مقارنة الإسلام بالجاهلية

مقارنة الإسلام بالجاهلية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

713 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن من أهم ما يُبرِز محاسن الإسلام ويرسّخها في النفسِ: النظرُ إلى أحوالِ الجاهلية -سواء ما كان منها متقدمًا على الإسلام أو متأخرًا عن بدايته- ورؤية الجانب الإصلاحيِّ العظيمِ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرًا ومتجذرًا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد.

 

حالة استثنائية في التاريخ

إننا لا نتحدث عن نتائج إصلاح عادي يقارب نتائج الحركات الإصلاحية القديمة والحديثة، بل نتحدث عن حالة استثنائية فريدة في التاريخ، عبّر عنها أحد أشهر المؤرخين في التاريخ الحديث (ول ديورانت) مع كونه لا يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وقد أثار شيئا من الطعونات والتشكيكات فيه، غير أن سطوة الحقيقة عليه أبت إلا أن تُخرج منه هذا الكلام  وذلك في كتابه: قصة الحضارة، حيث قال: “وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثرٍ في الناس قلنا: إنّ محمدًا كان أعظمَ عظماءِ التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعبٍ ألقت به في دياجيرِ الهمجيةِ حرارةُ الجوِّ وجدبُ الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرضِ نجاحًا لم يدانيه فيه أيُّ مصلحٍ آخرَ في التاريخ كلِّه، وقلّ أن نجدَ إنسانًا غيرَه حقّق كلَّ ما كان يحلم به"(1).

أما أبو الحسن الندوي رحمه الله، فقد تكلم عن المنهج الإصلاحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر العصر الجاهلي، وأسهب طويلًا في الكلام عنه ثم قال: “لقد كان هذا الانقلابُ الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغربَ ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلابُ غريبًا في كل شيء، كان غريبًا في سرعته، وكان غريبًا في عمقه، وكان غريبًا في سعته وشموله، وكان غريبًا في وضوحه وقربه إلى الفَهم، فلم يكن غامضًا ككثيرٍ من الحوادث الخارقةِ للعادة، ولم يكن لغزًا من الألغاز"(2).

 

مقاصد القرآن من تشريع الأحكام

وقد وقفتُ مؤخرًا على كتاب: (مقاصد القرآن من تشريع الأحكام) للمؤلِّف الدكتور عبد الكريم حامدي، اعتنى فيه بإبراز الجوانب الإصلاحية التي جاء بها القرآن والتي أحدث بها التغيير الهائل في المجتمع، مثاله: مقصد القرآن في تحقيق الصلاح الفردي، كإصلاح العقل والاعتقاد والتفكير والنفس والجسم، ومقصد القرآن في تحقيق الإصلاح الاجتماعي، كالإصلاح العائلي ونظام الزواج والزوجية والطلاق، والإصلاح المالي ونظام الكسب والمحافظة على المال، والإصلاح العقابي، والإصلاح السياسي…الخ من الأمور التي ذكرها في الجوانب الإصلاحية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن لطيف ما جاء في ذلك أيضًا ما كتبه محمد عبد الله دراز رحمه الله في مقدمة كتابه (نظراتٌ في الإسلام) بعد أن ذكر فتوحات الاسكندر وتجربة الاستعمار ثم قارن ذلك برسالة الإسلام قال: “أما رسالة الإسلام فإنها حين بسطت جناحيها في أقل من قرن على نصف المعمور، كانت كأنما أنشأته خلقًا آخر، لقد بدّلته من أوطانه المتفرقة وطنًا واحدًا، ومن قوانينه المختلفة قانونًا واحدًا، ومن آلهته المتعددة إلهًا واحدًا، لقد نفَذت إلى جوهر نفسه فحولته تحويلًا، وبدّلت أسلوب تفكيره تبديلًا، بل عمدت إلى لغته فأضافت لغة القرآن لسانًا إلى جانب لسانه، وكثيرًا ما أنسته لسانه الأصيل، وجعلت لسان الإسلام هو لسانه الوحيد، ثم هي لا تزال في كل عصر تتلقّى معاول الهدم من أعدائها، فتكسر هذه الصدمات على صخرتها، وهي قائمة تتحدى الدهر، وتنتقل من نصر إلى نصر.

