التسليم موقف عقلاني

التسليم موقف عقلاني | مرابط

الكاتب: عبد الله بن صالح العجيري

2153 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

من الأوهام الغليظة تصور بعضهم أن التسليم تأسيس لـ "اللاعقلانية" والدوغمائية والإيمان عن عماية وجهل، وأنه في حقيقته عزل كلي للأداة العقلية في الإنسان لينفتح المجال لمحض التقليد والمتابعة من غير حجة أو دليل، والحق أن التسليم يرتكز في أساسه على معطيات علمية/عقلية، وفي عبارة الصديق رضي الله عنه، على وجازتها واختصارها، تبيان لهذا التأسيس، وتوضيحه فيما يلي:

 

مصادر معرفة الإنسانية كما هو معلوم منحصرة في قنوات ثلاث:

1-العقل
2-الحس
3-الخبر
 

صوابية المعرفة

ولكن من هذه المصادر معايير تقوّم صوابية المعرفة المتحصلة عن طريقها من بطلانها، فأصل تصويب الخبر يقوم على مرتكزين أساسيين:

1-السلامة من الكذب، وضمانته معرفة صدق المخبر
2-السلامة من الوهم، وضمانته معرفة ضبط المخبر
 
ولتحصيل المعرفة بوجود هاتين الضمانتين لا بد من توافر جملة من المعطيات تقوم في أساسها على معطيات عقلية فإذا توافرت هذه المعطيات كان التصديق بالخبر منطلقا عن تأسيس عقلي صحيح.
 
وإذا استصحبنا المعنى السابق اتضح لنا دقة أبي بكر رضي الله عنه حين قال "لئن كان قاله لقد صدق" فمعطى تصدير الخبر عائد إلى طبيعة المخبر، فمع توافر صفة:

-الصدق فيه، صلى الله عليه وسلم
-والعصمة له
 
سيحكم العقل بحق بتصديق الخبر.

 

الأدلة العقلية المفضية إلى الإيمان بالوحي

والأدلة العقلية المتوافرة أثبتت اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين المحوريتين، وعليه فالتسليم بخبره تسليم مرتكز على مبدأ عقلي صحيح، وليس قرارا اعتباطيا يتخذه المؤمن عن عصبية أو جهل أو إيمان بالخرافة والدجل. وقد أطال أهل العلم الكلام في دلائل النبوة وبيان مجالاتها وتنوعاتها (1) لإثبات نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيان وجوب متابعته بناء على دلائل محكمة.

وإذا تدبرت في جل هذه الدلائل وجدتها تدور على مقدمات عقلية صحيحة تفضي إلى الإيمان بالوحي في مجالات ثلاث:

1-حقيقة الوحي: باعتقاد مباينته للمعرفة البشرية، وأنه حاصل من عند الله تبارك وتعالى.
2- ثبوت الوحي: باعتقاد صدق نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من عند الله تبارك وتعالى.
3-انتقاء ما يعارض دلالة الوحي: باعتقاد أنه حق وما دام حقا فلا يتصور أن يتعارض وحق آخر كدلالة عقلية، بل المعارضة بين الوحي والعقل والحس منتفية قطعًا.
 
والحق أن تفاصيل دلائل هذه المرتكزات الثلاثة التي ينبني عليها التسليم عقلا لأخبار الشريعة؛ مبحث فيه طول، وخصوصًا مع كثرة الشواهد المندرجة تحت كل تدليل

 

ولكن مما يمكن ذكره هنا إجمالا:

 

- أن ما يتصل ببيان ماهية الوحي وطبيعته ينبغي أن يكون مأخوذًا من الوحي ذاته باعتبار خروجه ومباينته للمعرفة البشرية، وهو وإن كان في أصله خبرًا وهو معنى مدرك بالحس والعقل لكن ما يتصل بماهيته وكيفياته وأوضاعه خارج عنهما، وما كان كذلك فلا مجال لمعرفته إلا عن طريقه، وضمان سلامة هذه المعرفة مرهون بثبوت سلامة الوحي ذاته، فمتى ما تحقق واطمأن القلب إليه كان تحصيل المعرفة بالوحي عن طريقه لمعنى معقول، وهو ما يمكن تحصيله من خلال التدليل على ثبوت حصول الوحي وصدق دعوى النبوة، مع ملاحظة مهمة أن العقل وإن لم يكن له مجال عملي صحيح في معرفة حقيقة هذا الوحي لكن له وظيفة في بيان جواز وقوع الوحي، ودفع دعاوى استحالته إضافة إلى ما ذُكر من إثبات صحته في حال وقوعه بإثبات صدق المخبر به.
 
