تحدي الإله ومعناه

تحدي الإله ومعناه | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

2026 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تحدي الملحد الماركسي


من أنباء الملاحدة الماركسيين أن أحدهم وقف في إحدى محطات الإذاعة فنادى «الله»: إنه ليتحداه إن كان موجودًا لينسفن هذا البلد وليمحون تلك الدولة، أو فليعلم الناس جميعًا أنه خرافة ليس لها وجود.
 
إن هذا الملحد المتحدي لا يفهم ما يفهمه الناس من كلامه بغير حاجة إلى التأويل الطويل. إنهم يفهمون منه مبلغ ما يدركه الملحد الماركسي من معنى الربوبية ومعنى القدرة ومعنى «السلطة» على التعميم.
 
فهو لا يفهم من تحديه الإله على هذا الوجه إلا أن الإلهية سلطة غاشمة يثيرها التحدي، فلا يسعها إلا أن تظهر قدرتها أو تنزل عن كل حق في إثبات وجودها. فهذا الملحد الماركسي لا يعقل أن يوجَد الإله ويقدر على كل شيء ثم يترك من يتحداه سليمًا بعد ذلك طرفة عين، دون أن يُنكِّل به ويعُجِّل برد تحديه إليه.
 

وما الذي يمنع السلطة الغاشمة أن تبطش بمن ينكرها؟
 

لا يمنعها عنده إلا مانع واحد، وهو أنها كما قال ذلك الملحد الماركسي خرافة ليس لها وجود. هذا هو الفهم الوحيد الذي يفهمه لمعنى الإلهية من يفوه بذلك التحدي على مسمع من العالم، وهو يحسب أنه قد أفحم به من يؤمنون بالله. وإلا فكيف يفوه بذلك التحدي عاقل يفهم أن الإلهية «سلطة» لها نظام ولها حكمة ولها مشيئة تتبعها ولا تنحرف عنها لاستثارة أو استرضاء؟
 

السلطة الإلهية

من كان يؤمن بأن الإلهية سلطة لها نظامها وحكمتها فمن اليسير عليه أن يعلم أنه لا يهزها بتحديه فيخرجها من ذلك النظام ويذهلها عن تلك الحكمة.
 
وقد يسع الطفل الصغير أن يكف عن مثل هذا التحدي لأبيه إذا عرف له صفة من صفات العقل والحكمة، فليس بالطفل الذكي من يقول لأبيه: إن كان لك قدرة اضرب فلانًا حتى يهلك أو انهض بهذا الحمل حتى آذن لك بإلقائه!
 
فمن اليسير على الطفل الذكي أن يدرك أن أباه خليق ألا يجيب هذا التحدي على هواه، ولا ينفي ذلك عنه أنه ذو قدوة وأنه يستطيع أن يهلك فلانًا وأن ينهض بالحمل المقصود إذا أراد.
 
فالملحد الماركسي أسخف من الطفل حين يخطر له أن يتحدى إلهًا حكيمًا يضع الأشياء في مواضعها كما يقدرها، فيزعم أنه «غير موجود»؛ لأنه لو كان موجودًا لأبطل تلك الحكمة وأوقع الخلل في ملكه، خوفًا من الريب في وجوده، وفرارًا من الملحدين أو المؤمنين أن يظنوا به الظنون.
 
ومن كان يفهم الإلهية على أنها سلطة رشيدة فلن يتحداها أن تفعل غير ما أرادت أن تفعله منذ الأزل، وغير ما تريد أن تفعله إلى آخر الزمان؛ لأنه إذا استطاع بكلمة من كلمات التحدي والاستثارة أن يغير ما تأبى تغييره، فذلك هو البرهان الذي ينفي وجودها أو ينفي حكمتها على أقرب الفروض.
 
فلو شاء الله أن ينكشف وجوده للفكر والضمير كما تنكشف الأشياء لجميع الأبصار، لفعَل ذلك بإرادته منذ وجدت الأفكار والضمائر والأبصار، ولم ينتظر حتى يفعله منقادًا للخوف من الاتهام أو طمعًا في التمَلُّق والثناء.
 
ولقد يحق للملحد الماركسي أن يسأل في هذا المقام: ولِمَ لا يشاء؟ ولِمَ يترك الناس ينكرون ويثبتون أو يبحثون ويرتابون؟ ولِمَ لا يكشف لنا جميعًا حقيقة وجوده على نحو يبطل فيه الخلاف وتزول الفوارق ويمتنع الشك والضلال؟
 
إن هذه الأسئلة أقرب إلى العقل من ذلك التحدي الأحمق الذي يثبت حماقة صاحبه ولا ينفي حكمة الإله.
 