فلْيُحاول الباحثون ما شاؤوا أن يعرفوا مصدر هذه القوة الغلّابة، وهذا الانتصار الباهر.
إنّ هذا النجاح ليس مردُّه في نظرنا إلى سببٍ واحدٍ من الأسباب، ولا إلى فضيلةٍ واحدةٍ من الفضائل، لقد تضافرت عليه شخصيةُ الداعي، ومنهاجُ دعوته، وشخصيةُ الأمة التي تلقّت تلك الدعوة، وطريقةُ الدعوة نفسها، ومِن وراءِ ذلك كلِّه كلاءةُ الله ورعايتُه لهذه الرسالة حتى بلغت كمالها"(3). ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بصاحب الرسالة، ثم ما يتعلق بالرسالة نفسها، ثم انتقل إلى التشريع الإسلامي.

 

العلم الطبيعي

وعلى صعيد مقارنة الإسلام بشيء من الجاهلية الحديثة فإننا إذا نظرنا إلى العلم الطبيعي ومكتشفاته الهائلة التي جعلت كثيرًا من المغالين فيه يعدّونه المنافس الأوحد للأديان، بل المتغلب عليها، ويفخرون بأنه أصلح أحوال البشرية وتقدّم بها عمّا كانت عليه قبل ذلك، و لا يفتؤون من ذكر الحالة التطورية المعاصرة التي انتقلت إليها البشريةُ بعيدًا عن أودية القرون الوسطى السحيقة.

ومع ذلك فإننا عند التدقيق نجد أن هذه النهضة العلمية الطبيعية إنما هي نهضة جزئيةٌ متعلقة بمجالٍ معينٍ، وهو المجال المادّي، فهي نهضةٌ علميةٌ ماديةٌ بحتة، متعلقةٌ بما يخدم الإنسان في حدود عيشه في هذه الحياة من جهة الرفاهية الحسية فقط، ولكن ليس لها أثرٌ إيجابي على الإنسان من جهة قِيَمه وأخلاقه، ولا من جهة شؤونه الاجتماعية والأسرية، بل ولا من جهة الإجابة عن أسئلته الغائية الكبرى، فهذا كله بعيدٌ كل البعد عن النهضة العلمية الحديثة وآثارِها، بل إنها ساهمت بشكل أو بآخر في الانحطاط البشري في الجوانب المتعلقة بالأخلاق والقيم والروح والغاية، ليس لأنها تؤدي بالضرورة إلى الانحطاط بل بسبب عدم الاتزان الذي خلّفته في عقول الناس الذين لم يكونوا ينظرون إليها إلا بعين واحدة.

هذا فضلًا عن أن المجال الذي ارتفعت فيه هذه النهضة -وهو مجال الحس والمادة والتقدم البشري المحسوس- قد أتى بالكوارث على البشر، فما قَتْلُ الملايين في الحربين العالميتين التي لا يكاد يوجد لها نظير ولا مثال في تاريخ البشرية، وما الأجنّة التي شُوّهت جراء تلك الحروب إلّا بسبب ما أنتجه العلم الحديث من أسلحة الدمار الشامل حين صارت بأيدي أناس لم يراعوا نهضة الإنسان الأخلاقية كما راعوا النهضة المادية.

 

انتحار الغرب

جاء في كتاب (انتحار الغرب) لريتشارد كوك وكريس سميث: “وتضاعف الشك في العلم على نحو ضخم، وتَعَمَّق نتيجةً لفظائع هيروشيما، … وقد أعطى تبريرًا كافيًا في أزمة صواريخ كوبا في عام 1962م من أنّ الترسانات النووية كانت تستطيع أن تدمر الحضارة الإنسانية، وقد عبّر العلماء البارزون بصوت عالٍ عن شكوكهم، وقال آينشتاين بعد هيروشيما: لوكنتُ أعرِف أنهم كانوا سيعملون هذا لكنتُ عملتُ صانع أحذية"(4).

