من رسالة أرسلت لي من فتاة عبر تويتر تقول فيها: لماذا خلق الله النساء؟ إذا الله كتب على نفسه الرحمة لماذا خلقني كأنثى؟ لماذا جعل الرجل الذي يرى امرأة يريد أن يصل إليها؟ لماذا جعل قوة الرجل أكبر وجعل النساء فرائس سهلة القتل وهتك الأعراض واللمس؟ هل الله رحيم مع النساء؟ أين هو عدل الله مع النساء؟ هل خلقنا ذوات مشاعر وعواطف لتعذيبنا؟ أم ماذا؟

بقلم: محمد بن رمضان
794
الاختلاط هم ووهم | مرابط
فكر مقالات المرأة

الاختلاط هم ووهم


من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء الملقاة على قارعة الطريق-كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحد أن يتوهم بعض الناس أنها من المسلمات الفقهية القول بأن المحرم في الشريعة هو الخلوة لا الاختلاط وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعا مختلطا يجتمع فيه الرجال والنساء ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيدة له وفي هذا المقال يقف المؤلف على إشكالية الاختلاط وما يسوقه المؤيدون له من أدلة مزعومة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1086
مع القلوب الصخرية | مرابط
مقالات

مع القلوب الصخرية


يا أخي والله لقد قرأت كثيرا كثيرا في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ وجربت كثيرا من الوسائل التي ذكروها وأصدقك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى لا أنكر أن فيها فائدة لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط دواء واحد لا غير وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي هذا العلاج هو بكل اختصار تدبر القرآن.

بقلم: إبراهيم السكران
240
تضخيم الألم | مرابط
اقتباسات وقطوف

تضخيم الألم


هذه العملية عبارة عن حالة شعورية تعتريك عند وقوعك في مشكلة تجعلك تؤمن أن ما حدث لك أكبر من قدرتك على التحمل فتشعر بالعجز والانهيار عند حدوث المشكلة وتصف المشكلة بألفاظ مبالغ فيها لا تساوي حجمها الحقيقي

بقلم: د إسماعيل عرفة
599
فقه الواقع: بين النسوية والدعاة | مرابط
النسوية

فقه الواقع: بين النسوية والدعاة


المرأة اليوم متأثرة كما الرجل بمحدثات الثقافة الغالبة وغالبا لن تجد امرأة إلا وهي متأثرة بفكرة المساواة مع الرجل إلى حد ما أو فكرة الاستحقاقية بحيث ترى أن أعظم شيء تمتلكه هو كونها امرأة وفكرة المظلومية فتجدها محملة بالعديد من الأفكار المسبقة وتعتبرها مسلمات ونظرا لأنها تحب الدين فهي تحاول أن تجد نقطة اتصال بين تلك الأفكار والشرع وهنا يأتي دور الداعية الذي لا ينتبه لمداخل العصر ولا لأمراض الناس النفسية فلا يستطيع أن يعالج مشاكل الناس بشكل جذري بسببها هذا إن كان يفهمها أصلا.

بقلم: أسامة لعايض
375
القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات العالمانية

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الأول


عندما يجري الحديث عن القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي فإن الأمر يتجاوز الحديث عن وقائع معينة تمت روايتها وتدوينها في كتب التاريخ ليجري الحديث عن الأرضية التي يجري على أساسها تحليل واستنباط النتائج من الوقائع كما أن هذا يشمل المنهج المتبع في التحقق من تلك الوقائع إنه في المقام الأول حديث عن فلسفة التاريخ عن المنهج الذي يسلكه المحلل في قراءته وتوظيفه للأحداث التاريخية في نسقه التحليلي قبل المنهج المتبع في التحقق من صدق الرواية التاريخية

بقلم: يوسف سمرين
1340