ولكنها أسئلة لا تحتمل اللجاجة فيها بعد قليل من التبصر والروية، بل بعد قليل من التصور إذا استطاع السائلون أن يتصوروا كيف يكون هذا الإيمان، وكيف تكون الضمائر التي تهتدي إليه.
 
إنها لا تكون إلا كما تكون الآلات أو كما تكون العجماوات.
 

المعرفة بحاسة البصر

إن العلم بوجود الله كما نعلم بوجود المنظورات بالعين يلغي الضمائر والعقول، ويبطل جهود النفس الإنسانية في امتحان الخير والشر والهداية والضلال.
 
والمعرفة بحاسة البصر معرفة يتساوى فيها الإدراك كما يتساوى إدراك الآلة وإدراك الحيوان، فهل هذه هي المعرفة التي تليق بالإنسان المسئول عن ضميره، الباحث عن هدايته المترقي بسعيه واجتهاده؟ وهل يطلبون أن يتساوى الناس في مدركات الضمير وحدها، أو يطلبون أن يتساووا في مدركات الحواس وملكات الأجسام والأفهام ومقادير الأعمار والأيام؟ وهل هذا العالم الإنساني الذي يتألف من نسخة واحدة متكررة هو عندهم عالم المثال المنشود، وهو العالم الذي تثبت به حكمة الله ووجوده ويستقيم عليه أمر الوجود؟
 
إن أهون ذرة من التراب لا تعطينا حقيقتها الكاملة في لمحة عين، ولا نستغني في عرفانها والانتفاع بها عن جهود العمل والتفكير والتحليل لندرك منها بعض ما يدرك ولا نقول كل ما يدرك؛ لأننا نجهل كنه الذرة الترابية وغير الترابية حتى الآن، ولعلنا سنجهل هذا الكنه في قراره ومداه إلى أن يشاء الله.
 
ويحدث هذا ولا يرى فيه الملحدون الماركسيون عجبًا منكرًا ولا شذوذًا عن الوضع الصحيح والرأي السديد، بل يقيسون التقدم الذي يدعونه بمقدار ما حصلوه ويحصلونه من هذه الحقائق ولو كانت معلقة بأهون الأشياء.
 
وإن الشمس على جلائها لتخفى عليهم الآن بعد أن خفيت على الأقدمين دهورًا بعد دهور، ولقد كانوا يحسبونها كقرص الغربال فأصبحوا يعرفون اليوم أنها أكبر من الأرض والقمر والسيارات، وكانوا يحسبونها تدور فأصبحوا يعلمون أن الأرض هي التي تدور، وكانوا يجهلون سرعتها ومسافاتها فأصبحوا يعلمون الآن كم هي بالدقائق وكم هي بالأميال.
 
إلا أنهم لا يزالون يجهلون منها أضعاف ما عرفوه، ولا يزالون يبحثون عن مصدر حرارتها فيخلطون بين النقيضين ويزعمون مرة أنه من تكوين العناصر، ومرة أخرى أنه من تفتيت العناصر وانشقاقها، ولا يدرون على التحقيق هل يندفع اللهب من باطنها إلى ظاهرها أو يرتد من ظاهرها إلى جوفها، ولا يستغربون من نظام الكون أن تكون شمسه الساطعة بهذا الخفاء، وأن تحار فيها العقول هذه الحيرة، وهي أم الضياء!
 

الحقيقة الإلهية

فما بالهم يريدون من الحقيقة الإلهية أن تكون أقرب منالًا من حقائق هذه الكائنات التي لا يدعون لها عظمة الربوبية ولا جلالة الأبدية! وما بالهم ينتظرون من حقيقة الحقائق أن تحيط بها لمحة عين، ويستنكرون السعي إلى غاية الحقائق من متناول السماع والأبصار!
 
إن العلم بوجود الله مطلوب، ولكنه علم لا قيمة له إذا كان يلغي العقول ويعطل الضمائر ويبذل لمخلوق لا فضل له في إدراك أقرب الحقائق وأبعدها على الآلة والحيوان.
 
وقبل أن ينتقد الناقد ما ينتقده من هذه العظائم الجلَّى، عليه أن يتعلم كيف يقترح وكيف يصحح ما ينتقده ولا يرتضيه. إن بحث العقول والضمائر عن الله منتقد عندهم وغير مفهوم.
 
فلنقل ما يقولون هنيهة نسألهم: وما هو المفهوم المنزه عن الانتقاد؟ أهو إدراك الله بغير بحث؟ أو الاستغناء عن البحث في أمر الله وحده أو في جميع الأمور؟ وهل عندهم أن الإله الموجود الحكيم هو الإله الذي تقاد مخلوقاته الكبرى أو الصغرى بحبال الغريزة على غير فهم ولا محاولة ولا تمييز بين ما يظهر وما يخفى، وبين ما يكبر وما يصغر، وبين ما تتصرف فيه المدارك وما يسلبها التصرف والاختيار؟
 
أهذا عندهم هو الإله الموجود الحكيم؟ تعالى الله عما يصفون!
 
