الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1489 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نظرة عامة على التيار الليبرالي

يلحظ المراقب للحالة الفكرية في الداخل السعودي نشاطا مكثفا للتيار الليبرالي، فقد أخد بكل ما أوتيه من قوة يعرض نفسه للناس في محافل كثيرة، ويبدو بأصوات متعددة، ويظهر في أشكال مختلفة، باحثا بكل ذلك عن موطئ قدم يبني عليه مشروعه الفكري والاجتماعي.
 
وقد تناول عدد من المثقفين مخرجات التيار الليبرالي بالتوصيف والتمحيص والنقد، وجاء هذا المقال ليتناوله من جهة معرفية بحتة، وليحاكمه إلى الشروط التي يجب توفرها في كل مشروع ناضج منتِج، وليقارنه بالمشاريع التي استطاعت أن تقدم للمجتمعات حلولا حقيقية تخرجها مما تعانيه من أزمات، وتعيشه من إشكاليات.
 
وإذا حاول المراقب أن يتعاطى مع التيار اللبيرالي السعودي بهدوء وأن يتعامل مع منتجه الفكري والثقافي بمهنية في التحليل وإتقان في التوصيف.. ليتعرف على مقدار ما يمتلكه من مؤهلات معرفية وفكرية وسلوكية تؤهله للعيش والنمو في الحالة السعودية.. سيخلص منذ المرحلة الأولى من التحليل إلى نتيجة مفادها: أن التيار الليبرالي يعاني من أعراض مرضية حادة تحول بينه وبين أن يكون مشروعا رائدا أو مخلصا أو ملبيا لحاجيات العقل الواعي الذي يميل إلى الانضباط في الاستدلال والعمق في التحليل والاتساق مع المبادئ واحترام القيم وتعظيم التمسك بها.
 
فالمراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي وسار في جنباته ووقف على أبرز محطاته التي برز فيها للعيان، وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية، تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي، وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية.
 
وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة، أزمة في المصطلح، وأزمة في الخلفيات الفلسفية، وأزمة في السلوكيات اليومية، وأزمة في الالتزام بالقيم، وأزمة في الاتساق مع المبادئ، وأزمة في الاطراد، وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطعيات الشريعة الإسلامية.
 
وقد استفحلت تلك الأعراض حتى وصلت إلى حالة مهلكة خرجت عن السيطرة، وتسببت في إنهاك جسده ووصوله إلى حالة مرضية خطيرة، وأضحت تلك الأعراض معوقات حقيقية للحيلولة دون نموه بشكل صحي.
وحتى لا تكون هذه النتيجة مخالفة للواقع، أو متصفة بالاستعجال والتهور، أوالتسرع في استخلاص النتائج، فإنا سنبرز أعقد تلك الأزمات التي اتصف بها التيار الليبرالي، وتسببت في تشوه صورته وتعرقل مسيرته، وسنمارس معها التحليل المنبسط والتفكيك المسترسل والهادئ حتى نتحقق من صدق تلك النتيجة.

 

الأزمة الأولى: إشكالية التأسيس:

تبدى التيار الليبرالي وهو يحمل اسما نشأ في بيئة مختلفة وتربى في محاضن فكرية مغايرة، ومع هذا فهو يعاني في أصله من اضطراب وقلق في انضباط مفهومه، ومصاب بغموض شديد في تحديد مقصوده، ومشبع بمضامين فكرية وفلسفية تتقاطع مع الإسلام تقاطعا ظاهرا.
 
فليس خافيا على أحد من المثقفين أن الليبرالية نشأت أول ما نشأت في الفكر الغربي تحت ظروف فكرية واجتماعية محددة وفي أحوال دينية خاصة، وقد تضمنت في حالتها الغربية مبادئ أساسية لا تنفصل عنها، كمبدأ الحرية المطلقة ومبدأ الفردية ومبدأ العقلانية، حتى غدت من المتلازمات في ذهنية القارئ.
 
وهي بهذه المبادئ تتضمن القول بنسبية الحقيقة وتدعو إلى العلمانية وفصل الدين عن الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها، وتقرر المساواة بين الأديان وحرية التنقل بينها، وتسمح بحرية مزاولة المحرمات القطعية في الشريعة، وتقطع الأخلاق والمبادئ عن الأساسات المرجعية لها سواء الدينية أو غيرها، وتعتقد أن الحرية المطلقة هي المبدأ والمنتهى والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان.
 
ولما كانت الليبرالية الغربية بهذه الصورة حدث انفصام نكد في التيار الليبرالي السعودي، فقد انقسم في موقفه من حالة الليبرالية الغربية إلى قسمين ظاهرين:
 
القسم الأول: من لم يبد الإنكار لتلك المضامين، وقرر ما تقوله الليبرالية الغربية من أنها الانفلات المطلق والحرية الكاملة،والتحرر من كل قيد، وكرر بعض منتجاتها، كالقول بنسبية الحقيقة وتاريخية الأحكام الشرعية، والانفتاح الكلي لدلالات النصوص وقابليتها لكل التأويلات.
وفي ضمن هذا القسم ظهرت لنا الليبرالية في مظاهر شاذة جدا، ومقالات شنيعة، وصلت إلى درجة إنكار وجود الإله، والاستخفاف بالنبي والاستهزاء الفاضح بالإسلام ووصفه بكل ذميمه، كل هذا ظهر تحت مسمى "شبكة الليبرالية السعودية".
 
القسم الثاني: من ادعى الخصوصية السعودية في مفهوم الليبرالية، وأخذ يقول بأن الليبرالية السعودية تتميز عن غيرها في كل شيء، حتى في المفهوم نفسه، ورفعوا شعار "الليبرالية السعودية ليس كمثلها ليبرالية".
 
