
إن ترويج القيم المتعية والذي تعزز بعد بحركات التحرير الجنسي، قلب الأخلاق الجنسية التقليدية رأسًا على عقب. خلال نصف القرن، لم يعد الجنس مرتبطًا بالشر والخطأ، ولم تعد للثقافة التي تقمع الحواس أية قيمة، وصار "إيروس"(1) من أهم التعبيرات في عالم ما بعد الواجب. خلال بضعة عقود، تحطمت المبادئ المتزمتة للأخلاق الجنسية، وما كان يعد عملًا شائنًا اكتسب مشروعيته بشكل أو بآخر، وتحولت الإلزامات الصارمة إلى خيارات حرة، وعُوِّض الجنس -الإثم بالجنس- المتعة. من الذي لا يزال يعد العفة والعذرية ضمن الواجبات الأخلاقية؟ من يستنكر الجنس الحر عند النساء والشباب؟ ومن ينبذ العادة السرية؟ حتى الانحرافات الجنسية لم تعد ملعونة منبوذة: صارت هذه الانحرافات تعرض نفسها في الصحافة والإعلانات الصغيرة، وصار السادو-مازوشيون يُدعَون للحديث في الاستديوهات التلفزية، وفي الدنمارك يعترف القانون بزواج المثليين، وفي فرنسا ثلاثة أربعا الشبان ما بين 15 و34 سنة لا يرون المثلية تستحق الشجب والإنكار.
في الوقت نفسه، صار الجنس موضوعًا للاستهلاك الجماهيري: يعلن المينيتل(2) عن وعود وردية في إطاراته الإشهارية، وتؤجَّر الأشرطة الإباحية بحرية تامة في محلات الفديو. تحولت العروض الإباحية من الدناءة الأخلاقية إلى الشيوع دون عواقب كبيرة: لم تعد تُتهم بأنها خطر على النظام الاجتماعي، فاليوم صارت بعض الممثلات الإباحيات يُنتخبن في البرلمان الإيطالي. لقد حررت الثقافة المتعية الفردانية الإيروس من فكرة الإثم، وأعطت المشروعية لاستراق النظر الجماعي، وعُوِّضت الأجنحة المغلقة الخاصة بالكتب الفاحشة في المكتبات الوطنية بالعلامات المضيئة للمحلات الإباحية، وفي كل مكان يتقدم الحق في المتعة على القواعد القمعية ويسعى إلى إعطاء المشروعية للتصرفات التي كانت تُعد قديمًا شائنة. نزع القيمة اجتماعيا عن الوصفات المحتشمة، والترويج المتلازم للقيم الليبرالية في الحياة الشهوانية، هكذا يكون الفعل ما بعد التخليقي.
إن حركة التحرر تؤثر في جميع دوائر الحياة الجنسية، ولكنها أعمق في مجال التغاير الجنسي الراشد. هنا: كل أحد -رجلا كان أو امرأة- يمكنه أن يفعل ما يحلو له دون حظر مجتمعي، ولا توجد واجبات متحتمة تتحكم في الممارسات الجنسية، لا شيء في مجال الجنس يعد شرًا ما دام ذلك بالتراضي بين الطرفين. في صورته المتطرفة، ينعت المسار ما بعد التخليقي هذا العمل باستقلالية الجنس عن الأخلاق، لم يعد الإيروس يجد مشروعيته في احترام القواعد المثالية أو العاطفية أو التقليدية، ولكن في ذاته، بما أنه أداة للسعادة والتوازن الفردي. إن الجنس ما بعد التخليقي يعرّف بالاعتبار الوظيفي والشهواني والنفسي، ولم يعد مما يراقب ويُقمع ويهذّب، ولكنه يعبر عن نفسه دون قيد ولا منع بشرط واحد هو عدم إيذاء الآخرين. في المسار التاريخي للتمييز بين الجنس والأخلاق، قطع الإيروس الروابط التي كانت تجمعه بالرذيلة، ولكتسب في الجوهر قيمة أخلاقية بسبب دوره في التوازن والازدهار الشخصي للأفراد
إن هذا الترويج للمتعة الشهوانية مظهر نموذجي لحركية أزمنة المساواة الديمقراطية. نحن نعلم أن الحداثيين -منذ عصر الأنوار- رفعوا من درجة احترام السعادة الدنيوية إضافة إلى مختلف متع الحياة. لكن المتعة، ما إن تحررت من مبدأ الإثم، حتى وجدت نفسها مؤطّرة في فكر أخلاقي أعاد إدخال مجموعة من المراتب وأنواع الفصل والقيم غير المتشابهة. في القرن الثامن عشر، حاشا بعض الاستثناءات (لامتري)، (ساد)، كانت المتع مرتّبة بشكل هرمي، ومتع العقل والقلب في أعلى الهرم: إذا كانت الأولى تمنح السكينة واللطف، فوحدها الأخرى تجعل الإنسان سعيدًا وتمكّنه من تحقيق ذاته، وهما معا يتجاوزان ويكمّلان المتع الأخرى جميعها.
استمر القرن التاسع عشر في عملية تخليق المتع وترتيبها: توجد المتع الجنسية في أسفل سلّم الكرامة، هي متع فقيرة وسريعة، وتسبب الانحطاط للذي يتعاطاها بحماس وإفراط، كما أنها خطيرة بالنسبة إلى العقل والصحة البدنية. لم يصمد هذا التمييز وعدم المساواة أمام المسار ما بعد التخليقي: في عصرنا، تقريبًا جميع المتع -ومنها الجنسية- لها قيمة متساوية، ولم نعد ننظر إلى مسألة المتع بألفاظ الأعلى والأسفل. لم يتبق سوى الاختلافات الراجعة إلى الأذواق والتفضيلات الذاتية التي لا تدخ في مرتبة معينة ضمن أي نظام ترتيبي مغلق. ولكن إذا كانت المتع المختلفة لا تزال تحتفظ بداهة بخصوصيتها، فإنها حصلت على مشروعية متساوية، وحق متساو في التعبير والخبر والاعتبار. استطاع الإيروس -متأخرًا، ولكن بشكل جذري- أن يسجل تآكل المفارقات الهرمية والذي يشكل عصر المساواة الديمقراطية.
الإشارات المرجعية:
- إله الحب والرغبة الجنسية في الميثولوجيا اليونانية
- أداة اتصال مشهورة في فرنسا، بدأت منذ أوائل الثمانينات، وتعد سلفا للشبكة العنكبوتية
المصدر:
د. البشير عصام المراكشي، أفول الواجب، ص66