التسليم موقف عقلاني

التسليم موقف عقلاني | مرابط

الكاتب: عبد الله بن صالح العجيري

2072 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من الأوهام الغليظة تصور بعضهم أن التسليم تأسيس لـ "اللاعقلانية" والدوغمائية والإيمان عن عماية وجهل، وأنه في حقيقته عزل كلي للأداة العقلية في الإنسان لينفتح المجال لمحض التقليد والمتابعة من غير حجة أو دليل، والحق أن التسليم يرتكز في أساسه على معطيات علمية/عقلية، وفي عبارة الصديق رضي الله عنه، على وجازتها واختصارها، تبيان لهذا التأسيس، وتوضيحه فيما يلي:

 

مصادر معرفة الإنسانية كما هو معلوم منحصرة في قنوات ثلاث:

1-العقل
2-الحس
3-الخبر
 

صوابية المعرفة

ولكن من هذه المصادر معايير تقوّم صوابية المعرفة المتحصلة عن طريقها من بطلانها، فأصل تصويب الخبر يقوم على مرتكزين أساسيين:

1-السلامة من الكذب، وضمانته معرفة صدق المخبر
2-السلامة من الوهم، وضمانته معرفة ضبط المخبر
 
ولتحصيل المعرفة بوجود هاتين الضمانتين لا بد من توافر جملة من المعطيات تقوم في أساسها على معطيات عقلية فإذا توافرت هذه المعطيات كان التصديق بالخبر منطلقا عن تأسيس عقلي صحيح.
 
وإذا استصحبنا المعنى السابق اتضح لنا دقة أبي بكر رضي الله عنه حين قال "لئن كان قاله لقد صدق" فمعطى تصدير الخبر عائد إلى طبيعة المخبر، فمع توافر صفة:

-الصدق فيه، صلى الله عليه وسلم
-والعصمة له
 
سيحكم العقل بحق بتصديق الخبر.

 

الأدلة العقلية المفضية إلى الإيمان بالوحي

والأدلة العقلية المتوافرة أثبتت اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين المحوريتين، وعليه فالتسليم بخبره تسليم مرتكز على مبدأ عقلي صحيح، وليس قرارا اعتباطيا يتخذه المؤمن عن عصبية أو جهل أو إيمان بالخرافة والدجل. وقد أطال أهل العلم الكلام في دلائل النبوة وبيان مجالاتها وتنوعاتها (1) لإثبات نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيان وجوب متابعته بناء على دلائل محكمة.

وإذا تدبرت في جل هذه الدلائل وجدتها تدور على مقدمات عقلية صحيحة تفضي إلى الإيمان بالوحي في مجالات ثلاث:

1-حقيقة الوحي: باعتقاد مباينته للمعرفة البشرية، وأنه حاصل من عند الله تبارك وتعالى.
2- ثبوت الوحي: باعتقاد صدق نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من عند الله تبارك وتعالى.
3-انتقاء ما يعارض دلالة الوحي: باعتقاد أنه حق وما دام حقا فلا يتصور أن يتعارض وحق آخر كدلالة عقلية، بل المعارضة بين الوحي والعقل والحس منتفية قطعًا.
 
والحق أن تفاصيل دلائل هذه المرتكزات الثلاثة التي ينبني عليها التسليم عقلا لأخبار الشريعة؛ مبحث فيه طول، وخصوصًا مع كثرة الشواهد المندرجة تحت كل تدليل

 

ولكن مما يمكن ذكره هنا إجمالا:

 

- أن ما يتصل ببيان ماهية الوحي وطبيعته ينبغي أن يكون مأخوذًا من الوحي ذاته باعتبار خروجه ومباينته للمعرفة البشرية، وهو وإن كان في أصله خبرًا وهو معنى مدرك بالحس والعقل لكن ما يتصل بماهيته وكيفياته وأوضاعه خارج عنهما، وما كان كذلك فلا مجال لمعرفته إلا عن طريقه، وضمان سلامة هذه المعرفة مرهون بثبوت سلامة الوحي ذاته، فمتى ما تحقق واطمأن القلب إليه كان تحصيل المعرفة بالوحي عن طريقه لمعنى معقول، وهو ما يمكن تحصيله من خلال التدليل على ثبوت حصول الوحي وصدق دعوى النبوة، مع ملاحظة مهمة أن العقل وإن لم يكن له مجال عملي صحيح في معرفة حقيقة هذا الوحي لكن له وظيفة في بيان جواز وقوع الوحي، ودفع دعاوى استحالته إضافة إلى ما ذُكر من إثبات صحته في حال وقوعه بإثبات صدق المخبر به.
 
