تفسير سورة العصر 2

تفسير سورة العصر 2 | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

1874 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

قوله "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.."

هل كل الإنسان في خسار؟ استثنى الله عز وجل من ذلك في قوله سبحانه وتعالى: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [العصر:3]: الإنسان في خسارته التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هي خسارة جزئية وخسارة كلية، كلية في عدد الناس وجزئية في ذات الإنسان في نفسه من جهة اغتنامه للوقت، الناس يتباينون من جهة استغلال الزمن والعمل به، من الناس من يعمل في خير لكنه في خير مفضول ويدع الفاضل وهذا نوع من الخسارة، كالذي يضارب في الفضة ويمكنه أن يضارب بالذهب، أو الذي يبيع شيئًا من السلع هي خير ولكن ما هو خير منها هو أعظم من ذلك، كذلك أيضًا العمل الصالح في ذات الإنسان، منهم من يعمل العمل المفضول وبإمكانه أن يعمل الفاضل، إذًا: لديه نسبة من الغبن في هذا الزمن.

الله عز وجل استثنى من عموم الخاسرين إشارة إلى أن الرابحين قليل، لأن المستثنى أقل من المستثنى منه، هذا الأصل في لغة العرب، تقول: الناس في ضلال إلا قليل، الناس جاءوا إلا فلان، يعني: الذي تخلف قليل، وإذا أردت أن تخالف ذلك تقول: لم يأت الناس إلا فلان، يعني: الأصل الأكثر أنهم لم يأتوا، إشارة إلى أن الخاسرين أكثر.

"وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [العصر:1-3] : ذكر الله سبحانه وتعالى أمرين: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، مع أن التبع لها في قوله جل وعلا: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، هي تابعة للإيمان وتابعة للعمل، إشارة أن قناعة الإنسان بالحق لا يغنيه حتى يعمل به: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [العصر:3]، ولهذا تجد كثير من الناس يكتفي بقناعته الذاتية على إيمانه بربه، أو يكتفي بقناعته الذاتية بحق والديه عليه لكنه لا يعمل، أو بقناعته الذاتية أنه يعلم الشيء أنه بمجرد علمه بهذا كاف ولو لم يعمل بذلك، وهذا قصور؛ ولهذا الله جل وعلا ذكر العمل مع الإيمان.

 

العلاقة بين الإيمان والعمل

كثير من الناس إذا سئل عن تقصيره يشير إلى قلبه ويقول: التقوى هاهنا، وهذا تعطيل للعمل وإقناع للنفس بالهوى، وهو شيء من بذرة الحق لكنها قد تبقى في بدايتها وإذا لم تستمر على الخير فإن الخير في ذلك يزول، الإنسان إذا قال: التقوى هاهنا هو صادق، لكن تبقى يوم ويومين وثلاثة ولم يظهر الإنسان عملًا، فإن التقوى التي هاهنا تزول، هل يمكن للإنسان أن يأتي إلى شجر مخضر ظاهر وفيه من ظهوره من حسنه وثماره ثم يقول: إن قلب هذه الشجرة ميت؟ لا يمكن، إلا رجل يأتي بغصن مخضر ثم يغرسه في الأرض زيفًا هذا يبقى يوم ويومين ثم يجف ويظهر حقيقته للناس، وهذه الجزئيات هي جزئيات النفاق، ولهذا المنافق مذبذب لا يصبر يمتثل لمدة ساعة ثم يخرج إلى طبيعته كحال الغصن المستل سرقةً ثم يوضع في الأرض على أنه شجر له قلب حي ولكنه يظهر بساعة أو يوم أو يومين ثم تظهر حقيقته.

