مصارع المغرقين

مصارع المغرقين | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

734 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

حدّث العالم الجليل ابن أبي ذئب  بحديث (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين) فقال له أبو حنيفة: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ قال: فضرب صدري وصاح بي صياحًا منكرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله وتقول تأخذ به! وذلك الفرض علي وعلى من سمعه. (1)

وسأل رجلٌ الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا أي أرض تقلّني وأي سماء تظلّني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به، نعم على السمع والبصر على السمع والبصر. (2)

وقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب. (3)

وقال  وكيع بن الجراح لشخصٍ اعترض عليه بقول أحد التابعين : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. (4)

وروعة هذه النماذج تغري الكاتب بالاسترسال وتشدّ القارئ لطلب المزيد بما يقف القلم معه عاجزًا عن استقصاء أحوالها لأنّها نماذج رائعة مسطّرة بمدادٍ من نور في سجل كافة علماء الإسلام، تكشف خاصيّة التجرّد والتسليم لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالآراء والاجتهادات تتوّقف وتوضع جانبًا حين يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

لم يكن أحد من فقهاء الإسلام يردّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا حتى يتوقّف في ذلك لأي سبب كان، وكلّ  ما وقع من ترك بعض الفقهاء لبعض الأحاديث فإنما كان بسبب عذر خاص به ناشئٍ عن عدم بلوغ الحديث له أو كونه يتأوّله بما يخالف ظاهره، وأما أن يكون أحد منهم قد ترك حديثًا واحدًا  ( تركًا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة). (5)

ولا عجب فالعلماء هم أعظم الناس خشية لله ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) ومن تمام هذه الخشية ولوازمها أن يسلم وينقاد لمن أمره الله تعالى بطاعته والتسليم لكلامه ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله).

هو منهج سار عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة الإسلام وفقهاء المذاهب، غير أنّ ثمّ منهجًا آخر ما زال في نفسه ضعف في كمال التسليم لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع من الشروط والقيود على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما في قلبه من مرض الشكّ وضعف الانقياد،  فبعضهم يضعف في قلبه التسليم لحدّ الزوال حين يلغي اعتبار السنة إطلاقًا من التشريع فلا يؤمن إلا بالقرآن فقط، وهي دعوى مخادعة وإلا فلو آمن بالقرآن حقًا لآمن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاءت بذلك نصوص القرآن، بل وواقع الحال أنهم لا يؤمنون بقطعيات القرآن في القضايا التي تنافي الثقافة العلمانية المعاصرة، فحقيقة الأمر أنه استثقال للتشريع ومحاولة للتخفّف من جزء كبير منه.

وبعضهم يشترط في السنّة أن تكون متواترة لا آحادًا، فيلغي أكثرية سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتقسيمات محدثة لم يعرفها الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وبعضهم يشترط في الآحاد التي يقبلها أن لا تكون في العقائد أو أن تكون في  غير القضايا التشريعية المهمة كمسائل السياسة والحكم ونحوها، والملفت أنّ هذه الشروط التي يضعون تتبخّر حين يكون الحديث في هواهم فتجد من يشترط التواتر يستدل بأحاديث الآحاد ويردّ أحاديث المتواتر، ومن يشترط أن لا تكون في القضايا العقدية أو التشريعية المهمة يستدل ببعض الأحاديث حين تكون موافقة لهواه ويردّ بعض الأحاديث المتواترة ولو كانت في هذه الأبواب المهمة.

وآخرون يشترطون في السنّة أن تكون قطعية الدلالة أو قطعية الدلالة والثبوت أو مجمع عليها بين العلماء أو  لا تكون معارضة للعقل أو المصلحة أو مقاصد الشريعة  .. وخذ ما شئت من هذه الشروط والقيود التي لا تنتهي ولا تتوقّف عند حدّ، بل كلّ ما جاء حديث على خلاف ما تهوى النفوس جاءت هذه الشروط والقيود للتخلّص، وهي صورة منافية للتسليم الذي كان عليها أئمة الإسلام وفقهاؤه الكبار.

إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم سياج واحد، واختراق حديث واحد وترك العمل به بلا  سبب يؤدّي إلى مزيد من التهاون والتساهل بأجزاء أخرى من السنة إلى تعطيل السنّة كلها، وحين يعوّد المسلم نفسه ويعتاد قلبه على وضع الشروط والقيود  لما يقبله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون قد بدأ في شقّ طريقٍ جديدٍ خارجًا به عن جادّة أهل السنة والجماعة فما يلبث أن يزداد انحرافه وشتاته إلى أن يبالي الله في أي أودية الضلالة هلك.