- أما ما يتعلق بثبوت الوحي وحصوله للمعنيين (أنبياء ورسل) فطريقه الأساس طريق عقلي إذ لا يصح أن يكون مستمسك تصديق دعوى النبوة خبر مدعيه فقط، فمدّعو النبوة كذبا كثر ولا بد من أداة خارجة عن خبرهم لفرز أحوالهم وبيان موقع دعواهم من الصدق والكذب، ومن هنا كثر كلام أهل العلم في شرح دلائل النبوة لبيان صدق النبي من المتنبئ كذبًا، وخلاصة ما يذكرونه من دلائل ترجع إلى أصول ثلاثة:
 
1-أحوال النبي صلى الله عليه وسلم
2-معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
3-ما تضمنه الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
 
-فمن خلال النظر في حال النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرته وما يعلمه الناس من أحوال الكاذب والصادق، وتحري هذه المعرفة في شخص النبي، صلى الله عليه وسلم، تعرف صدقه وأن (وجهه، صلى الله عليه وسلم، ليس بوجه كذاب) (2)، ولذا فقد اتكأ النبي، صلى الله عليه وسلم، في مبتدأ دعوته العلنية على حجية هذه المعرفة، فقال لقريش وهو على الصفا: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (3)

فقد عاش بينهم أربعين سنة، ما جربوا عليه كذبة قط، حتى لقبوه بالصادق الأمين، بل إن الله تعالى أورد عين هذا الاحتجاج على قريش في قوله " قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ" وخاتمة هذه الآية تفتح أفقا لمعرفة صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلال النظر في سيرته وأحواله ومآل أمره، فقد ظل أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، في تعاظم وظهور وفلاح وعز، والله يؤيده وينصره، ويعلي ذكره وشأنه، ولهذا لما أراد هرقل الاستيثاق من شأن النبي، صلى الله عليه وسلم، وسأل أبا سفيان عنه سبر أحوال النبي وقايسها على أحوال الأنبياء والمرسلين فاستبان له أنه صادق، كما في الحديث المطول المشهور، واستكمال هذه النقطة وتوفيتها حقها غير مقصود هنا، وإنما المقصود إيضاح أن في حال النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرته ما يرشد إلى صدقه، وإذا سلم به فالتسليم لخبره موقف عقلاني منطقي.
 
-أما دلالة الوحي ذاته على صدقه وصحته، وصدق النبي، صلى الله عليه وسلم، فهي قضية مقررة عقلًا؛ فالقرآن في ذاته معجزة من أعظم المعجزات التي أوتيها النبي، صلى الله عليه وسلم، فالتحدي به وعجز العرب عن الإتيان بموجبات هذا التحدي مع ما لهم من الكفاءات اللغوية الهائلة دليل بين على صدقه وأنه من عند الله، وكذلك ما اشتمل عليه الوحي من الأخبار الحاضرة المغيبة أو الماضية أو المستقبلية مما لا يقع تحت المعرفة البشرية المحدودة ثم ظهور صدق تلك الأخبار وتحققها؛ دليل آخر من الوحي على صدقه.

وما اشتمل عليه الوحي أيضًا من المعارف والعلوم مما تتقاصر عنها المعرفة البشرية إذ ذاك بل ما لا يمكن أن يكون متحققًا؛ دليل ثالث على صدق الوحي، وهكذا ففي تفاصيل الوحي ما يدل العقل على صدقه فالتسليم له والحالة هذه واحد من مقتضيات العقل السليم. وكما سبق فليس القصد هنا استيعاب البحث في تقرير هذه المسائل وبيان تفاصيل أدلتها (4) وإنما الإشارة سريعًا إلى أن مبدأ التسليم للوحي هو قرار عقلاني واع يتخذه المؤمن عن دراية وتأسيس عقلي صحيح، وهي حقيقة مدركة بوضوح في حياة الرعيل الأول.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. من المؤلفات التي كتبت في هذا الشأن: دلائل النبوة لأبي داود السجستاني، أعلام النبوة لابن قتيبة، دلائل النبوة لإبراهيم بن إسحاق الحربي، دلائل النبوة لأبي بكر الفريابي، دلائل النبوة لابن أبي الدنيا، دلائل النبوة لإبراهيم بن حماد، تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار الهمذاني، إثبات نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، ﻷحمد بن الحسين الزيدي، دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني، وغيرها مما ذكرها المؤلف.
  2. عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة انجفل الناس إليه وقيل قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله، فجئت من الناس لأنظر إليه، ﻹلما استثبت وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وكان أول شيء تكلم به أن قال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام
  3. رواه البخاري(4770)، ومسلم(208)، والإمام أحمد في المسند (2802)
  4. ويمكن الرجوع إلى كتاب الشيخ عبد الله القرني(المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها) فإن فيه عرضا حسنا لهذه المسائل ودلائلها على نحو مفصل، مع الجواب عن جملة من الاعتراضات والاستشكالات.

