ثانيًا البطريركية والقمع الذكوري
أ- البطريركية:
تتكون البطريركية من كلمتين يونانيتين، تعنيان مجتمعتين (حكم الأب) وهو من المصطلحات التي تروج في حقلي الدراسة الإنسانية (الأنثربولوجيا) والدراسات النسوية، ويبدو أن هنالك فرقًا بين الاستخدام ودلالة الاستخدام في الحقلين وإن تداخلا في بعض المواضع. أما مفهوم البطريركية لدى الأنثربولوجيا فهو يعني سيادة الأب وسيطرته على نظام الأسرة وقد يمتد إلى القبيلة، وفي البيئات البداية قد تكون هذه السيطرة للأم وهو ما يسمى بالنظام الأمومي وهو المقابل للبطريركية.
والنسوية انطلقت من المفهوم الأنثربولوجي ولكنها وظفته على حقيقته وتأولته مجازا، تقول الباحثة خديجة العزيزي "والبطريركية لغة تعنى الأب باعتباره قائد الأسرة أو القبيلة، ومجازا راعي الكنيسة. وقد عزت المفكرات مصدر البطريركية لحقل الأيديولوجيا الذي اعتبرنه نظاما يسهل هيمنة الرجل على النساء، واقترحن ضرورة إعادة استخدام مفهوم البطريركية للإشارة إلى الحكم الأبوي الذي يمارسه الزوج على زوجته وعلى أبنائه على أي فرد من أفراد أسرته التي يعيلها.
وصرحت ميشيل بارت بأن مفهوم البطريركية له أبعاد كثيرة تشمل كل أشكال هيمنة الرجال على النساء.. وترى كيت ميلليت أن النظام الأبوي كثف من سيطرة الرجال على النساء وسمح بالقمع الأنثوي، بل تعامل الأنثى في النظام الأبوي بوصفها أقل من الرجل وبالتالي يحجر على النساء ويلزمهن قسرًا على الحياة المنزلية والأسرية.
ولعله مما يؤكد أن البطريركية هي نظام أبوي وليس المقصود بها الأب الرجل أي رب الأسرة فقط، أن المصطلح له ظلاله الدينية المعروفة فالبطريركية (بطاركة أو بطارقة هي كلمة يونانية مكونة من شطرين، ترجمتها الحرفية "الأب الرئيس") ومن حيث المعنى فهي تشير إلى من يمارس السلطة بوصفه الأب، على امتداد الأسرة.
ولذلك فإن النظام المعتمد على سلطة الأب، يدعى النظام البطريركي، أما في المسيحية، فتتخذ الكلمة معنى رئيس الأساقفة في الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويدعى مكتب البطريرك البطريركية. أما المؤرخون العرب فقد اصطلحوا على الكلمة لفظ بطريق.
فرفض النسويات للبطريركية هو رفض للسلطة الدينية والتي كان يمارسها البطارقة بالنيابة عن الأب والذي يعتقد النصارى أنه الله -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا- والابن عيسى كما لا يخفى من عقيدة النصارى (ومن العجيب أن الذي دس في فكر الكنيسة فكرة الأبوة والبنوة بين الله والمسيح بالمعنى المفهوم عندنا -أي بمعنى التوالد- هو الراهب المصري الأعزب أوريغنوس وكان... خدم الرهبان بعد أن تأثر بالأفكار السيئة للفلسفة اليونانية)
ومما يشار إليه أن البازعي أشار إلى سعي النسويات إلى كسر نظام الأبوية بالبحث عن أنظمة أمومية بديلة، فظهرت أبحاث تشير إلى أدوار الآلهات وذلك للسعي إلى تحطيم النظام الأبوي عبر ثقافة أسطورية بديلة.
وللأسف أن البطريركية بهذا المفهوم الوثني وصل إلى الباحثات العرب ومن أبرزهن فاطمة المرنيسي، حيث تقول معبرة عن أسفها لتحطيم الآلهة "العزى": كان لا بد من تحطيم العزى ومسحها من الذاكرة، وهكذا ينبغي ألا يظهر المؤنث بعد الآن في حقل السلطة، وسيصبح زمن السلطة النسائية زمن الميت، إنه زمن الصفر"
وممن يستخدم الأبوية مقرونا بالسلطة الدينية د. رجاء بن سلامة (لكن وضعية النساء هذه الأقلية التي ليست بأقلية، لا يمكن أن نستوفي الحديث عنها دون التعرض للمؤسسات الأبوية الدينية، التي تسهر بكل ثقلها على أن تبقى موضع تبادل بين الرجال)
ب- القمع الذكوري:
ظلت المرأة تنظر للرجل على أنه نِدًٌ و"آخر" والآخر من المصطلحات التي برزت في دراسات الخطاب سواء خلال الهيمنة الاستعمارية أو ما بعدها، ويراد به إقصاء كل ما لا ينتمي إلى نظام فرد أو جماعة أو مؤسسة سواء كان النظام قيمًا: اجتماعية، أو أخلاقية، أو سياسية، أو ثقافية فهو في مقابل الذات (غيري) أو كل ما يهدد الوحدة والصفاء وبهذا المفهوم شاع المصطلح في النقد النسوي وكان الرجل هو الآخر لدى النسويات.
