علمنة الأحكام الشرعية

علمنة الأحكام الشرعية | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

2225 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ستجهد ذهنك كثيرًا حين تريد الوصول إلى أصحّ الأقوال لأصل كلمة (العلمانية) ومفهومها نظرًا لأعداد الدراسات المعاصرة المتفرّقة في هذا المضمار، إلا أنّ جميع الدراسات تتفق أن حقيقة العلمانية تكمن في درجة الابتعاد عن (الدين) فبعضها يرفع من درجة الانحراف العلماني ليبعد الدين بالكليّة عن جميع مناحي الحياة، وتقترب عند آخرين فيكون ابتعاد (الدين) منحصرًا في شؤون النظام والحكم.
 
لا حاجة بنا لأي حديث مع (المفهوم الأول) لأنّه مفهوم استئصالي للدين، ومثل هذا تنكره النفوس بداهة فيكفي أن يفهم المسلم معناه حتى يرفضه وينكره، وإنما تكمن الإشكالية في المفهوم الثاني الذي لا ينكر الدين ولا ينفيه وإنما يقطّعه من أطرافه ويقزّم من عليائه فيؤمن به من تحت سقف الإلزام والنظام والحكم.
 
ونسجّل هنا بإشادة وإعجاب: أنّ جهود العلماء والمصلحين والباحثين خلال عقودٍ من السنين في التحذير من العلمانية وبيان خطرها وتشديد النكير على أصحابها قد ساهم في خلق حالة من الوعي والإدراك لدى الشعوب المسلمة في التنفير من العلمانية حتى على المفهوم الأقلّ تطرّفًا مما جعل كثيرًا من العلمانيين يهربون من مجرّد الانتساب إليها.
 

تسرب المفاهيم العلمانية إلى أحكام الشريعة


إذن، فالوعي المسلم مدرك لخطر العلمانية بمفهومها المتطرّف أو بمفهومها المعتدلّ (الأقل تطرّفًا) .. والإشكالية التي هي بحاجة إلى وعي وبحث وعناية هو في تسرّب بعض المفاهيم العلمانية إلى الأحكام الشرعية، حيث أصبحت جملة من الأحكام الفقهية تقدّم بصورة جديدة تجعلها مقبولة لدى التفكير (العلماني)، فالتفكير العلماني يرفض قيام القوانين والأنظمة في الدولة المدنية بناءً على (رؤية دينية) وبالتالي فلا تحفّظ لديه على كثيرٍ من الأحكام الشرعية التي ليس لها تأثير على النظام العام كأداء العبادات واجتناب المحرّمات وأداء الصدقات .. الخ، وإنما الإشكالية في الأحكام التي لها تأثير كالحدود ومنع المعاصي والإلزام بالواجبات فجاءت هذه الخطوة لتتعامل مع هذه الأحكام بطريقة معيّنة تجعلها مقبولة للتفكير العلماني.
 
هذا ما دفع بعضهم لرفع خاصيّة (المنع) و (الإلزام) عن الأحكام الشرعية، فقدّم الأحكام الشرعية على أنّها أوامر ونواهي يطلب من المسلم فعلها أو اجتنابها، ومن يخالف في ذلك فيمكن مراقبته ومحاسبته من خلال النصيحة والموعظة الحسنة من غير أن يكون ثمّ منع لهذه المحرّمات أو إلزام لتلك الواجبات فضلًا عن العقوبات والحدود ، فرسمها في هذه الصورة بحالة مقبولة تمامًا لدى التفكير العلماني المعاصر.
 
وتطبيق الشريعة وما يتبع ذلك من أحكام وآثار هو عند آخرين من آثار تطبيق الديمقراطية واختيار الأكثرية، فالإلزام والقوّة في الحكم ليس راجعًا إلى كونها دين وشريعة من ربّ العالمين وإنما لكونها قانونًا ونظامًا قد تعاقد عليه الناس كما يتعاقدون على أي نظام آخر من أنظمتهم الدنيوية.
 