فقد أدرك هذا القسم فضاعة ما تؤدي إليه الليبرالية في نسختها الغربية الأصلية من مناقضة للإسلام وأصوله، فاضطر إلى أن يمارس نوعا من التهذيب ويجري عمليات تجميلية عديدة؛ حتى يتخلص من الموروث الغربي لها، ويتوصل إلى نسخة مخففة جدا، فأبقى على المبادئ الأساسية لليبرالية، وأخذ يبحث عما يمكن أن يوافقها في النصوص الشرعية، وغدونا نسمع بأن الليبرالية تعد من صميم الإسلام؛ لأن الإسلام يحفظ للفرد حريته ويحترم له علقه.
 
وهذه العمليات التجميلية للمنتجات الغربية ليست جديدة على الساحة العربية، فقد مورست من قبل في الدعوة إلى الحداثة والدعوة إلى البنيوية وغيرها من المناهج النقدية الغربية، وقوبلت بإنكار شديد من قبَل عدد من كبار المفكرين العرب، وعدوا ذلك تشويها وتحريفا مغلفا.
 
وها هو الحال يتكرر في الليبرالية السعودية، فيبدوا أن عمليات التجميل لم ترض كثيرا من كبار المثقفين، فأنكروا دعوى الخصوص السعودية ووصفوها بالخدعة والأكذوبة، ووصفوا من مارسها بأنهم أدعياء ومتسولون.
 
وقد أبدى بعض المراقبين تحفظا من جهة أخرى، وهي أن الليبرالية السعودية ادعت الخصوصية، ولم تبين لنا معالم تلك الخصوصية ولا الحواجز الفاصلة بينها وبين النسخة الأصلية، ولا القيم التي تقوم عليها ولا الأسس الفكرية التي تستند إليها، وإنما غاية ما ذكروه ممارسات يومية مشتتة يجمعها وصف واحد وهو المضادة للتوجه الشرعي في السعودية.
فغدت الليبرالية السعودية بدون أسوار ولا أبواب يدخل فيها كل من يريد.
 
وبهذا كله ازدادت الليبرالية غموضا إلى غموضها وقلقا إلى قلقها واضطرابا إلى اضطرابها، مما يؤكد مدى الأزمة التي تعاني منها في بناء مشروعها وعمق الإشكالية التأسيسية التي أصيبت بها منذ اللحظة الأولى من ولادتها، وهذا كله كانت له أبعاد كثيرة في كيفية توصيفها وفي منهجية تصنيفها.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
معرفة الحق أولا أم الرد على الشبهات؟ | مرابط
فكر

معرفة الحق أولا أم الرد على الشبهات؟


معرفة الحق بدلائله وبراهينه حتى يطمئن إليه القلب وتسكن إليه النفس مقدم على معرفة ما قد يعارضه من الشبهات وكيف يكون الرد عليها إذ لا يمكن دفع الباطل إلا بما تدل براهين الحق على بطلانه ومن عكس الأمر فأشغل نفسه بالشبهات قبل أن يكون قد حصل له التمكن من اليقين بالحق فيخشى عليه أن يضطرب حاله حتى لا يعود يدري ما الحق ولا كيف يدفع ما وقع له من الشبهات.

بقلم: عبد الله القرني
390
كثرة الجدال والمراء والخصام | مرابط
اقتباسات وقطوف

كثرة الجدال والمراء والخصام


ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضا ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام وإنما أحدث ذلك بعدهم. قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبده شرا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل.

بقلم: ابن رجب الحنبلي
301
ضغط اللحظة الراهنة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

ضغط اللحظة الراهنة


كان القلق ناتجا من هبوب موجة استنكارات عنيفة من المثقفين الغربيين عن حال المعجزات التي ما عادت جذابة للعقل الغربي فهي لديهم أقرب لفكر الخرافات والأساطير التي تجاوزها الزمان فما عادت مستساغة في زمن تأليه العقل وتقديس الفكر المادي التجريبي غدت معه المعجزات مادة تندر واستهجان من رجالات الغرب هذا المزاج الغربي صاحبه حال إلحاد وجحود عن الدين لدى أوساط كثير من المثقفين المسلمين بما عزز في وعي كثير من المؤلفين ضرورة تقديم خطاب عقلاني مناسب يحفظون فيه الدين الإسلامي من سياط النقد الغربي ويحمون شباب...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2019
معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة | مرابط
اقتباسات وقطوف

معارضة الوحي بالعقل: ميراث الشيخ أبي مرة


مقتطف من كتاب الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية يدور حول معارضة الوحي بالعقل ويقف بنا أمام القياس العقلي المركب في قول إبليس أنا خير منه والفاضل لا يسجد للمفضول والاحتجاج بأنه مخلوق من نار بينما آدم مخلوق من طين أي من خلق من نار خير ممن خلق من طين

بقلم: ابن القيم
796
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج1 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج1


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
982
في التحذير من فتن إبليس ومكايده | مرابط
اقتباسات وقطوف

في التحذير من فتن إبليس ومكايده


مقتطف لابن الجوزي من كتاب تلبيس إبليس يحذر فيه أهل الإسلام من مكائد إبليس وفتنته ويشير إلى طبيعة الإنسان منذ خلقه حيث ركب فيه الهوى والشهوة وبيده أن يختار طريق الهدى أو طريق الضلال بيده أن يجلب ما فيه نفعه وصلاحه أو ينساق وراء شهواته وحبائل إبليس

بقلم: ابن الجوزي
1663