مقارنة الإسلام بالجاهلية

مقارنة الإسلام بالجاهلية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

831 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن من أهم ما يُبرِز محاسن الإسلام ويرسّخها في النفسِ: النظرُ إلى أحوالِ الجاهلية -سواء ما كان منها متقدمًا على الإسلام أو متأخرًا عن بدايته- ورؤية الجانب الإصلاحيِّ العظيمِ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرًا ومتجذرًا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد.

 

حالة استثنائية في التاريخ

إننا لا نتحدث عن نتائج إصلاح عادي يقارب نتائج الحركات الإصلاحية القديمة والحديثة، بل نتحدث عن حالة استثنائية فريدة في التاريخ، عبّر عنها أحد أشهر المؤرخين في التاريخ الحديث (ول ديورانت) مع كونه لا يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وقد أثار شيئا من الطعونات والتشكيكات فيه، غير أن سطوة الحقيقة عليه أبت إلا أن تُخرج منه هذا الكلام  وذلك في كتابه: قصة الحضارة، حيث قال: “وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثرٍ في الناس قلنا: إنّ محمدًا كان أعظمَ عظماءِ التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعبٍ ألقت به في دياجيرِ الهمجيةِ حرارةُ الجوِّ وجدبُ الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرضِ نجاحًا لم يدانيه فيه أيُّ مصلحٍ آخرَ في التاريخ كلِّه، وقلّ أن نجدَ إنسانًا غيرَه حقّق كلَّ ما كان يحلم به"(1).

أما أبو الحسن الندوي رحمه الله، فقد تكلم عن المنهج الإصلاحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر العصر الجاهلي، وأسهب طويلًا في الكلام عنه ثم قال: “لقد كان هذا الانقلابُ الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغربَ ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلابُ غريبًا في كل شيء، كان غريبًا في سرعته، وكان غريبًا في عمقه، وكان غريبًا في سعته وشموله، وكان غريبًا في وضوحه وقربه إلى الفَهم، فلم يكن غامضًا ككثيرٍ من الحوادث الخارقةِ للعادة، ولم يكن لغزًا من الألغاز"(2).

 

مقاصد القرآن من تشريع الأحكام

وقد وقفتُ مؤخرًا على كتاب: (مقاصد القرآن من تشريع الأحكام) للمؤلِّف الدكتور عبد الكريم حامدي، اعتنى فيه بإبراز الجوانب الإصلاحية التي جاء بها القرآن والتي أحدث بها التغيير الهائل في المجتمع، مثاله: مقصد القرآن في تحقيق الصلاح الفردي، كإصلاح العقل والاعتقاد والتفكير والنفس والجسم، ومقصد القرآن في تحقيق الإصلاح الاجتماعي، كالإصلاح العائلي ونظام الزواج والزوجية والطلاق، والإصلاح المالي ونظام الكسب والمحافظة على المال، والإصلاح العقابي، والإصلاح السياسي…الخ من الأمور التي ذكرها في الجوانب الإصلاحية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن لطيف ما جاء في ذلك أيضًا ما كتبه محمد عبد الله دراز رحمه الله في مقدمة كتابه (نظراتٌ في الإسلام) بعد أن ذكر فتوحات الاسكندر وتجربة الاستعمار ثم قارن ذلك برسالة الإسلام قال: “أما رسالة الإسلام فإنها حين بسطت جناحيها في أقل من قرن على نصف المعمور، كانت كأنما أنشأته خلقًا آخر، لقد بدّلته من أوطانه المتفرقة وطنًا واحدًا، ومن قوانينه المختلفة قانونًا واحدًا، ومن آلهته المتعددة إلهًا واحدًا، لقد نفَذت إلى جوهر نفسه فحولته تحويلًا، وبدّلت أسلوب تفكيره تبديلًا، بل عمدت إلى لغته فأضافت لغة القرآن لسانًا إلى جانب لسانه، وكثيرًا ما أنسته لسانه الأصيل، وجعلت لسان الإسلام هو لسانه الوحيد، ثم هي لا تزال في كل عصر تتلقّى معاول الهدم من أعدائها، فتكسر هذه الصدمات على صخرتها، وهي قائمة تتحدى الدهر، وتنتقل من نصر إلى نصر.