وذكر ريتشارد تارناس في كتابه (آلام العقل الغربي) شيئا من الانحراف القيمي المعاصر المرتبط بالعلم المادي(5) قائلًا: “وقد ظل الترابط الوثيق بين البحث العلمي من جهة، وسائر المؤسسات والهيئات السياسية العسكرية، والهيكلية التعاونية يكذِّب صورة العلم الذاتية التقليدية المتمثلة بالطهارة المحايدة…. أما الإيمان بامتلاك العقل العِلمي للقدرة الفريدة على الوصول لحقيقة العالم،..، فقد بدا -ليس فقط ساذجًا معرفيًا (ابستمولوجيا)- بل وخادما، بوعي أو بدونه أغراضًا سياسية واقتصادية محددة، متيحًا في الغالب فُرَص تجنيد مقادير هائلة من الموارد المادية والفكرية لخدمة برامج الهيمنة الاجتماعية والبيئية. فالاستغلال العدائي الجشع للبيئة الطبيعية، التلوث الناجم عن التسلح النووي، التهديد بحصول كارثة كوكبية – ذلك كله لا ينطوي إلا على إدانة العلم وتجريمه، شجب العقل الإنساني بالذات، هذا العقل الذي بات على ما يبدو أسير لاعقلانية الإنسان المفضية حتمًا إلى تدمير الذات.

إن الإيمان المتفائل بإمكانية الخروج من مآزق العالم عبر التقدم العلمي والهندسة الاجتماعية المجردين قد خاب. مرة أخرى، يقف الغرب على عتبة الكُفر لا بالدين هذه المرة بل بالعلم وبعقل الإنسان المستقل" انتهى مختصرا.

وقد تنبهت طائفة من الفلاسفة والعلماء إلى أن العلم الطبيعي لم يتعامل مع الإنسان بالنظرة التكاملية، وإنما اختزل مكوناته في نظرة مادية جزئية، ومِن أشهر المفكرين الذين اعتنوا بإبراز النقص في النظرة المادية للإنسان المفكر المصري عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى، وقد اعتنى بذلك عنايةً خاصة، ونثر نقوداته على النظرة المادية للإنسان في مواضع كثيرة من كتبه، بل وأفرد كتابًا في ذلك وهو (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان).

 

آلام العقل الغربي

وفي كتاب (آلام العقل الغربي) لريتشارد تاباس ذكر أن عددًا غير قليل من المراقبين للتطورات العلمية يشعرون بأنّ من شأن مثل هذه التطورات أن تكون نُذُرَ شؤمٍ ممهِّدةٍ لقلب القيم الإنسانية رأسًا على عقب.

وخلاصةُ الأمرِ أنّه إذا كان أنصار العلم الطبيعي المغالون فيه يقارنون بين حال البشرية بعد النهضة العلمية الحديثة وقبلها، فإنّ لنا تمام الحق أن نقارن بين حال البشرية -وخاصةً في المنطقة العربية- قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، فالانتقالةُ الإصلاحيةُ الإسلامية لهائلة بفضائها الرحب وسَعتها وشموليّتها لا تُقارَن أبدًا بالنهضة العلمية الحديثة التي اختزلت الإنسان في إطارٍ ماديٍّ ضيِّق. وشتان بين المقارنتين، بين مقارنةٍ تختزل الإنسان وتفكّكه، وبين مقارنةٍ تنظر إلى الإنسان نظرةً تكامليةً في كل جوانبها.

