قضايا يدور حولها الجدل: الحرية

قضايا يدور حولها الجدل: الحرية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

1899 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن من أعذب الكلمات التي يسمعها الإنسان: كلمة “الحرية“، كم تشعر أن حروفها تنبض بالحياة، والسّعة، والإشراق، والانطلاق. وكم يكره الإنسان أن يكون مقيد الحرية من إنسان مثله يأكل ويشرب ويقضي حاجته، فما الذي يميزه حتى يتحكم في حريات الناس لأجل أنه أوتي منصبًا أو مُلْكًا؟ وما الفرق بيننا وبينه حتى يكمم فم من شاء، ويقذف في السجن من شاء؟
 
إن تسلط الإنسان على الإنسان قصة قديمة تكررت كثيرًا على مر القرون والأزمان، وفي مختلف البلدان، وحين بعث الله الرسل لهذه المجتمعات البشرية كانت رسالتهم أفضل وسيلة للتخلص من تسلط الإنسان على الإنسان، إلى خضوع الجميع للواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يَلِد ولم يولد.
 

معاني الحرية في رسالة الرسل

بل إن رسالة الرسل كان فيها من معاني الحرية ما هو أكثر من ذلك، وهي تخليص الإنسان من معاني العبودية الخفية التي لا يشعر بها، كالخضوع للمال وعبادته، أو للشهوة وعبادتها.

فقد صحّ عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».. والدعوات إلى الحرية حين لا تراعي هذا المعنى فهي في الحقيقة ليست دعوات إلى حُرّية سامِية شريفة، بل هي حرية سطحية، وفي باطنها عبودية رهيبة لمن لا يستحق العبودية.
 

الجدال حول مصطلح الحرية

إن النقاش حول الحرية، والجدل الدائر في موضوعها يحتاج إلى تفصيل في الأحوال قبل إطلاق الأحكام العامة التي يضيع معها الحق؛ لأن مصطلح الحرية بات محملًا بأعباء فكرية وتاريخية ثقيلة، ولم يعد ذلك اللفظ الساذج الحر.
 
وأخطر شيء على الأفهام استعمال المصطلحات الـمُحمّلة بالأعباء التاريخية والخلافات الفكرية دون بيان يجلي حدودها ويكشف عن معاني الصواب فيها.
 
وقد افترق الناس أمام مصطلح الحرية إلى طوائف شتى، فمنهم من غلّب جانب الاستنكار والتشكيك في نظرته إلى هذا المصطلح، فتجده يفر من استعماله، بل وقد ينكر بعض معانيه الصحيحة ويعارضها؛ حتى ترى أنه في خطاباته يرسخ -باسم الإسلام- بعض معاني الاستعباد والذل للبشر من ذوي السلطة والنفوذ مما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء خطر على الإسلام.
 
وطائفة أخرى لم تكن حرة في استعمالها لمصطلح الحرية، فهي مأسورة ضمن نماذج تاريخية أو تفسيرية معينة للحرية لا تقبل الخلاف فيها ولا النزاع، بينما إذا نظرت إلى حقيقة هذه النماذج وجدتها تدعو إلى نوع من الحرية يفسد الإنسان ويطيح بكرامته وينزع عنه كل ما يميزه عن الحيوانات، فتحت هذه النماذج يتم الدفاع عن الشذوذ الجنسي، وعن ممارسة الفاحشة مع الكلاب وغيرها، كما يُغلّب فيها جانب الأنانية بصورة مقيتة، فأنت ترى أنه لا حقوق ضمن هذه النماذج للأجنة التي تزهق أرواحها بالملايين في مقابل حرية حامل الجنين في ممارسة شهواتها كما تشاء.
 

الموقف من قضية الحرية

والموقف العدل من قضية الحرية يكون في التوسط بين موقفي الطائفتين المذكورتين:
 
فيتم الجمع بين تبني لفظ الحرية ونصرته والدعوة إليه والدفاع عنه، وبين التزام حدود الله تعالى التي فرضها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون العبارة الصحيحة لحدود الحرية هي (حريتي تنتهي عند حدود الله).
ومن جهة أخرى فلا بد من التفريق في مساحة الحرية في الإسلام بين ما يعتقده الشخص في نفسه وبين ما يعلن به بين الناس، فالإسلام يقبل بوجود الكفار في أرضه، مع بقائهم على كفرهم بشروط، منها: عدم إعلان الطعن في الدين وعدم المجاهرة بالكفر.
 
ويحصل اللبس -أو التلبيس- في هذه النقطة حين لا يتم التفريق بين المقامين، فتجد من يستدل بتعايش الكفار مع المسلمين في التاريخ الإسلامي على تشريع قوانين تجعلهم كالمسلمين في باب الدعوة إلى دينهم، والتشكيك في الإسلام، وهذا غلط؛ إذ إنّ اعتقادهم في أنفسهم وفي بيئتهم المغلقة شيء، وإعلانهم ونشرهم لما يعتقدون -مما أنكره الإسلام- شيء آخر.
 