فلْيُحاول الباحثون ما شاؤوا أن يعرفوا مصدر هذه القوة الغلّابة، وهذا الانتصار الباهر.
إنّ هذا النجاح ليس مردُّه في نظرنا إلى سببٍ واحدٍ من الأسباب، ولا إلى فضيلةٍ واحدةٍ من الفضائل، لقد تضافرت عليه شخصيةُ الداعي، ومنهاجُ دعوته، وشخصيةُ الأمة التي تلقّت تلك الدعوة، وطريقةُ الدعوة نفسها، ومِن وراءِ ذلك كلِّه كلاءةُ الله ورعايتُه لهذه الرسالة حتى بلغت كمالها"(3). ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بصاحب الرسالة، ثم ما يتعلق بالرسالة نفسها، ثم انتقل إلى التشريع الإسلامي.

 

العلم الطبيعي

وعلى صعيد مقارنة الإسلام بشيء من الجاهلية الحديثة فإننا إذا نظرنا إلى العلم الطبيعي ومكتشفاته الهائلة التي جعلت كثيرًا من المغالين فيه يعدّونه المنافس الأوحد للأديان، بل المتغلب عليها، ويفخرون بأنه أصلح أحوال البشرية وتقدّم بها عمّا كانت عليه قبل ذلك، و لا يفتؤون من ذكر الحالة التطورية المعاصرة التي انتقلت إليها البشريةُ بعيدًا عن أودية القرون الوسطى السحيقة.

ومع ذلك فإننا عند التدقيق نجد أن هذه النهضة العلمية الطبيعية إنما هي نهضة جزئيةٌ متعلقة بمجالٍ معينٍ، وهو المجال المادّي، فهي نهضةٌ علميةٌ ماديةٌ بحتة، متعلقةٌ بما يخدم الإنسان في حدود عيشه في هذه الحياة من جهة الرفاهية الحسية فقط، ولكن ليس لها أثرٌ إيجابي على الإنسان من جهة قِيَمه وأخلاقه، ولا من جهة شؤونه الاجتماعية والأسرية، بل ولا من جهة الإجابة عن أسئلته الغائية الكبرى، فهذا كله بعيدٌ كل البعد عن النهضة العلمية الحديثة وآثارِها، بل إنها ساهمت بشكل أو بآخر في الانحطاط البشري في الجوانب المتعلقة بالأخلاق والقيم والروح والغاية، ليس لأنها تؤدي بالضرورة إلى الانحطاط بل بسبب عدم الاتزان الذي خلّفته في عقول الناس الذين لم يكونوا ينظرون إليها إلا بعين واحدة.

هذا فضلًا عن أن المجال الذي ارتفعت فيه هذه النهضة -وهو مجال الحس والمادة والتقدم البشري المحسوس- قد أتى بالكوارث على البشر، فما قَتْلُ الملايين في الحربين العالميتين التي لا يكاد يوجد لها نظير ولا مثال في تاريخ البشرية، وما الأجنّة التي شُوّهت جراء تلك الحروب إلّا بسبب ما أنتجه العلم الحديث من أسلحة الدمار الشامل حين صارت بأيدي أناس لم يراعوا نهضة الإنسان الأخلاقية كما راعوا النهضة المادية.