وأما التأخُّر الذي نحن فيه الآن فليس هو بسبب الالتزام بتعاليم الإسلام، وإنما سببه البعد عن هذه التعاليم، فليس في الإسلام ما يعارض النهضةَ بالعلم الطبيعي، ولا التنميةَ التي يمكن أن ترتقي بالإنسان في العمارة والمادة، ولكننا نستمد من الإسلام المعايير الاخلاقية الحاكمة للحضارة المادية، ونستمد منه الجتنب الروحي، والغائي، وننهض به بالشمولية والتكامل الذي يحتاجه الإنسان حتى لا ينهض مشوهًا على ساق واحدة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. قصة الحضارة (13/47).
  2. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص85.
  3. نظراتٌ في الإسلام، لمحمد عبد الله دراز، ص6.
  4. انتحار الغرب، ريتشارد كوك وكريس سميث ص140
  5. آلام العقل الغربي ص434 -435

 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، محاسن الإسلام: نظرات منهجية، ص41

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محاسن-الإسلام
اقرأ أيضا
منهجية الرسول في التعريف بالله عز وجل | مرابط
تفريغات

منهجية الرسول في التعريف بالله عز وجل


إذا ضل الإنسان في معرفة الموازين والقوى فإنه يختل حينئذ من جهة التوكل المحبة الخوف الرجاء وما ينتج عن ذلك من بذل العبودية لله سبحانه وتعالى بعبادة الجوارح السجود لغير الله سؤال غير الله التضرع لغير الله كحال ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشفع بالله عليه لأنه عرف شيئا وجهل أشياء فكفر بالله سبحانه وتعالى ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف الله عز وجل للناس بتعريف مخلوقات الله عز وجل إليهم

بقلم: عبد العزيز الطريفي
299
مقاييس الجمال وانتحار الفتيات | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

مقاييس الجمال وانتحار الفتيات


لم تتعلم الفتاة من والديها ولا في مدرستها ولا مجتمعها أن قيمتها هي في دينها وجمال خلقها ورجاحة عقلها وطيبة قلبها وهي كلها أمور مكتسبة لا تحتاج معها إلى مساحيق ولا عمليات ولا تزداد مع الأيام إلا جمالا بخلاف جمال المظهر الذي قد يخبو ويذبل

بقلم: د إياد قنيبي
704
فقه الفتيا | مرابط
اقتباسات وقطوف

فقه الفتيا


قال ابن عباس رضي الله عنهما: لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.. بين يدينا قصة هذا الحديث وهو من لطائف الأخبار الواردة عن ابن عباس رضي الله عنه هنا نتعلم منه التروي في الفتيا والتأني قبل التكلم.

بقلم: محمد بن إسحاق الفاكهي
207
فن أصول التفسير ج4 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج4


في قضية مصادر التفسير ممكن نقسمها إلى: المصادر النقلية البحتة والمصادر النقلية النسبية ومصادر الاجتهاد الآن من هو المفسر الأول للقرآن أو قل: ما هو المصدر الأول لتفسير القرآن القرآن نفسه ثم المصدر الثاني السنة ثم المصدر الثالث: الصحابة

بقلم: مساعد الطيار
617
الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها | مرابط
أباطيل وشبهات فكر الإلحاد

الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها


إن الفهم السقيم الذي يحاول بعض الملاحدة نشره هو أن نفي وجود الخالق أو مجرد تدخله يمكن أن يكون بشرح الآلية التي يعمل بها شيء كان يقال عنه إنه من سنع الله فإن استطاع شخص فهم القوى الفيزيائية المؤثرة على بقاء الأرض أو القمر أو غيرهما في مدارات محددة قال: هذا ما يبقيها إذا وليس الله كما كنت أعتقد

بقلم: سامي أحمد الزين
437
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم | مرابط
فكر مقالات أباطيل وشبهات

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم


يناقش هذا المقال قول من استدل بالآية فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها فلا بد أن يختارها ويؤمن بها وحين لا يكون مؤمنا بها لا يكون ملزما كما خير الله في هذا الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عليهم ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2341