كذلك أيضًا جانب العكس: ليس لإنسان إن يأتي إلى شجر جاف ميت لا يظهر فيه من الحياة شيء ثم يقول: قلبه حي، ممكن أن يقول: قلبه حي لكن ننتظر ليوم يومين ثلاثة، إذا لم يخرج فيه خضرة فهو ميت، لا بد أن يكون هذا، ولهذا الذي يقول: التقوى هاهنا، ثم يستمر على التقوى هاهنا عام وعامين وثلاثة وأربعة ولا يظهر من عمله شيء وهو يرجع إلى هذا، القلب ميت أو ليس بميت؟ القلب ميت، هذه دعوى, ولهذا الله جل وعلا ذكر الحقيقة فقال: "وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [العصر:1-3].

 

العلاقة بين الباطن والظاهر

من أعظم وجوه الضلال والانحراف عند البشرية في أمور العبودية وفي الأمور الدنيوية: الفصل بين قناعة الباطن وعمل الظاهر، وإنما تضل الأمة ويضل الفرد أيضًا أن يظن أنه مؤمن بالله جل وعلا بينما لا يتعبد لله عز وجل بشيء، لا يؤدي الصلاة ولا يؤدي الزكاة ولا يصوم ولا يحج البيت الحرام ولا يؤدي شيئًا من العبودية التي أمره الله جل وعلا بها؛ اكتفاءً بأن لديه قناعة أن الله عز وجل واحد وهو الخالق.

القناعة الباطنية موجودة حتى لدى إبليس وموجودة حتى لدى فرعون، ولكنهم يحجبونها عن الظاهر كبرًا وعنادًا، وموجودة أيضًا حتى عند كفار قريش؛ ولهذا يقول الله جل وعلا عن بني إسرائيل: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:14]، إذًا: هم يعلمون، أليست القناعة الباطنية موجودة عند الكفار أو ليست موجودة؟ بلى، موجودة عند الكفار، ومنهم كفار قريش؛ ولهذا يقول الله جل وعلا عن كفار قريش: "فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" [الأنعام:33]، إذًا: المسألة مسألة جحد ظاهر، ولكن القناعة الباطنية موجودة.

متى يظهر هذا؟ إذا انغمس الإنسان بشيء من أمر الدنيا والهوى يندفن الحق تحت ركام الهوى؛ ولهذا يزيله الله عز وجل بظهور الحق والخوف والرهبة، فحينئذ يزول الهوى وتظهر الحقيقة، ففرعون بين قوله: "أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" [النازعات:24]، وقوله: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، ربما بضع دقائق؛ لأنه كان قبل دخوله البحر يريد قتل موسى، إذًا: هو مستمر على قوله: "أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" [النازعات:24]، الإنسان إذا ضرب عليه البحر فإن غرقه ربما في زمن يسير؛ لأنه ليس على مركب.

ففرعون حينما أدركه الغرق خرجت منه الحقيقة المدفونة فقال: "آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ" [يونس:90]، من الذي جعل الإنسان يحاول أن يستثمر آخر لحظاته في زمنه بالإيمان بالله سبحانه وتعالى؟ إن ذلك الغبن الحقيقي أو ذلك الهوى الذي يكون في نفس الإنسان قد يزول بشيء من الابتلاء؛ لهذا تجد بعض الناس معاندًا مستكبرًا بعيدًا عن الحق، مجرد ما يكون به مرض مخوف يتوجه إلى الله بالصلاة والصيام، كأن يكون به وباء أو سرطان أو شيء من الأمراض المعضلة, وقبل ذلك كان لاهيًا منصرفًا عن الحق, تمر به عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ستون سنة، فإذا أصيب بمثل هذه الأدواء العظيمة توجه إلى الله، فما الذي جعله يستيقظ في مثل هذا؟

هذه الحقيقة المدفونة في ذات الإنسان، هل اكتسبها بعد مرضه، أم خرجت من داخله؟ خرجت من داخله، من الذي دفنها؟ دفنها الهوى، ولكن الله عز وجل رفعها بالبلاء، كحال الإنسان يضرب الشيء بسياطه ثم يزول عنه الغبار وتظهر الحقيقة، الإنسان حينما يأتي إلى بساط قد اغبر لشهور ولسنوات ثم قام بضرب العصا عليه، ألا يظهر؟ تظهر حقيقته، كذلك في جانب الابتلاء، يبعث الله سبحانه وتعالى به ما دفنه الهوى حتى يظهر حينئذ الحق.