نماذج من الأحكام الشرعية


وحدّ الردّة في الشريعة الإسلامية ليس هو للمرتدّ عن الإسلام كما كان الفقهاء يقولون، وإنما هو للخارج عن القانون والمتمرّد على الدولة فيكون جزاؤه القتل كما تعتمده النظم المعاصرة فيما يسمّى بـ (الخيانة العظمى).

والزيادة المحرّمة في الشريعة من الربا الذي يجب منعه ليس هو ما اتفق الفقهاء عليه من الزيادة على الدين وإنما هو الزيادة على الفقراء بما يحصل به ضرر لهم فيتدخّل النظام لمنعه كما يتدخّل لمنع أي ضرر دنيوي.

والجهاد في الشريعة الإسلامية ليس هو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وإنما هو في القتال للدفاع عن الأراضي المحتلّة فقط كما تقرره جميع القوانين المعاصرة في حقّ الشعوب لصدّ المعتدي على أراضيها.
 
وشرط الإسلام الذي يتفق الفقهاء على ضرورة اتصاف كلّ من يتولى الرئاسة العامة او القضاء أو الإمارة به أصبح أمرًا تاريخيًا متعلّقًا بظرف معين حين كانت الدول تقوم على التمايز الديني وقد زال سببه مع الدولة المدنية التي تلغي تأثير الدين في التمييز بين المواطنين الذي تشملهم المساواة.
 
ووصف الأنوثة المؤثّر في (الشهادة) و (الولاية) وفي غيرها كما اتفق عليه الفقهاء أصبح متعلقًا كذلك بظرف زمني معيّن كانت المرأة لا تشارك الرجال ولا تخالطهم وقد زال هذا المعنى في العصر الحاضر فلم يعد لوصف الأنوثة ذي الصبغة الدينية أي تأثير.

كذلك أصبح (الولاء) و (البراء) في معاملة غير المسلمين متعلّقًا بظرف زماني كان العداء فيه ظاهرًا بين المسلمين ومخالفيهم، فكان لا بدّ من حضور وصف البراءة منهم، ومن لا تكون حاضرة لديه فهو مظنّة تهمة على ميله وتعاطفه مع العدوّ المحارب للدولة وقد زال هذا المعنى مع الدول المعاصرة التي تقوم علاقاتها على المصالح الدنيوية دون اعتبارات أخرى.
 
والضوابط الشرعيّة التي يلزم النظام حفظها في العلاقة بين الرجل والمرأة هي محاربة الابتزاز وتجريم التحرّش الذي تقرّره القوانين المعاصرة لما فيه من تجاوز وتعدٍ، مع إضعاف أو تغييب للضوابط الدينية المحضة كالخلوة والتبرّج وغضّ البصر والخضوع في القول والمزاحمة وغيرها.
 
وهكذا .. تبقى الأحكام الشرعية على مسمياتها، بعد أن ينتزع منها الوصف الديني الذي لا يستقيم مع الذائقة العلمانية المعاصرة وتحوّل الأحكام الشرعية إلى كيفيات ومواقع مختلفة لا تتصادم مباشرة مع التفكير العلماني المعاصر.
 
يا ليتهم علموا أنّ هذه الطريقة في التعامل مع أحكام الشريعة قد تحقق مكاسب سريعة في التخلّص من إحراجات الأسئلة العلمانية المتلاحقة، وربّما ترسم بعض صور الاستحسان والرضا لديهم عن الخطاب الشرعي غير أنّها ستكون صكّ اعتراف منهم بأنّ الأحكام الشرعية بصورتها الحقيقية تعاني من الخلل والقصور، وأن هذا الاجتهاد المعاصر هو سبيل التخلّص من أزمة العيب الذي تلاحق الأحكام الشرعية.
 
إذن، فما سيكون جوابهم عن المخالف الفطن حين يقول لهم: إنّ القول الذي تفرّون منه هو قول كافّة الفقهاء وهم أعلم بالإسلام وبفقه الشريعة منكم فإن كان في الأمر عيب ونقص وخلل فهو في ذات الشريعة باعترافكم!