فما من شيء هو أثبت لوجود الله من تنزيه مخلوقاته عن هذا العطل في العقول والضمائر، وما نتحداهم أن يؤمنوا وهم غير أهل للإيمان، وإنما نتحداهم أن يتصوروا إلهًا حقيقًا بالعبادة على الصورة المرتضاة لديهم، فإنهم ليعلمون إذن راغمين أن الإله الذي لا يستحق البحث هو الإله الذي يأباه العقل السليم، وأن الإله الذي نبحث عنه لهو الإله الموجود

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، الإسلام والحضارة الإنسانية، ص63
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحدي-الإله
اقرأ أيضا
فن أصول التفسير ج8 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج8


مهما جلسنا نستنبط من آيات الله سبحانه وتعالى ونذكر الفوائد والمسائل المتعلقة بالآيات فإننا يمكن أن نجلس من صلاة العشاء إلى الفجر في سورة واحدة ونحن نستخرج هذه الفوائد والنفائس ولا شك أن هذا مما يدل على عظمة القرآن ومجده لأن الله سبحانه وتعالى وصفه بالمجد فهو مجيد في ألفاظه ومجيد أيضا في معانيه ومجد المعاني أي: أن معانيه متسعة

بقلم: مساعد الطيار
731
الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الرابع


فتى بريطاني يرفع دعوة على أمه ليتلقى منها وقتا كافيا توجه إلى المحكمة يرفع قضية على أمه لأنها لا تجلس معه وقتا كافيا تذهب خارج البيت وتتركه وأقر القاضي فعلا أن الحق معه وألزم الأم بالبقاء مع الطفل حتى الأساسيات غير موجودة عندهم فليس هناك حضانة ولا حق في الرضاعة يعطى للطفل ولا حنان يرتضعه يترك ويرمى ويهمل

بقلم: محمد المنجد
726
حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الثاني


ثم ورث هموم الآخرة الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك في أمانيهم وأحلامهم وتتبع أحوالهم ومن ذلك أن عمر قال لأصحابه يوما: تمنوا فقال رجل منهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله عز وجل فقال: تمنوا فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق بهثم قال: تمنوا قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
1536
محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الجزء الأول


من أظهر الأمور الدينية: أن المهمة الأولى لدعوة الرسل والهدف المركزي فيها هو تعبيد الناس لله تعالى وغرس التعلق به في كل حياتهم كما قال تعالى:ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة النحل:36 فمقصد بعثة الرسل وأساس دعوتهم ومنتهى أعمالهم وغاية جهادهم وقطب الرحي في حياتهم والفكرة التي حولها يدندنون ومنها يقصدون وإليها يرجعون وفيها يبذلون هي: عبادة الله وحده وغرس فكرة العبودية في عقول الناس وقلوبهم وإنكار عبادة كل الأوثان

بقلم: سلطان العميري
2721
الأطفال وجناية الشهرة | مرابط
مقالات

الأطفال وجناية الشهرة


من الظواهر المؤلمة التي ظهرت مؤخرا ظاهرة شهرة الأطفال وإبرازهم وجعلهم ممن يشار إليهم بالبنان وممن تلاحقهم الأضواء والفلاشات وهذه ظاهرة سيئة لها تبعاتها الخطيرة على الطفل وعلى مستقبله في هذه الحياة. والأدهى والأمر تصنيف ذلك على أنه نجاح وتوفيق وتحقيق هدف ونموذج ينبغي أن يحتذى فيكون ميزان النجاح بعدد المتابعين وكثرة لظهور أمام الفلاشات وهذا وربي من المفاهيم المغلوطة التي ينبغي أن تصحح.

بقلم: د. طلال الحسان
394
الحداثيون والشاطبي | مرابط
فكر مقالات

الحداثيون والشاطبي


الواقع أن الشاطبي وموافقاته ومقاصده لم يكن هو الحافز الحقيقي المحرك لهم لهذه التأويلات الفقهية لأحكام الشريعة التي ينشرونها وإنما هي آراء تلقوها من الفكر الغربي الحديث ولهم فيها هوى عظيم ثم بحثوا في التراث الإسلامي عن تأصيل لها فرأوا الشاطبي يؤكد على المقاصد العامة والضرورات الكبرى فصارت لهم شبهة تركبت مع هواهم فصاروا يذكرون الشاطبي وينوهون به ويشيدون بعبقريته وحذاقهم يعلمون جيدا التناقض بين موافقات الشاطبي والتغريب الفقهي

بقلم: إبراهيم السكران
452