- أما ما يتعلق بثبوت الوحي وحصوله للمعنيين (أنبياء ورسل) فطريقه الأساس طريق عقلي إذ لا يصح أن يكون مستمسك تصديق دعوى النبوة خبر مدعيه فقط، فمدّعو النبوة كذبا كثر ولا بد من أداة خارجة عن خبرهم لفرز أحوالهم وبيان موقع دعواهم من الصدق والكذب، ومن هنا كثر كلام أهل العلم في شرح دلائل النبوة لبيان صدق النبي من المتنبئ كذبًا، وخلاصة ما يذكرونه من دلائل ترجع إلى أصول ثلاثة:
 
1-أحوال النبي صلى الله عليه وسلم
2-معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
3-ما تضمنه الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
 
-فمن خلال النظر في حال النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرته وما يعلمه الناس من أحوال الكاذب والصادق، وتحري هذه المعرفة في شخص النبي، صلى الله عليه وسلم، تعرف صدقه وأن (وجهه، صلى الله عليه وسلم، ليس بوجه كذاب) (2)، ولذا فقد اتكأ النبي، صلى الله عليه وسلم، في مبتدأ دعوته العلنية على حجية هذه المعرفة، فقال لقريش وهو على الصفا: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (3)

فقد عاش بينهم أربعين سنة، ما جربوا عليه كذبة قط، حتى لقبوه بالصادق الأمين، بل إن الله تعالى أورد عين هذا الاحتجاج على قريش في قوله " قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ" وخاتمة هذه الآية تفتح أفقا لمعرفة صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلال النظر في سيرته وأحواله ومآل أمره، فقد ظل أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، في تعاظم وظهور وفلاح وعز، والله يؤيده وينصره، ويعلي ذكره وشأنه، ولهذا لما أراد هرقل الاستيثاق من شأن النبي، صلى الله عليه وسلم، وسأل أبا سفيان عنه سبر أحوال النبي وقايسها على أحوال الأنبياء والمرسلين فاستبان له أنه صادق، كما في الحديث المطول المشهور، واستكمال هذه النقطة وتوفيتها حقها غير مقصود هنا، وإنما المقصود إيضاح أن في حال النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرته ما يرشد إلى صدقه، وإذا سلم به فالتسليم لخبره موقف عقلاني منطقي.
 
-أما دلالة الوحي ذاته على صدقه وصحته، وصدق النبي، صلى الله عليه وسلم، فهي قضية مقررة عقلًا؛ فالقرآن في ذاته معجزة من أعظم المعجزات التي أوتيها النبي، صلى الله عليه وسلم، فالتحدي به وعجز العرب عن الإتيان بموجبات هذا التحدي مع ما لهم من الكفاءات اللغوية الهائلة دليل بين على صدقه وأنه من عند الله، وكذلك ما اشتمل عليه الوحي من الأخبار الحاضرة المغيبة أو الماضية أو المستقبلية مما لا يقع تحت المعرفة البشرية المحدودة ثم ظهور صدق تلك الأخبار وتحققها؛ دليل آخر من الوحي على صدقه.