 

العمل الصالح وعلاقته بالإيمان

يقول الله جل وعلا: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [العصر:3]، أي: إنه لا بد لمن أراد الإيمان الذي أراده الله سبحانه وتعالى حقيقةً لا برغبة الإنسان أن يجمع بين العمل الباطن وهو عمل القلب وبين العمل الظاهر، أما إذا اتكل الإنسان على أمره الباطن ومضى وقت عليه ثم لم يعمل، فإنه ليس من جملة المؤمنين؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع من أراد أن يؤمن فيقول: قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا إله إلا الله، ثم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأوامر، ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، إذًا: القضية ليست أني أغرس في قلبك إيمانًا فقط، بل لا بد من العمل معه؛ ولهذا ما من أحد يكتفي بولاء غيره له قلبيًا إلا ظهر ذلك عملًا، فإذا كان الإنسان لا يرضاه في دنياه فكيف يريد أن يرضى الله عز وجل بمخالفته ظاهرًا وقبوله بذلك باطنًا؟!

ولهذا نقول: إن درجة فلاح الإنسان هي بمقياس موافقة الباطن للظاهر، وكلما زاد الإنسان إيمانًا في قلبه فينبغي أن يزيد إيمانًا في ظاهره، وإذا قصر في قلبه فعليه أن يحيي ما في قلبه أو يزيد ما نقص في قلبه من إيمان حتى يزداد عمل الظاهر.

ولهذا ما هو النفاق؟ النفاق: هو مخالفة الباطن للظاهر، يعني: اختلال الميزان، لديه شيء من نقص الإيمان في الباطن ويزيده في الظاهر، لا يمكن أن يستوي ذلك، تزيده أنت في يوم لكن لا بد أن يرجع غدًا أو بعد غد، ما الواجب على الإنسان: هل يجعل الظاهر يوازي الباطن، أم يزيد في الباطن ليزداد الظاهر؟ يجد الإنسان في نفسه إقبالًا على الله سبحانه وتعالى إذا جالس الصالحين أو إذا كان في المسجد، ولكن قد يجد في نفسه ضعفًا إذا خلا بنفسه، الناس يفطرون على مثل هذا الأمر، ولكن المرتبة العليا والكاملة هو أن يوافق ظاهر الإنسان ما في باطنه، وعلانيته توافق سره.

المنتكسون عن طريق الحق المتذبذبون يعملون أعمالًا ظاهرة ليس لديها أصل في قلوبهم، الدافع إلى هذا مجاملة العمل، مجاملة الأصحاب، مجاملة الجار، مجاملة الوالد، مجاملة الزوجة وغير ذلك؛ ولهذا ينتكسون، ما الذي انتكس منهم؟ انتكس الظاهر وما انتكس الباطن، لأن الحقيقة أن هذا الأصل الظاهري لا وجود له في الباطن، إنما هو منظومة تصنع؛ لهذا إذا وجد الإنسان في قلبه ضعفًا في إيمانه ما الواجب عليه: هل ينقص الظاهر حتى يسلم من النفاق، أم يزيد الباطن؟ يزيد الباطن.

