الليبرالية الجنسية

الليبرالية الجنسية | مرابط

الكاتب: د. البشير عصام المراكشي

714 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن ترويج القيم المتعية والذي تعزز بعد بحركات التحرير الجنسي، قلب الأخلاق الجنسية التقليدية رأسًا على عقب. خلال نصف القرن، لم يعد الجنس مرتبطًا بالشر والخطأ، ولم تعد للثقافة التي تقمع الحواس أية قيمة، وصار "إيروس"(1) من أهم التعبيرات في عالم ما بعد الواجب. خلال بضعة عقود، تحطمت المبادئ المتزمتة للأخلاق الجنسية، وما كان يعد عملًا شائنًا اكتسب مشروعيته بشكل أو بآخر، وتحولت الإلزامات الصارمة إلى خيارات حرة، وعُوِّض الجنس -الإثم بالجنس- المتعة. من الذي لا يزال يعد العفة والعذرية ضمن الواجبات الأخلاقية؟ من يستنكر الجنس الحر عند النساء والشباب؟ ومن ينبذ العادة السرية؟ حتى الانحرافات الجنسية لم تعد ملعونة منبوذة: صارت هذه الانحرافات تعرض نفسها في الصحافة والإعلانات الصغيرة، وصار السادو-مازوشيون يُدعَون للحديث في الاستديوهات التلفزية، وفي الدنمارك يعترف القانون بزواج المثليين، وفي فرنسا ثلاثة أربعا الشبان ما بين 15 و34 سنة لا يرون المثلية تستحق الشجب والإنكار.

 

في الوقت نفسه، صار الجنس موضوعًا للاستهلاك الجماهيري: يعلن المينيتل(2) عن وعود وردية في إطاراته الإشهارية، وتؤجَّر الأشرطة الإباحية بحرية تامة في محلات الفديو. تحولت العروض الإباحية من الدناءة الأخلاقية إلى الشيوع دون عواقب كبيرة: لم تعد تُتهم بأنها خطر على النظام الاجتماعي، فاليوم صارت بعض الممثلات الإباحيات يُنتخبن في البرلمان الإيطالي. لقد حررت الثقافة المتعية الفردانية الإيروس من فكرة الإثم، وأعطت المشروعية لاستراق النظر الجماعي، وعُوِّضت الأجنحة المغلقة الخاصة بالكتب الفاحشة في المكتبات الوطنية بالعلامات المضيئة للمحلات الإباحية، وفي كل مكان يتقدم الحق في المتعة على القواعد القمعية ويسعى إلى إعطاء المشروعية للتصرفات التي كانت تُعد قديمًا شائنة. نزع القيمة اجتماعيا عن الوصفات المحتشمة، والترويج المتلازم للقيم الليبرالية في الحياة الشهوانية، هكذا يكون الفعل ما بعد التخليقي.

 

إن حركة التحرر تؤثر في جميع دوائر الحياة الجنسية، ولكنها أعمق في مجال التغاير الجنسي الراشد. هنا: كل أحد -رجلا كان أو امرأة- يمكنه أن يفعل ما يحلو له دون حظر مجتمعي، ولا توجد واجبات متحتمة تتحكم في الممارسات الجنسية، لا شيء في مجال الجنس يعد شرًا ما دام ذلك بالتراضي بين الطرفين. في صورته المتطرفة، ينعت المسار ما بعد التخليقي هذا العمل باستقلالية الجنس عن الأخلاق، لم يعد الإيروس يجد مشروعيته في احترام القواعد المثالية أو العاطفية أو التقليدية، ولكن في ذاته، بما أنه أداة للسعادة والتوازن الفردي. إن الجنس ما بعد التخليقي يعرّف بالاعتبار الوظيفي والشهواني والنفسي، ولم يعد مما يراقب ويُقمع ويهذّب، ولكنه يعبر عن نفسه دون قيد ولا منع بشرط واحد هو عدم إيذاء الآخرين. في المسار التاريخي للتمييز بين الجنس والأخلاق، قطع الإيروس الروابط التي كانت تجمعه بالرذيلة، ولكتسب في الجوهر قيمة أخلاقية بسبب دوره في التوازن والازدهار الشخصي للأفراد

 

إن هذا الترويج للمتعة الشهوانية مظهر نموذجي لحركية أزمنة المساواة الديمقراطية. نحن نعلم أن الحداثيين -منذ عصر الأنوار- رفعوا من درجة احترام السعادة الدنيوية إضافة إلى مختلف متع الحياة. لكن المتعة، ما إن تحررت من مبدأ الإثم، حتى وجدت نفسها مؤطّرة في فكر أخلاقي أعاد إدخال مجموعة من المراتب وأنواع الفصل والقيم غير المتشابهة. في القرن الثامن عشر، حاشا بعض الاستثناءات (لامتري)، (ساد)، كانت المتع مرتّبة بشكل هرمي، ومتع العقل والقلب في أعلى الهرم: إذا كانت الأولى تمنح السكينة واللطف، فوحدها الأخرى تجعل الإنسان سعيدًا وتمكّنه من تحقيق ذاته، وهما معا يتجاوزان ويكمّلان المتع الأخرى جميعها.