وقريب من هذا: الخلط بين الحرية التي يتيحها الإسلام في السؤال عما يُشكل على الإنسان من قضايا الدين، وبين بث هذه الإشكالات في الناس وإفساد صفاء عقيدتهم ويقينهم.
 
فالصورة الأولى فيها مساحة كبيرة من الحرية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. [البقرة:٢٦٠]{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [هود:٩٤]
 
فالواجب ألا يُوصد باب السؤال والنقاش والحوار أمام المستشكلين ومن عندهم شك أو ريب، وأما أن ينتقل هذا الشك والريب إلى صورة الإعلان والتشكيك، فهذا من المنكر الذي يجب إنكاره شرعًا.
 

هل الحرية في الإسلام تعني إباحة الباطل؟

وبسبب تأثير ثقافات غير إسلامية فقد ظن البعض أن الحرية في الإسلام تعني ترك الكُفر والباطل ينتشران دون منعٍ أو مجاهدة، وفات هؤلاء مواقف عديدة يحكيها الله في القرآن ترد قولهم هذا، فمثلًا:
 
1- إبراهيم عليه السلام كسر الأصنام في غير حضرة قومه ومن غير مشورتهم.
 
2- موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجدهم يعبدون العجل الذي صنعوه من ذهبهم وحُليّهم، أخذه فحرقه ورماه في البحر {وَٱنظُرْ إِلَى إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفًا}[طـه:٩٧]
 
3- والرسول محمدصلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم فتحها كان حولها ثلاثمائة وستون صنمًا، فلم ينتظر الإذن من قريش لتحطيمها، فكسرها وهو يقول: {وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١].

 


 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، كامل الصورة، ص153

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحرية #كامل-الصورة
اقرأ أيضا
تضخيم الألم | مرابط
اقتباسات وقطوف

تضخيم الألم


هذه العملية عبارة عن حالة شعورية تعتريك عند وقوعك في مشكلة تجعلك تؤمن أن ما حدث لك أكبر من قدرتك على التحمل فتشعر بالعجز والانهيار عند حدوث المشكلة وتصف المشكلة بألفاظ مبالغ فيها لا تساوي حجمها الحقيقي

بقلم: د إسماعيل عرفة
749
حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الأول


السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو الهم الأول الذي يسيطر على حياتنا هل هذا الهم من هموم الدنيا أم من هموم الآخرة حاول أن تكتب الهموم التي تهمك في ورقة وانظر أهمها لديك وأكثرها شغلا لبالك ثم انظر كم من هذه الهموم للدنيا وكم منها للآخرة قال علي بن أبي طالب: ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
3095
توحيد المحبوب | مرابط
اقتباسات وقطوف

توحيد المحبوب


لا يمكن أن يجتمع في القلب حب المحبوب الأعلى وعشق الصور أبدا بل هما ضدان لا يتلاقيان بل لا بد أن يخرج أحدهما صاحبه فمن كانت قوة حبه كلها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها صرفه ذلك عن محبة ما سواه وإن أحبه لم يحبه إلا لأجله أو لكونه وسيلة إلى محبته أو قاطعا له عما يضاد محبته وينقصها والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب

بقلم: ابن القيم
720
هل هناك فلسفة إسلامية أم لا؟ | مرابط
فكر مقالات مناقشات

هل هناك فلسفة إسلامية أم لا؟


اختلفت مواقف الباحثين كثيرا في إثبات وجود فلسفة إسلامية فمنهم من تبنى القول بأنه ليس هناك فلسفة إسلامية وأن غاية ما وجد في المجال الإسلامي إنما هو نقل وترجمة حرفية عن الفلسفة اليونانية وغيرها ومنهم من ذهب إلى إثبات وجود خاص للفلسفة الإسلامية وإثبات أنها فلسفة نمت وترعرعت في أحضان الثقافة الإسلامية

بقلم: سلطان العميري
637
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج2 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج2


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
729
لحظة فداء | مرابط
فكر مقالات

لحظة فداء


كل ما نعرف من رحمة الأبوة والأمومة بأطفالهم فإنه سيذهب بها هول لحظة مشاهدة النار يوم القيامة فيتمنى الأب العطوف والأم الحنون أن يتخلصوا من هذه النار حتى لو أرسلوا فلذات أكبادهم إليها يقول الحق تبارك وتعالى في مشهد مرعب: يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه أطفالهم الذين كانوا يفدونهم ويقدمونهم على أنفسهم ستأتي لحظة الفداء الكبرى التي تصعق فيها النفوس من شدة الهلع حين تسمع فوران نار يوم القيامة وشهيق لهبها وهي تأكل الناس والحجارة وأمام ذلك المشهد فإن الوالد يود لو يفتدي من عذاب يومئذ ببني...

بقلم: إبراهيم السكران
1380