إنه تأويل للأحكام الشرعية بطريقة تقرّبها كثيرًا من التفكير العلماني وتخفّف من غلواء ضغط الثقافة المعاصرة عليها، غير أنّها تبتعد عن مقاصد التشريع وتخرج عن دائرة التفكير الفقهي بقدر بعدها عن النصّ الشرعي، وربّما دخلت على بعض الأفاضل والأجلّاء لاجتهادٍ وتأويل هم مأجورون ومثابون عليه، وليس هذا حديث إساءة أو تقويم لهم، غير أن مراعاة القائل واعتبار اجتهاده وقصده الحسن لا يحول دون بيان خطأ الرأي وفساده والعوامل المؤثّرة فيه.

 


 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الأولى، ص22
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
قانون لتدمير الأسرة | مرابط
فكر مقالات المرأة

قانون لتدمير الأسرة


وها نحن في هذه الأيام نمر بفترة عصيبة من حياة الأمة تستورد فيها الأمة القوانين من هنا وهناك غير مبالين بمخالفة الشريعة الإسلامية وغير عابئين بالآثار الوخيمة التي ستعود على المسلمين من جراء تطبيق هذه القوانين المستوردة ومن آخر هذه القوانين وأخطرها قانون الطفل الجديد

بقلم: د راغب السرجاني
2327
الاجتماع بالأصحاب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاجتماع بالأصحاب


وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك

بقلم: ابن القيم
397
الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية | مرابط
الإلحاد

الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية


لقد ترك الملاحدة للداروينتة صياغة صورة حقيقة الإنسان وصناعة مراحل تاريخه وهو أمر يظهر بوضوح في جميع أدبياتهم عند مناقشة قضايا نظرية المعرفة والقيم ومعنى الحياة والفكاك عن ذلك -إلحاديا- محال لأن رفض الداروينية أو أي صورة أخرى من صور التطور العشوائي للكائنات الحية

بقلم: د سامي عامري
512
الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة | مرابط
فكر مقالات الإلحاد

الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة


من الملاحظات التي يمكن رصدها في كثير من الكتابات الإلحادية الحديثة أنها تتبنى رؤية جبرية مغالية في تفسير وقوع الأفعال الإنسانية ففكرة الإرادة الحرة وهم والإنسان في حقيقته مجبور على أفعاله وإن أحس أنه مختار لها أو كما عبر بعض الجبرية في الكتابة التراثية: الإنسان مجبور في صورة مختار

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
3049
الربوبية والوعي المبتور | مرابط
فكر

الربوبية والوعي المبتور


والربوبي -في حقيقة الأمر- شر حالا من الملحد إذ الملحد لا يرى في الوجود غير ركام من الأشياء بلا غاية وآكام من النظم مبعثرة فيبني على ذلك أن الكون عبث بلا هدف بلا حكمة وأما الربوبي فيرى الحكمة في خلق الذرة والمجرة ويدرك مظاهر العظمة فيها ثم هو ينتكس بعد ذلك إلى مذهب الملحد نفسه فلا يرى في الوجود غير أشياء تسير إلى حتفها رغم أنفها. والربوبية -على الصواب- مظهر من مظاهر الكسل المعرفي ﻷنها وقوف على تخوم الإيمان والإلحاد فلا الباحث أكمل المسير إلى نهاية الغاية من الخلق ولا هو أدبر إلى نقطة الإنكار...

بقلم: د. سامي عامري
243
أعمال الاستعمار | مرابط
تاريخ مقالات

أعمال الاستعمار


وخلال تاريخ الحركة الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي وبقية المستعمرات أظهر المستعمر الغربي صورا قاتمة كالحة ملؤها الظلم والقهر والاستغلال فعلى الصعيد الإنساني ارتكب المستعمرون مجازر بحق الشعوب التي قامت تدافع عن دينها وخيراتها فقد بلغت أعداد قتلى المسلمين في الهند حتى عام 1880م مليون مسلم سقطوا على يد الإنجليز ومثله كانت الجزائر بلد المليون شهيد

بقلم: منقذ السقار
540