علمنة الأحكام الشرعية

علمنة الأحكام الشرعية | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

2297 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

ستجهد ذهنك كثيرًا حين تريد الوصول إلى أصحّ الأقوال لأصل كلمة (العلمانية) ومفهومها نظرًا لأعداد الدراسات المعاصرة المتفرّقة في هذا المضمار، إلا أنّ جميع الدراسات تتفق أن حقيقة العلمانية تكمن في درجة الابتعاد عن (الدين) فبعضها يرفع من درجة الانحراف العلماني ليبعد الدين بالكليّة عن جميع مناحي الحياة، وتقترب عند آخرين فيكون ابتعاد (الدين) منحصرًا في شؤون النظام والحكم.
 
لا حاجة بنا لأي حديث مع (المفهوم الأول) لأنّه مفهوم استئصالي للدين، ومثل هذا تنكره النفوس بداهة فيكفي أن يفهم المسلم معناه حتى يرفضه وينكره، وإنما تكمن الإشكالية في المفهوم الثاني الذي لا ينكر الدين ولا ينفيه وإنما يقطّعه من أطرافه ويقزّم من عليائه فيؤمن به من تحت سقف الإلزام والنظام والحكم.
 
ونسجّل هنا بإشادة وإعجاب: أنّ جهود العلماء والمصلحين والباحثين خلال عقودٍ من السنين في التحذير من العلمانية وبيان خطرها وتشديد النكير على أصحابها قد ساهم في خلق حالة من الوعي والإدراك لدى الشعوب المسلمة في التنفير من العلمانية حتى على المفهوم الأقلّ تطرّفًا مما جعل كثيرًا من العلمانيين يهربون من مجرّد الانتساب إليها.
 

تسرب المفاهيم العلمانية إلى أحكام الشريعة


إذن، فالوعي المسلم مدرك لخطر العلمانية بمفهومها المتطرّف أو بمفهومها المعتدلّ (الأقل تطرّفًا) .. والإشكالية التي هي بحاجة إلى وعي وبحث وعناية هو في تسرّب بعض المفاهيم العلمانية إلى الأحكام الشرعية، حيث أصبحت جملة من الأحكام الفقهية تقدّم بصورة جديدة تجعلها مقبولة لدى التفكير (العلماني)، فالتفكير العلماني يرفض قيام القوانين والأنظمة في الدولة المدنية بناءً على (رؤية دينية) وبالتالي فلا تحفّظ لديه على كثيرٍ من الأحكام الشرعية التي ليس لها تأثير على النظام العام كأداء العبادات واجتناب المحرّمات وأداء الصدقات .. الخ، وإنما الإشكالية في الأحكام التي لها تأثير كالحدود ومنع المعاصي والإلزام بالواجبات فجاءت هذه الخطوة لتتعامل مع هذه الأحكام بطريقة معيّنة تجعلها مقبولة للتفكير العلماني.
 
هذا ما دفع بعضهم لرفع خاصيّة (المنع) و (الإلزام) عن الأحكام الشرعية، فقدّم الأحكام الشرعية على أنّها أوامر ونواهي يطلب من المسلم فعلها أو اجتنابها، ومن يخالف في ذلك فيمكن مراقبته ومحاسبته من خلال النصيحة والموعظة الحسنة من غير أن يكون ثمّ منع لهذه المحرّمات أو إلزام لتلك الواجبات فضلًا عن العقوبات والحدود ، فرسمها في هذه الصورة بحالة مقبولة تمامًا لدى التفكير العلماني المعاصر.
 
وتطبيق الشريعة وما يتبع ذلك من أحكام وآثار هو عند آخرين من آثار تطبيق الديمقراطية واختيار الأكثرية، فالإلزام والقوّة في الحكم ليس راجعًا إلى كونها دين وشريعة من ربّ العالمين وإنما لكونها قانونًا ونظامًا قد تعاقد عليه الناس كما يتعاقدون على أي نظام آخر من أنظمتهم الدنيوية.
 