رفض المرأة للرجل ورغبتها أن تكون معه على قدم المساواة في شؤون الحياة وأصعدتها المختلفة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومناهضة القمع هي التي دعت النسويات لطلب منحهن السلطة والدعم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهو ما عرف في الفكر النسوي بمصطلح "منح السلطة".
لذا اعتبرت بعض النسويات أن عقد النكاح ليس عقدًا اجتماعيا وإنما قوة أبوية ذكورية تمارس قوة على أساس أنها حقوق زوجية، تقول سيمون دي بوفوار بأن أدوار النساء جميعها من صنع الرجال ومؤسساتهم ولكنها يمكن أن تكون كما تريد لا كما يريد لها الرجل، واقترحت ثلاثة إجراءات تعين المرأة على تجاوز ما هي عليه، وهي:
أن تمارس العمل حتى وإن كان قامعًا أو مستغلًا ففي العمل تثبت المرأة تعاليها وأنها ذات، أن تمارس نشاطًا فكريًا، فالنشاط الفكري يتيح لها تغيير المجتمع، أن تحرص أن تكون مستقلة اقتصاديا عن الرجل لأن مفتاح تحرر النساء الاقتصاد.
ولم تكن النسويات العربيات بأقل حماسة لمقاومة العنف الموجه ضد المرأة والمطالبة بمنحها السلطة المطلقة، وقد كانت رجاء بن سلامة قد أفردت فصلًا بعنوان "التمييز وعنف التمييز ض المرأة في العالم العربي" تطرقت فيه لمفهوم العنف والتمييز، تقول الباحثة "التمييز والعنف مصطلحان يسميان العنف المسلط على النساء في الصكوك الدولية وفي أدبيات حقوق الإنسان"
وعللت رجاء هذا العنف بأنه ما نصت عليه المواثيق والاتفاقيات الدولية من مواجهة أي اضطهاد ضد المرأة، ويشمل عدم التساوي بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتلمس د. حسين المناصرة جوانب ضعف المرأة والتي ساهمت في خلق الصورة الضعيفة والمزعجة عن المرأة بشكل عام على الصعيد الإنساني الغربي العربي، ولكنه أشار للعالم العربي بصورة جلية. ويرى المناصرة أن من أسباب شعور المرأة بالدونية والاضطهاد الذكوري هو:
1- الأساطير والخرافات عن المرأة وأنها منبع شقاء للرجل
2- المسار الديني عن المرأة أنها قاصرة ضعيفة
3- النظرة للمرأة أنها جسد وسلعة للمتعة والجمال
4- موروث الإبداع واللغة عن المرأة اللذة والرمز.
وأخذ يدلل المناصرة بالأساطير القديمة التي تجعل من المرأة شيئًا غريبًا نزل من السماء لعقاب الرجل، والذي كان كما تزعم هذه الأساطير قد بلغ أنصاف الآلهة، فهي الشر المحض بالنسبة للرجل والرمز المرتبط بالخطيئة، وفي المسار الديني أشار المناصرة إلى النصوص الدينية المتعلقة بالمرأة بل إنه أشار إلى دور الأديان في تخليص المرأة من هذا الجور الذي وقع عليها نتيجة هذه الأساطير الملفقة بها.
وقد أشار المناصرة إلى ما يثار عن المرأة من شُبه في الإسلام كالتعدد والقوامة والإرث ونقص العقل وأبان بأن هذه القضايا لها موضعها من كتب التفسير والفقه وليس مقامها هذا الكتاب، وأن نقصان عقل المرأة ليس بالمفهوم الاجتماعي السائد وإنما لاعتبارات شرعية لسقوط التكاليف التعبدية عن المرأة، وأعجبني امتعاض المناصرة من بعض الباحثات اللاتي تأولن النصوص على غير حقيقتها، وأشار بعد ذلك إلى الحضور الذكوري القوي على مستوى اللغة العربية.
المصدر:
- د. وضحى بنت مسفر القحطاني، النسوية في ضوء منهج النقد الإسلامي، ص31