وما اشتمل عليه الوحي أيضًا من المعارف والعلوم مما تتقاصر عنها المعرفة البشرية إذ ذاك بل ما لا يمكن أن يكون متحققًا؛ دليل ثالث على صدق الوحي، وهكذا ففي تفاصيل الوحي ما يدل العقل على صدقه فالتسليم له والحالة هذه واحد من مقتضيات العقل السليم. وكما سبق فليس القصد هنا استيعاب البحث في تقرير هذه المسائل وبيان تفاصيل أدلتها (4) وإنما الإشارة سريعًا إلى أن مبدأ التسليم للوحي هو قرار عقلاني واع يتخذه المؤمن عن دراية وتأسيس عقلي صحيح، وهي حقيقة مدركة بوضوح في حياة الرعيل الأول.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. من المؤلفات التي كتبت في هذا الشأن: دلائل النبوة لأبي داود السجستاني، أعلام النبوة لابن قتيبة، دلائل النبوة لإبراهيم بن إسحاق الحربي، دلائل النبوة لأبي بكر الفريابي، دلائل النبوة لابن أبي الدنيا، دلائل النبوة لإبراهيم بن حماد، تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار الهمذاني، إثبات نبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، ﻷحمد بن الحسين الزيدي، دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني، وغيرها مما ذكرها المؤلف.
  2. عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة انجفل الناس إليه وقيل قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله، فجئت من الناس لأنظر إليه، ﻹلما استثبت وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وكان أول شيء تكلم به أن قال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام
  3. رواه البخاري(4770)، ومسلم(208)، والإمام أحمد في المسند (2802)
  4. ويمكن الرجوع إلى كتاب الشيخ عبد الله القرني(المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها) فإن فيه عرضا حسنا لهذه المسائل ودلائلها على نحو مفصل، مع الجواب عن جملة من الاعتراضات والاستشكالات.

 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري، ينبوع الغواية الفكرية، ص76
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج1


يقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئا فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئا من حقها ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة فكانوا بين إفراط وتفريط

بقلم: عمر الأشقر
791
مفهوم الصلاح وحبائل الشهوة | مرابط
المرأة

مفهوم الصلاح وحبائل الشهوة


وإني لأسمع كثيرا ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء فأطيل العجب من ذلك وإن لي قولا لا أحول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك ولم يكن ثم من مانع إلا وقع في شرك الشيطان واستهوته المعاصي واستفزه الحرص وتغوله الطمع وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته حتما مقضيا وحكما نافذا لا محيد عنه البتة

بقلم: ابن جزم
301
نصيحة للنساء | مرابط
المرأة

نصيحة للنساء


الله سبحانه وتعالى كرم المرأة ودلها إلى الصراط المستقيم وجعل لها قدوات صالحات بين لها أحكام البيت وأحكام الشريعة وبين لها مكائد النفوس ومكائد أهل الأهواء والشبهات والشهوات في إضلالها وأعظم مكيدة في زماننا تراد في المجتمعات هي المكيدة بالمرأة المكيدة الموجه إليها وذلك لعقيدتها وعفافها وفطرتها وحجابها وسترها كل هذه الأشياء المتنوعة تغزى بها المرأة لتنحرف عن طريقها ومنهجها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
356
هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث


ليس من الإنصاف في شيء أن نقول: إن ما وجد في الدين الإسلامي ووجد في اليهودية أو النصرانية أن يكون مأخوذا منها فقد توافق القرآن الكريم الذي لا شك في تواتره وصونه عن أي تحريف والتوراة والإنجيل في بعض التشريعات والأخلاقيات والقصص فهل معنى هذا أنه مأخوذ منها أعتقد أن الجواب بالنفي ومما ينبغي أن يعلم أن الشرائع السماوية مردها إلى الله سبحانه وأن العقائد والفضائل الثابتة والضروريات التي لا تختلف باختلاف الأزمان ولا باختلاف الرسالات أمور مقررة في كل دين

بقلم: محمد أبو شهبة
1557
حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه


وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ولا محاربيهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمونون عليه في الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه مكذب له

بقلم: عبد المحسن العباد
631
الأخلاق المذمومة عند طلاب العلم | مرابط
مقالات

الأخلاق المذمومة عند طلاب العلم


إن بلغه أن أحدا من العلماء أخطأ وأصاب هو فرح بخطأ غيره وكان حكمه أن يسوءه ذلك. إن مات أحد من العلماء سره موته ليحتاج الناس إلى علمه إن سئل عما لا يعلم أنف أن يقول: لا أعلم حتى يتكلف مالا يسعه في الجواب إن علم أن غيره أنفع للمسلمين منه كره حياته ولم يرشد الناس إليه إن علم أنه قال قولا فتوبع عليه وصارت له به رتبة عند من جهله ثم علم أنه أخطأ أنف أن يرجع عن خطئه فيثبت بنصر الخطأ لئلا تسقط رتبته عند المخلوقين.

بقلم: الآجري
392