 ولهذا تجد من يضع مثل هذه الشروط لا يجد نفرة أو غضاضة في قلبه من إنكار شيء من السنة ولو بلا سبب لأنّ هذه الشروط لم تأتِ أصلًا إلا من حالة شكّ بأصل ثبوت السنّة فكان التهاون في حديث واحد نابعًا من مرض يسبب التهاون في المزيد من السنة.
لقد كان علماء الإسلام مدركين تمامًا لخطر التهاون ولو بحديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويستحضرون أن ترك حديث واحد بلا عذر خرق يغرق سفينة النجاة لهذا قال نعيم بن حماد: من ترك حديثًا معروفًا فلم يعمل به وأراد له علّة أن يطرحه فهو مبتدع. (6)

إنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل سفينة نوح من ركبها نجا من الغرق ووصل إلى العافية والسلامة التي يريدها، ومن تركها وبحث عن النجاة بطرق أخرى فالغرق والهلاك لا بدّ آتيه ولو بعد حين، ومن لا يقبل السنة إلا بشروط وقيود فقد ركب السفينة  وهو يجتهد في شق خروق في أسفلها وأعلاها فما تبرح به السفينة أن تغرق فلا ينفعه حينها نداء الناصحين (اركب معنا ولا تكن مع المغرقين).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: الرسالة للإمام الشافعي  452-454،  الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص222-223
  2. انظر: الفقيه والمتفقه ص300   
  3. انظر: الفقيه والمتفقه ص301
  4. انظر: الفقيه والمتفقه ص288
  5. رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية ص48
  6. انظر: الفقيه والمتفقه ص299

 

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فهد-العجلان #معركة-النص
اقرأ أيضا
محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الجزء الثاني


من أظهر الأمور الدينية: أن المهمة الأولى لدعوة الرسل والهدف المركزي فيها هو تعبيد الناس لله تعالى وغرس التعلق به في كل حياتهم كما قال تعالى:ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة النحل:36 فمقصد بعثة الرسل وأساس دعوتهم ومنتهى أعمالهم وغاية جهادهم وقطب الرحي في حياتهم والفكرة التي حولها يدندنون ومنها يقصدون وإليها يرجعون وفيها يبذلون هي: عبادة الله وحده وغرس فكرة العبودية في عقول الناس وقلوبهم وإنكار عبادة كل الأوثان

بقلم: سلطان العميري
2219
إشكالية المصطلح النسوي 2 | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

إشكالية المصطلح النسوي 2


إن مشكلة كثير من المصطلحات النسوية المتداولة أنه يتم التفكير بها داخل نظام الثقافة الغربية وأدواتها فهي منتوج غربي في النهاية وتزداد الصعوبة في المصطلحات ذات البعد الديني كمصطلح الحجاب أو مصطلح القوامة وغيرها حيث ينطلق الغرب من توصيف مفاهيمها من منطلقه الفلسفي في تفسير الدين تفسيرا اجتماعيا وهو النظرة السائدة في الغرب إلى حد ما فيتم النظر تباعا لهذه المصطلحات الدينية المتعلقة بالمرأة بمنظار علم الاجتماع فقط

بقلم: د خالد بن عبد العزيز السيف
649
أبرز آراء النسوية الراديكالية: ملكية المرأة لجسدها | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: ملكية المرأة لجسدها


نادت الحركة النسوية وخصوصا من بعد فترة الستينيات إلى شعار مؤداه أن المرأة تملك جسدها أو جسدك ملكك your body is your own وهذه الدعوة الخطرة تقتضي أمورا عدة منها مثل الدعوة للإباحية ورفض الإنجاب ورفض التستر والحجاب ثم المناداة بحق المرأة في إجهاض جنينها وكل واحدة من هذه العوامل لها مآلات خطيرة جدا يوضحها الكاتب خلال هذا المقال

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2057
أنواع الربا | مرابط
تفريغات

أنواع الربا


لكي يكشف عليه الصلاة والسلام أنواع الربا ولكي يضبط الأمر ويحدده قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى فإن اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد رواه مسلم وغيره.

بقلم: محمد صالح المنجد
355
الإنكار على تصحيح الأخطاء اللغوية | مرابط
لسانيات

الإنكار على تصحيح الأخطاء اللغوية


كتبت أمس مقالا صغيرا في تصحيح خطأ لغوي شائع فوجدت تعليقين من شخصين مختلفين يدوران على معنى واحد: اترك الناس يتكلمون كما يشاؤون ولا تتكلف التصحيح لأخطائهم ... وقد وقفت من هذين التعليقين موقف المتعجب المتأمل .. فقد ألفت أن أسمع مثل هذا الإنكار في مواجهة حكم بتبديع أو تفسيق - وإن كان حكما صحيحا - لكن أن يصل الإنكار إلى التصحيح اللغوي فهذا تمدد سرطاني علينا السعي في معالجته.

بقلم: البشير عصام المراكشي
348
هل أسقط ابن مسعود الفاتحة من مصحفه | مرابط
أباطيل وشبهات

هل أسقط ابن مسعود الفاتحة من مصحفه


قالوا: اختلف الصحابة في قرآنية أهم سور القرآن وهي سورة الفاتحة فلم يكتبها ابن مسعود من مصحفه كما نقل عنه ذلك التابعي ابن سيرين بقوله: إن أبي بن كعب وعثمان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين ولم يكتب ابن مسعود شيئا منهن وبين يديكم الرد على هذه الشبهة

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
1688