ولهذا الله سبحانه وتعالى إذا أنزل عقابًا على أحد من العباد ثم وقع فيه نقص في دينه، فإن هذا النقص هو نفاق ظاهر أرجعه الله عز وجل إلى حقيقته؛ لهذا الله جل وعلا يطالب عباده ويأمرهم بالإيمان ظاهرًا وباطنًا: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [العصر:3]، الإيمان هو الإيمان الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، والعمل هو العمل الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، وليس اجتهاد الإنسان من تلقاء نفسه؛ لأن الله سبحانه وتعالى كفى الإنسان اختيار العمل وجعل الأمر إليه؛ حتى لا يتشعب الدين ويكون حينئذ من جملة الأهواء، لماذا؟ لأنه لو وكل الدين إليهم كما توكل الدنيا إليهم لتصارعوا عليها وكل يزيد في الدين وينقص، فأصبح حينئذ في ذلك شيء من الأهواء، فجعل الله سبحانه وتعالى الأمر إليه، وليس للإنسان أن يزيد في ذلك.

يقول الله جل وعلا: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" [المائدة:3]، إذًا: البداية من الله، والكمال منه سبحانه وتعالى، فأكمل الله عز وجل وأغلق الباب على كل أحد أن يزيد في دين الله سبحانه وتعالى ما ليس فيه.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سورة-العصر
اقرأ أيضا
بين العلم والمعلومة | مرابط
ثقافة

بين العلم والمعلومة


المعرفة الحقة هي التي جمعت إلى حيازة المعلومات المتصلة بها: القدرة على العبارة عنها وكشفها والبصر بمشكلاتها والتمكن من المحاماة عنها ودرء الاعتراضات الموجهة إليها.

بقلم: مشاري الشثري
423
مقارنة الإسلام بالجاهلية | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

مقارنة الإسلام بالجاهلية


إن من أهم ما يبرز محاسن الإسلام ويرسخها في النفس: النظر إلى أحوال الجاهلية -سواء ما كان منها متقدما على الإسلام أو متأخرا عن بدايته- ورؤية الجانب الإصلاحي العظيم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرا ومتجذرا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد

بقلم: أحمد يوسف السيد
831
يوم العمر | مرابط
مقالات

يوم العمر


إن العبد قد يكتب له عز الدهر وسعادة الأبد بموقف يهيئ الله له فرصته ويقدر له أسبابه حينما يطلع على قلب عبده فيرى فيه قيمة إيمانية أو أخلاقية يحبها فتشرق بها نفسه وتنعكس على سلوكه بموقف يمثل نقطة مضيئة في مسيرته في الحياة وفي صحيفة أعماله إذا عرضت عليه يوم العرض.

بقلم: د. جمال الباشا
261
من حياة عمر بن عبد العزيز ج2 | مرابط
تفريغات

من حياة عمر بن عبد العزيز ج2


لقد حمل هم الأمة خلع كل لباس إلا لباس التقوى لم يأخذ قليلا ولا كثيرا همه الآخرة لا الدنيا كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس حتى مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره إن السابق من غفر له في هذا اليوم

بقلم: خالد الراشد
641
فعل الرب التبصير والتغيير وفعل الشيطان التحسير والتعيير | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف

فعل الرب التبصير والتغيير وفعل الشيطان التحسير والتعيير


العبد إذا انتبه إلى تماديه في دركات التقصير أو استمع إلى موعظة أزعجت قلبه عن رقدة الغفلة فإن فعل الشيطان معه هو التحسير والتعيير حتى يكبله عن مسالك التدارك بآصار الكآبة والحزن واليأس ولا يزال به حتى يوقعه في أعظم مما كان عليه وهو التنكر لنعم الله الدينية ولطفه بعبده وكرمه ورحمته فيجحد الموجود حسرة على المفقود فيجمع بين الشرين

بقلم: كريم حلمي
653
إعادة تفسير الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

إعادة تفسير الإسلام


تعليق: يدور الحديث في هذا المقتطف حول التيار الإصلاحي الذي خرج من مدرسة الإمام محمد عبده والذي انتهى به الحال في النهاية إلى التلبس بمضامين علمانية وإن قيلت بعبارات إسلامية وهذا المقتطف للكاتب والمؤرخ الكبير المهتم بشؤون الشرق: ألبرت حوراني

بقلم: ألبرت حوراني
2107