نماذج من الأحكام الشرعية


وحدّ الردّة في الشريعة الإسلامية ليس هو للمرتدّ عن الإسلام كما كان الفقهاء يقولون، وإنما هو للخارج عن القانون والمتمرّد على الدولة فيكون جزاؤه القتل كما تعتمده النظم المعاصرة فيما يسمّى بـ (الخيانة العظمى).

والزيادة المحرّمة في الشريعة من الربا الذي يجب منعه ليس هو ما اتفق الفقهاء عليه من الزيادة على الدين وإنما هو الزيادة على الفقراء بما يحصل به ضرر لهم فيتدخّل النظام لمنعه كما يتدخّل لمنع أي ضرر دنيوي.

والجهاد في الشريعة الإسلامية ليس هو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وإنما هو في القتال للدفاع عن الأراضي المحتلّة فقط كما تقرره جميع القوانين المعاصرة في حقّ الشعوب لصدّ المعتدي على أراضيها.
 
وشرط الإسلام الذي يتفق الفقهاء على ضرورة اتصاف كلّ من يتولى الرئاسة العامة او القضاء أو الإمارة به أصبح أمرًا تاريخيًا متعلّقًا بظرف معين حين كانت الدول تقوم على التمايز الديني وقد زال سببه مع الدولة المدنية التي تلغي تأثير الدين في التمييز بين المواطنين الذي تشملهم المساواة.
 
ووصف الأنوثة المؤثّر في (الشهادة) و (الولاية) وفي غيرها كما اتفق عليه الفقهاء أصبح متعلقًا كذلك بظرف زمني معيّن كانت المرأة لا تشارك الرجال ولا تخالطهم وقد زال هذا المعنى في العصر الحاضر فلم يعد لوصف الأنوثة ذي الصبغة الدينية أي تأثير.

كذلك أصبح (الولاء) و (البراء) في معاملة غير المسلمين متعلّقًا بظرف زماني كان العداء فيه ظاهرًا بين المسلمين ومخالفيهم، فكان لا بدّ من حضور وصف البراءة منهم، ومن لا تكون حاضرة لديه فهو مظنّة تهمة على ميله وتعاطفه مع العدوّ المحارب للدولة وقد زال هذا المعنى مع الدول المعاصرة التي تقوم علاقاتها على المصالح الدنيوية دون اعتبارات أخرى.
 
والضوابط الشرعيّة التي يلزم النظام حفظها في العلاقة بين الرجل والمرأة هي محاربة الابتزاز وتجريم التحرّش الذي تقرّره القوانين المعاصرة لما فيه من تجاوز وتعدٍ، مع إضعاف أو تغييب للضوابط الدينية المحضة كالخلوة والتبرّج وغضّ البصر والخضوع في القول والمزاحمة وغيرها.
 
وهكذا .. تبقى الأحكام الشرعية على مسمياتها، بعد أن ينتزع منها الوصف الديني الذي لا يستقيم مع الذائقة العلمانية المعاصرة وتحوّل الأحكام الشرعية إلى كيفيات ومواقع مختلفة لا تتصادم مباشرة مع التفكير العلماني المعاصر.
 
يا ليتهم علموا أنّ هذه الطريقة في التعامل مع أحكام الشريعة قد تحقق مكاسب سريعة في التخلّص من إحراجات الأسئلة العلمانية المتلاحقة، وربّما ترسم بعض صور الاستحسان والرضا لديهم عن الخطاب الشرعي غير أنّها ستكون صكّ اعتراف منهم بأنّ الأحكام الشرعية بصورتها الحقيقية تعاني من الخلل والقصور، وأن هذا الاجتهاد المعاصر هو سبيل التخلّص من أزمة العيب الذي تلاحق الأحكام الشرعية.
 
