إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
يقول المصنف رحمه الله: الترغيب بالخوف وفضله.
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله في الترغيب في أن يعيش المسلم خائفًا من الله تبارك وتعالى خاشيًا له، ويذكر تحته ما جاء من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان هذا الخوف من الله عز وجل.
وعلى ما ستسمعون من أحاديث كثيرة تشهد لهذا الباب، ففي ذلك دلالة قاطعة على أن المسلم كلما كان إسلامه أقوى وأتم؛ كلما كان خوفه من الله تبارك وتعالى وخشيته له أعظم، ونحن إذا نظرنا إلى بعض الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل، فضلًا عن الأحاديث التي ستأتي في هذا الباب؛ لوجدناها دائمًا وأبدًا تذكر عباد الله الأتقياء الصلحاء بالخوف من الله تبارك وتعالى، وكلما كان أحدهم أقرب إلى الله عز وجل وأعلى منزلةً عنده؛ كلما كان أتقى وأخشى لربه عز وجل، فهؤلاء رسل الله صلى الله عليهم وسلم قد وصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم: يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ [الأحزاب:39] كذلك وصف الله العلماء بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. وجاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرهط وغيرهم أنه قال: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).
هذا في البشر، وهناك وصفٌ من الله تبارك وتعالى لخلقٍ من خلقه اصطفاه على كثير من عباده ألا وهم الملائكة المقربون، وصفهم ربنا عز وجل بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] هؤلاء الملائكة الموصوفون في القرآن الكريم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] مع ذلك هم موصوفون -أيضًا- بأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فإذا كان الأمر هكذا؛ فإن الملائكة والرسل والعلماء، كل هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء يخشون الله تبارك وتعالى، وكما ذكرت آنفًا كلما كان أتقى كان أخشى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).
لذلك فمن العبث ومن الكلام الباطل المعسول أن يُنقل عن بعض المتصوفة، سواء كانوا نساءً أو رجالًا، أن أحدهم كان يقول في مناجاته لربه تبارك وتعالى: "ما عبدتك طمعًا في جنتك ولا خوفًا من نارك.." إلى آخر الخرافة المزعومة، لا يتصور من إنسان عرف الله حق معرفته ألا يخشى من ربه تبارك وتعالى، بل -كما ذكرنا- كلما كان مقربًا إلى الله كلما كان أخوف من الله وأخشى لله عز وجل، وما المقصود من مثل هذه الخرافة الصوفية إلا أن يُحمل الناس أن يعيشوا هكذا، ليس هناك خوف منهم لله يحملهم على تقواه، ولا -أيضًا- عندهم رغبة فيما عند الله يطمعهم في أن يزدادوا تقىً من الله.
الخوف من الله سبب للابتعاد عن المعاصي
فهذا الفصل ستسمعون فيه أحاديث كثيرة، فيه بيان أن المؤمن من طبيعته أنه يخشى الله، وأن هذه الخشية تكون سببًا لمغفرة ذنوبه، وأمانه من عذاب ربه عز وجل، حتى ولو حصلت منه هذه الخشية في لحظة من حياته، بينما كانت حياته كلها يحياها ويعيشها في بعد من الله تبارك وتعالى.
الحديث الأول في هذا الباب حديث صحيح، وهو قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...) فذكرهم إلى أن قال: (ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم، وتقدم بتمامه.
هذا الحديث حديث معروف الصحة، ومخرج في الصحيحين، وكان قد تقدم معنا في موطن واحد أو أكثر في كتاب الزكاة؛ لأن فيه جملة: (ورجل تصدق بيمينه فأخفاها...) إلى آخره، فهناك ساق المؤلف هذا الحديث بتمامه، والآن اقتبس منه هذه الجملة التي يترجم بها في هذا الباب الذي ذكرناه، ذلك أن من أولئك السبعة رجلًا ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجلًا -أيضًا- دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، فذاك الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه إنما بكى خوفًا من الله، وهذا الرجل الذي دعته المرأة الجميلة ذات المنصب، لما دعته قال: إني أخاف الله، فخوفه من الله عز وجل عصمه، وخوف ذاك من الله عز وجل حينما ذكره فبكى خشيةً منه، جعل كلًا منهما من أولئك السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
والحديث الذي بعده حديث ضعيف، أما الحديث الثالث فهو صحيح أيضًا وكان قد تقدم معنا في أول هذا الكتاب، فذاك الحديث هو من حديث ابن عمر، وأما هذا فهو من حديث أبي هريرة، ومخرجه غير مخرج ذاك، فستسمعون بعض الاختلاف بين هذا وذاك، فلا يشكلن الأمر عليكم؛ لأن الرواة يزيد بعضهم على بعض، يحفظ هذا شيئًا لا يحفظه ذاك، والعكس بالعكس.
يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم يرتادون لأهلهم).
شرح حديث الثلاثة النفر الذين سدت عليهم الصخرة فم الغار
أول جملة نفاجأ بها في هذه الرواية هذه الزيادة: ( يرتادون لأهلهم )، لأن الحديث الذي سبقت الإشارة إليه وكان تقدم معنا في أول الكتاب، ليس فيه هذه الجملة.. (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يتمشون إذ أصابهم مطر....) إلى آخر الحديث، لم يذكر في ذاك الحديث حديث ابن عمر ما الذي أخرج هؤلاء في الطريق وفي الصحراء حتى أصابهم المطر فلجئوا إلى الغار، وهنا يبين لنا السبب فيقول: ( يرتادون لأهلهم ) أي: يطلبون الرزق والمعاش، يضربون في الأرض كما أمر الله عز وجل، فهذا هو الذي خرج بهم ذلك المخرج... (فأصابتهم السماء، فلجئوا إلى جبل فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ووقع الحجر) هذا أيضًا تعبير لم يرد هناك: (عفا الأثر، ووقع الحجر، ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم.
فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت امرأة تعجبني فطلبتها فأبت عليَّ، فجعلت لها جعلًا، فلما قربت نفسها تركتها، فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر، وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان، فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر، وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرًا يومًا، فعمل إلى نصف النهار، فأعطيته أجره فسخطه ولم يأخذه، فوفرتها عليه حتى صارت ذلك المال، ثم جاء يطلب أجره.
فقلت: خذ هذا كله، ولو شئت لم أعطه إلا أجره الأول، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال الحجر وخرجوا يتماشون) رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمر، هكذا في نسختي، فمن كانت عنده كذلك فليصححها وليجعلها من حديث ابن عمر، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر بنحوه، وتقدم -أي: في أول الكتاب- في الإخلاص في العمل لله عز وجل.
نعود إلى الحديث ونتفقه في بعض فقراته ونشرح ما قد يغمض منها..
(خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم) أي: من أهل الكتاب (يرتادون لأهلهم فأصابتهم السماء) هذا من أسلوب العرب، أن يطلق السماء على اعتبار أنها موضع المطر على المطر (فأصابتهم السماء) أي: أصابهم مطر، على حد قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قومٍ رعيناه وإن كانوا غضابا
إذا نزل السماء بأرض قوم، أي: قامت الساعة، وإنما المقصود بالسماء هنا المطر.
فأصابتهم السماء، أي: المطر.. فلجئوا إلى جبل، أي: إلى غار في جبل، هذا من الاختصار الذي جاء في هذا الحديث، وبيانه في حديث ابن عمر المشار إليه والمتقدم في أول الكتاب.
(فلجئوا إلى جبل فوقعت عليهم صخرة) أي: سدت عليهم الغار كما في ذاك الحديث: (فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر) أي: بسبب نزول الأمطار لو فقدهم أهلهم لم يستطيعوا أن يتتبعوا أثرهم؛ لأن الأثر انمحى بسبب الأمطار والسيول، فكأن أحدهم يقول: إننا انقطعنا عن الدنيا، فلا أحد يعرف أين صرنا.. (عفا الأثر ووقع الحجر) أي: الصخرة التي سدت عليهم الغار.. (ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم) ولا يعلم بمكانكم هنا إلا الله، وأنا مررت عليها ولم أنتبه لها، وهكذا يقع فيه القارئ أو المصحح؛ لأنه يقرأ أحيانًا من ذهنه.