 

انتحار الغرب

جاء في كتاب (انتحار الغرب) لريتشارد كوك وكريس سميث: “وتضاعف الشك في العلم على نحو ضخم، وتَعَمَّق نتيجةً لفظائع هيروشيما، … وقد أعطى تبريرًا كافيًا في أزمة صواريخ كوبا في عام 1962م من أنّ الترسانات النووية كانت تستطيع أن تدمر الحضارة الإنسانية، وقد عبّر العلماء البارزون بصوت عالٍ عن شكوكهم، وقال آينشتاين بعد هيروشيما: لوكنتُ أعرِف أنهم كانوا سيعملون هذا لكنتُ عملتُ صانع أحذية"(4).

وذكر ريتشارد تارناس في كتابه (آلام العقل الغربي) شيئا من الانحراف القيمي المعاصر المرتبط بالعلم المادي(5) قائلًا: “وقد ظل الترابط الوثيق بين البحث العلمي من جهة، وسائر المؤسسات والهيئات السياسية العسكرية، والهيكلية التعاونية يكذِّب صورة العلم الذاتية التقليدية المتمثلة بالطهارة المحايدة…. أما الإيمان بامتلاك العقل العِلمي للقدرة الفريدة على الوصول لحقيقة العالم،..، فقد بدا -ليس فقط ساذجًا معرفيًا (ابستمولوجيا)- بل وخادما، بوعي أو بدونه أغراضًا سياسية واقتصادية محددة، متيحًا في الغالب فُرَص تجنيد مقادير هائلة من الموارد المادية والفكرية لخدمة برامج الهيمنة الاجتماعية والبيئية. فالاستغلال العدائي الجشع للبيئة الطبيعية، التلوث الناجم عن التسلح النووي، التهديد بحصول كارثة كوكبية – ذلك كله لا ينطوي إلا على إدانة العلم وتجريمه، شجب العقل الإنساني بالذات، هذا العقل الذي بات على ما يبدو أسير لاعقلانية الإنسان المفضية حتمًا إلى تدمير الذات.

إن الإيمان المتفائل بإمكانية الخروج من مآزق العالم عبر التقدم العلمي والهندسة الاجتماعية المجردين قد خاب. مرة أخرى، يقف الغرب على عتبة الكُفر لا بالدين هذه المرة بل بالعلم وبعقل الإنسان المستقل" انتهى مختصرا.

وقد تنبهت طائفة من الفلاسفة والعلماء إلى أن العلم الطبيعي لم يتعامل مع الإنسان بالنظرة التكاملية، وإنما اختزل مكوناته في نظرة مادية جزئية، ومِن أشهر المفكرين الذين اعتنوا بإبراز النقص في النظرة المادية للإنسان المفكر المصري عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى، وقد اعتنى بذلك عنايةً خاصة، ونثر نقوداته على النظرة المادية للإنسان في مواضع كثيرة من كتبه، بل وأفرد كتابًا في ذلك وهو (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان).

 

آلام العقل الغربي

وفي كتاب (آلام العقل الغربي) لريتشارد تاباس ذكر أن عددًا غير قليل من المراقبين للتطورات العلمية يشعرون بأنّ من شأن مثل هذه التطورات أن تكون نُذُرَ شؤمٍ ممهِّدةٍ لقلب القيم الإنسانية رأسًا على عقب.

وخلاصةُ الأمرِ أنّه إذا كان أنصار العلم الطبيعي المغالون فيه يقارنون بين حال البشرية بعد النهضة العلمية الحديثة وقبلها، فإنّ لنا تمام الحق أن نقارن بين حال البشرية -وخاصةً في المنطقة العربية- قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، فالانتقالةُ الإصلاحيةُ الإسلامية لهائلة بفضائها الرحب وسَعتها وشموليّتها لا تُقارَن أبدًا بالنهضة العلمية الحديثة التي اختزلت الإنسان في إطارٍ ماديٍّ ضيِّق. وشتان بين المقارنتين، بين مقارنةٍ تختزل الإنسان وتفكّكه، وبين مقارنةٍ تنظر إلى الإنسان نظرةً تكامليةً في كل جوانبها.