 

استمر القرن التاسع عشر في عملية تخليق المتع وترتيبها: توجد المتع الجنسية في أسفل سلّم الكرامة، هي متع فقيرة وسريعة، وتسبب الانحطاط للذي يتعاطاها بحماس وإفراط، كما أنها خطيرة بالنسبة إلى العقل والصحة البدنية. لم يصمد هذا التمييز وعدم المساواة أمام المسار ما بعد التخليقي: في عصرنا، تقريبًا جميع المتع -ومنها الجنسية- لها قيمة متساوية، ولم نعد ننظر إلى مسألة المتع بألفاظ الأعلى والأسفل. لم يتبق سوى الاختلافات الراجعة إلى الأذواق والتفضيلات الذاتية التي لا تدخ في مرتبة معينة ضمن أي نظام ترتيبي مغلق. ولكن إذا كانت المتع المختلفة لا تزال تحتفظ بداهة بخصوصيتها، فإنها حصلت على مشروعية متساوية، وحق متساو في التعبير والخبر والاعتبار. استطاع الإيروس -متأخرًا، ولكن بشكل جذري- أن يسجل تآكل المفارقات الهرمية والذي يشكل عصر المساواة الديمقراطية.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. إله الحب والرغبة الجنسية في الميثولوجيا اليونانية
  2. أداة اتصال مشهورة في فرنسا، بدأت منذ أوائل الثمانينات، وتعد سلفا للشبكة العنكبوتية

 

المصدر:

د. البشير عصام المراكشي، أفول الواجب، ص66

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
العقل وإدراك الحقائق | مرابط
فكر تفريغات

العقل وإدراك الحقائق


إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه لأنها نفسه ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها فليس لها وزن ولا لون ولا حجم ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها

بقلم: عمر الأشقر
410
محاورة دينية اجتماعية الجزء الأول | مرابط
مناظرات مقالات الإلحاد

محاورة دينية اجتماعية الجزء الأول


محاورة بين رجلين كانا متصاحبين مسلمين يدينان الدين الحق ويشتغلان في طلب العلم فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة ثم التقيا فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه فسأله صاحبه عن ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون فحاوره صاحبه لعله يرجع فأعيته الحيلة في ذلك وعرف أن ذلك علة عظيمة ومرض يفتقر إلى استئصال الداء ومعالجته بأنفع الدواء وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حولته والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة وإلى فحصها وتمحيصها و

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
1853
مآسي الروهنجيين | مرابط
توثيقات

مآسي الروهنجيين


الرجل الروهنجي لا يبكي على مال كان معه ثم ضيعه لا يبكي على منزل أتى الحقد البوذي عليه فاقتلعه إنه يبكي أسفا على أمة بلغت المليار ولم تردع عنه بطش الكفار يبكي على الإنسانية التي ماتت تحت ظروف غامضة الروهنجيا أكثر الأقليات تعرضا للاضطهاد في العالم هذه الجملة وحدها تكفي لإدراك كم تعاني هذه الأقلية المسلمة من أهوال

بقلم: عبد الله عبد القادر أحمد
766
كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟


قد يقول قائل: إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام فكيف تخبر النشرة الجوية عن جو الغد أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل: هل هو ذكر أم أنثى؟

بقلم: علي الطنطاوي
311
التوجه الأخلاقي في علم الحديث | مرابط
تعزيز اليقين

التوجه الأخلاقي في علم الحديث


لا يستطيع من يدرس علم الحديث ألا يلحظ بوضوح التوجه الأخلاقي في بنية هذا العلم ليس مرتكزا يدور حول الصفات الشخصية للمتعلم والدارس والباحث فقط كما هو العصر الحاضر أي متعلق بالأمانة والصدق ونحو ذلك إنما مرتكزا للنشاط العلمي أيضا..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
491
الدنيا تغيرت الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الدنيا تغيرت الجزء الأول


الدنيا تغيرت توظف هذه المقولة للاعتراض على بعض المقررات الشرعية بذريعة أن النصوص الشرعية ثابتة والواقع متغير ولذا لا يمكن أن نجمد على الثابت وقد يسعى بعضهم إلى مقاربة تظهره بمظهر المعظم للشريعة فهو يتحدث عن حجم استجابة الشريعة لمتغيرات الواقع وتقلباته فهي ليست مجرد نصوص جامدة صلبة لا تقبل الزحزحة أو التطوير بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه والذي يؤول في الحقيقة إلى جعل الواقع حكما على الوحي وفي المقال فحص لهذه الشبهة ورد عليها

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
1354