 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري، ينبوع الغواية الفكرية، ص76
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
طلب المرأة المساواة | مرابط
فكر مقالات المرأة

طلب المرأة المساواة


على أن من تبين ضعف المرأة ثم ما وهبته من جمال الظاهر ورأى كيف تحتال به على مطالبها وتستخدمه في مآربها وأنها لا تعدل به شيئا من مفاخر الحياة ولو أوتيت العلم والحكمة أو رزقت الملك والعظمة علم أنه حل منها محل القوة من الرجل وأنها إنما وهبته ليكون سلاحها الذي تحفظ به حياتها في هذا الوجود لئن صدئ في هذه الأيام إفرنده أو تثلم حده فأولى بها أن تعمد إلى صقله وشحذه من أن تصول بسلاح سواه لا يدفع عنها أذى ولا يرد من مصاوليها أحدا

بقلم: عباس محمود العقاد
2129
سماع كتب السنة واكتساب اللغة | مرابط
لسانيات

سماع كتب السنة واكتساب اللغة


من أعظم ما يعين على اكتساب اللغة سماع الكلام الفصيح المعرب وما ضعفت لغتنا وكثر لحننا إلا عندما قل سماعنا له. وقد كان العربي لا يلحن لأنه لا يسمع اللحن فلما خالط الأعاجم دب إليه اللحن وسقط الاحتجاج بكلامه ولذلك احتج علماء اللغة بشعراء الحاضرة إلى منتصف القرن الثاني لأنهم اختلطوا بالأعاجم أما شعراء البادية فاحتجوا بشعرهم إلى منتصف الرابع.

بقلم: ياسر المطيري
313
أخوك أم الذئب؟ | مرابط
مقالات

أخوك أم الذئب؟


إن الشرق إذا خلص من شر النفايات الطافية على سطحه وإذا وثق بسلطان الروح السامية التي لا تذل وإذا نهج النهج لا يتهيب فما بد من أن يحوز من القوة ما يضارع قوة المدنية الأوربية المتهالكة وأن يجعل في هذه القوة من النظام الروحي النبيل ما يرد كل غائلة ويمنعها كل عدوان ويرفع الإنسانية درجات في طريقها إلى السماء. وهذه أيام فيها عبر كثيرة لمن يعتبر فإن حقائق المدنية الأوربية تستعلن كلها في هذه الرجة العظيمة التي ترجف بالعالم ساعة بعد ساعة.

بقلم: محمود شاكر
318
نتوكل على الله سبحانه | مرابط
اقتباسات وقطوف

نتوكل على الله سبحانه


لو علم المرء أن فلانا من المسؤولين هو المتكفل بمعاملته لتنفس اليقين وفرغ قلبه من الشك بتحقق مطلبه فكيف يفوت المرء على نفسه أن يكون الله خالق هذه الحاجات والخالق لسبل قضائها والخالق لموانعها هو الذي سيتكفل بأمرك إذا توكلت عليه

بقلم: إبراهيم السكران
697
ثغرات تسدها المرأة المسلمة: أعمال البر المطلقة | مرابط
تفريغات المرأة

ثغرات تسدها المرأة المسلمة: أعمال البر المطلقة


من الأمور ومن أعمال البر والخير مثلا: مساعدة من يريد الزواج في البحث عن امرأة فهي تسأل وهي التي تأتي بالعناوين والأسماء والمعلومات من العمر والدراسة.. ونحو ذلك هذه مسألة تنجح فيها المرأة نجاحا كبيرا لا يستطيع رجل أن يذهب ويقول: من عندكن من النساء وهاتين معلومات لكن المرأة يمكن أن تقوم بهذا وكانت النسوة من السلف يقمن بدور الخاطبات

بقلم: محمد صالح المنجد
379
خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج1 | مرابط
تفريغات

خصائص المحافظة على صلاة الفجر ج1


الرسول صلى الله عليه وسلم يا إخواني كان يعلم أنه يصعب علينا صلاة الصبح في موعدها لأجل هذا كان له أسلوب تربوي رائع في تحفيز المسلمين لهذه الصلاة المحورية الخطيرة التي تميز الصادقين من المنافقين فقد أعطى صلى الله عليه وسلم خصائص هامة فريدة لصلاة الصبح لترغيب المسلمين في هذه الصلاة العظيمة الهامة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة الدكتور راغب السرجاني يتحدث فيها عن هذه الخصائص

بقلم: د راغب السرجاني
870