وأما التأخُّر الذي نحن فيه الآن فليس هو بسبب الالتزام بتعاليم الإسلام، وإنما سببه البعد عن هذه التعاليم، فليس في الإسلام ما يعارض النهضةَ بالعلم الطبيعي، ولا التنميةَ التي يمكن أن ترتقي بالإنسان في العمارة والمادة، ولكننا نستمد من الإسلام المعايير الاخلاقية الحاكمة للحضارة المادية، ونستمد منه الجتنب الروحي، والغائي، وننهض به بالشمولية والتكامل الذي يحتاجه الإنسان حتى لا ينهض مشوهًا على ساق واحدة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. قصة الحضارة (13/47).
  2. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص85.
  3. نظراتٌ في الإسلام، لمحمد عبد الله دراز، ص6.
  4. انتحار الغرب، ريتشارد كوك وكريس سميث ص140
  5. آلام العقل الغربي ص434 -435

 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، محاسن الإسلام: نظرات منهجية، ص41

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محاسن-الإسلام
اقرأ أيضا
ضرورة الحكمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرورة الحكمة


كلام بديع لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن قيمة الحكمة وضرورة وجودها في كل شيء تقريبا وكيف يتحول الأمر من قمة الخير إلى قاع الشر إذا حرم الشيء وجود الحكمة فيه حتى لو كان ظاهره خيرا مثل العلم والقدرة والقوة فكل هذا يفصله عن الشر وجود الحكمة

بقلم: ابن القيم
2076
شبهات حول المرأة الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة الجزء الأول


يمكن القول بأن الجاهلية جمعت شبهاتها حول الشريعة في المرأة وقد انعكست الطبيعة العاطفية لهذه القضية على هذه الشبهات مما ساهم في طرحها على سرعة التفاعل معها وخصوصا عندما تكون الأحكام الشرعية في الأساس غير مرهونة بمعرفة العلة العقلية منها ومن هنا كانت مواجهة شبهات الكافرين والمنافقين حول المرأة في حقيقتها مواجهة لأبعاد أساسية في قضية الشبهات الجاهلية حول الشريعة الإسلامية وليست مجرد شبهة واحدة كغيرها من الشبهات

بقلم: رفاعي جمعة
2537
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر


مقتطف لابن القيم من كتاب الفوائد يذكر فيه قاعدتين جليلتين في دين الإسلام ألا وهما الذكر والشكر قال تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ويفصل لنا الحديث عنهما وما جاء فيهما في كتاب الله المحكم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

بقلم: ابن القيم
1053
نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات

نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1584
الركون إلى الدنيا | مرابط
تفريغات

الركون إلى الدنيا


والله عز وجل مع أنه رفع الهمة وبث الأمل ونشط المسلمين فقد علم المسلمين المنهج الواقعي في معالجة الأمور فليس معنى رفع الهمة الغفلة عن الأخطاء وعدم ذكر العيوب لا فلابد أن نذكر ولكن بصيغة لطيفة ولنرفع الهمة ونصلح الأوضاع ولنكن إيجابيين نكتشف الأخطاء ونصلحها ونرفع الهمة عند المسلمين ولا نقرع الأبدان ولا نلهب الظهور بالسياط ولكن بلطف وبرقة وببث الأمل

بقلم: د راغب السرجاني
966
قوة العرب المعطلة | مرابط
فكر مقالات

قوة العرب المعطلة


بالإسلام يلم الشرق شعثه ويستعيد قوته وتنمو فيه أخلاق الرجولة ويتأهل لمشاركة الأمم في حمل عبء الحضارة واحتلال المحل الشريف من صف القيادة وإذا دبت في الإسلام روح الحياة فعاد إلى ما كان عليه من صفاء وبهاء وصراحة في عصر السعادة وفي أيام التابعين- فستجد فيه الإنسانية دواءها من أوصابها وسيتقي به البشر طغيان القوميات الذي يتمخض بمذبحة جهنمية تحترق بها الأرض

بقلم: محب الدين الخطيب
1712