إذن، فما سيكون جوابهم عن المخالف الفطن حين يقول لهم: إنّ القول الذي تفرّون منه هو قول كافّة الفقهاء وهم أعلم بالإسلام وبفقه الشريعة منكم فإن كان في الأمر عيب ونقص وخلل فهو في ذات الشريعة باعترافكم!

إنه تأويل للأحكام الشرعية بطريقة تقرّبها كثيرًا من التفكير العلماني وتخفّف من غلواء ضغط الثقافة المعاصرة عليها، غير أنّها تبتعد عن مقاصد التشريع وتخرج عن دائرة التفكير الفقهي بقدر بعدها عن النصّ الشرعي، وربّما دخلت على بعض الأفاضل والأجلّاء لاجتهادٍ وتأويل هم مأجورون ومثابون عليه، وليس هذا حديث إساءة أو تقويم لهم، غير أن مراعاة القائل واعتبار اجتهاده وقصده الحسن لا يحول دون بيان خطأ الرأي وفساده والعوامل المؤثّرة فيه.

 


 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الأولى، ص22
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
تشوش دور المرأة | مرابط
المرأة

تشوش دور المرأة


قبل فترة وجدت نفسي في مجموعة على الفيس بوك للنساء فكلما دخلت واحدة لتعرف عن نفسها تسرد إنجازاتها في دراستها وعملها إلى أن دخلت واحدة على استحياء لتقول أنها خجلة لكونها لا تملك ما تحدثنا عنه سوى أنها أم وربة منزل! لقد تحول دور المرأة تحولا شوه دورها وشوه تلك المخرجات التي بتنا نراها أولادا بلا تربية وبيوتا بلا ترتيب وطناجر فخمة دون استعمال وصارت إحداهن تطبخ للكاميرة لا لأولادها.

بقلم: د. مؤمنة العظم
357
حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1 | مرابط
تفريغات

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج1


صرح قطز لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار فبدأ الأمراء المماليك يترددون فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلا رائعا في فهمه للإسلام ويعطي لهم قدوة راقية في الجهاد لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار ويكون مع جنوده في قلب المعركة ولن يرسل جيشا ويبقى هو في عرينه بمصر بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون ويتحمل ما يتحملون ولو أرسل قطز جيشا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك لتحميس القلوب الخائفة وتثبيت الأفئدة المضط...

بقلم: د راغب السرجاني
702
ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح | مرابط
اقتباسات وقطوف

ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح


ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في...

بقلم: ابن القيم
763
العلم أعمال وسرائر وليس أقوالا ومظاهر | مرابط
تفريغات

العلم أعمال وسرائر وليس أقوالا ومظاهر


من هاب الخلق ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير وبقي مجرد تعظيمه وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه

بقلم: إبراهيم الدويش
518
تضخيم الألم | مرابط
اقتباسات وقطوف

تضخيم الألم


هذه العملية عبارة عن حالة شعورية تعتريك عند وقوعك في مشكلة تجعلك تؤمن أن ما حدث لك أكبر من قدرتك على التحمل فتشعر بالعجز والانهيار عند حدوث المشكلة وتصف المشكلة بألفاظ مبالغ فيها لا تساوي حجمها الحقيقي

بقلم: د إسماعيل عرفة
748
شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع | مرابط
تفريغات

شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع


فقد كان إحساس الصحابة بالبدعة ونفورهم منها فوق كل تصور وعندما نعرض بعض النماذج المبتدعة في زمن الصحابة نحن الآن نراها من المستحبات وكانت عندهم من البدع لأن الأمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا ويح لبيد كيف قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فالذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا النور وعاش بعده الزمان الغدر يكون من أشد الناس غربة لذلك فمحنة الصحابة في المعارك التي حدثت بينهم كانت شديدة كان الواحد منهم مع أخيه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إخوة متحابين لا مشاكل...

بقلم: أبو إسحق الحويني
929