كيف تبحث قضية نشأة العلوم وتطورها؟

كيف تبحث قضية نشأة العلوم وتطورها؟ | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

354 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يعتمد كثير من الباحثين في الحديث عن نشأة العلوم وتطورها على التدوين والكتابة في العلوم، فتراه يحدد نشأة العلوم ومراحلها بناءً على حالة التدوين فيها، فيحكم على أن علما ما نشأ في وقت كذا لأجل أن كتابا معينا ألف في مسائله، ويحكم على أنه تطور إلى مرحلة ما لأجل أن نوعا من الكتب ظهر في معالجة مسائله.

وكثير من الدارسين لعلم العقيدة اعتمدوا هذه المنهجية، فتراهم يبدؤون في بحث نشأة علم العقيدة وتطوره بقضية التدوين، ويسمون مراحل علم العقيدة بناء على ما ارتضوه من مرحلية الكتابة فيها.

ولا شك أن حالة التدوين والكتابة في العلم تعد معلما من أهم المعالم المفسرة لنشأة العلوم وتطورها، ولكنها ليست المعلم الوحيد، ولا المظهر الأكثر بيانا لطبيعة العلم تطوره، فهناك مكونات أخرى لا بد من مراعاتها في دراسة نشأة علم العقيدة وتحديد مراحل تطوره، ومن تلك المكونات:

الموضوعات

المكون الأول: الموضوعات، والمرد به أصول الموضوعات المكون للعلم وعدد أصولها وما يندرج فيها من الفروع، فيقوم الدارس بتحديد أصول الموضوعات التي كان يخوض فيها المؤسسون للعلم- علم العقيدة- ومن قبلهم، ومن جاء بعدهم، ويرصد أهم التغيرات التي حصلت فيها إما على مستوى الموضوعات الأساسية أو على مستوى الفروع المندرجة ضمن تلك الموضوعات، فينظر هل استجد موضوعات جديدة لم تكن من قبل، أو هل استجدت فروع جديدة مندرجة ضمن أصول الموضوعات السابقة.

فيقوم الدارس مثلا بتحديد أصول الموضوعات العقدية التي تناولها الصحابة رضي الله عنهم وقدموا فيها علما، ثم يقوم بتحديد أصول الموضوعات العقدية التي خاض فيها التابعون، ويقارن بينها، وهل استجد شيء من أصول الموضوعات أو فروعها عندهم أم لا، ويستمر بالمنهجية نفسها في دراسة القرون المتعاقبة.

طبيعة البحث

المكون الثاني: طبيعة البحث والمعالجة، والمراد به المنهجية المتبعة في طريقة النظر في مسائل العقيدة ومسالك التعبير عنها وأشكال تناولها، من جهة التوسع في الطرح أو الاختصار وجهة الاقتصار على العرض أو الدخول في الرد على المخالفين، ونحو ذلك.
فيقوم الدارس بتحديد المنهجية التي كان يعتمد عليها المؤسسون للعلم ومن قبلهم ومن بعدهم في تناول موضوعاتها، ويرصد أهم التغيرات التي حصلت في طريقة بحثهم لها ومسالك تناولهم إياها.

وفي خصوص علم العقيدة يبتغي على الدارس أن يقوم بتحليل المادة العقدية المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم ويحدد طبيعة تناولهم لها، ثم يقوم بتحليل المادة العقدية المنقولة عن التابعين، ويقارن بينها وبين ما عند الصحابة، ويتفحص ما استجد من التطورات في طريقة التناول ومسالم البحث والتعبير وما لم يستجد، ويستمر بالدراسة عبر القرون المتعاقبة.

منهجية الإثبات

المكون الثالث: منهجية الإثبات البناء، والمراد به المسالك المعتمدة في الاستدلال على مسائل العلم وطرقه وفي منهجية الرد على المخالفين.

فيقوم الدارس بتتبع الأدلة الحاضرة التي اعتمد عليها المؤسسون ومن قبلهم ومن جاء بعدهم في الاستدلال وتتبع طرقهم ومسالكهم في الاحتجاج والبناء، وكذلك طرقهم في نقد الأقوال المخالفة ونقضها ، ويرصد أهم التغيرات التي وقعت في هذه القضية عبر القرون المتعاقبة.

وفي خصوص علم العقيدة ينبغي على الدرس أن يرصد الأدلة الحاضرة عند الصحابة رضي الله عنهم في الاستدلال على جملة المسائل العقدية، ويدرك الأصول المنهجية التي كانوا ينطلقون منها في إثباتهم لمسائل العقيدة وفي حواراتهم للمنحرفين فيها، ويقوم بالعمل نفسه عند التابعين ومن جاء بعدهم، ويتفحص ما إذا وقعت تطورات مستجدة في هذه القضية أم لا.

التيارات والفرق

المكون الرابع: التيارات والفرق، والمراد به المذاهب والتيارات التي ظهرت في تاريخ العلم ولها منهجية مخصوصة في دراسته وبنائه والاستدلال عليه.

فيقوم الدارس بتتبع حالة علم ما ويرصد التيارات والمذاهب التي تشكلت في دائرته، واختلفت في دراسته سواء في أثناء نشأته أو بعدها، فما من علم إلا وفيه تيارات ومذاهب مختلفة، وهي مختلفة في تاريخ نشأتها وفي تطوراتها، ومكانها واتساعها وضيقها.

وفي خصوص علم العقيدة لا بد للدارس من أن يقوم برصد أهم الفرق والانحرافات التي وقعت في مسائل العقيدة، ويحدد زمن ظهورها وانتشارها ومكانها، وزمن أفولها واختفائها، وما يعد منها أصلا وما يعد منها فرعا خارجا عن غيره، من لدن زمن الصحابة ومن جاء بعدهم.

المصطلحات والمفاهيم

المكون الخامس: المصطلحات والمفاهيم، والمراد به ضبط أصول المصطلحات الحاضرة في التعبير عن الحقائق المتعلقة بعلم ما.

فيقوم الدارس بتتبع تاريخ العلم ورصد المصطلحات الحاضرة في تعبير العلماء عن مراداتهم في ذلك العلم، يحللها من جهة نشأة المصطلح وحجم حضوره وانتشاره، وهل يطلق على معنى واحد أم متعدد؟ وهل هو عام عند كل العلماء أو خاص ببعضهم؟، ونحو ذلك من المسائل.

وفي خصوص علم العقيدة لا بد للدارس أن يقوم برصد أهم المصطلحات الحاضرة في مقولات أئمة السلف من لدن الصحابة ومن جاء بعدهم، ويحدد نشأتها وإطلاقاتها عندهم وتطوراتها ومدى انتشارها وعموها وخصوصها في الأزمان المتعاقبة.

التدوين والتأليف

المكون السادس: التدوين والتأليف، والمراد به أهم المصنفات التي ألفت في جمع مسائل العلم وتوضحها والاستدلال عليها والحجاج حولها.

فلا بد لدارس علم ما أن يقوم بحديد الزمن الذي يمثل نشأة التأليف فيه، ويتتبع أهم التطورات الواقعة في منهجية التصنيف وأظهر المراحل التي مرت بها من لدن المؤسسين إلى من جاء بعدهم عبر القرون المتعاقبة.

وفي خصوص علم العقيدة فلا بد لدارسه من أن يحدد الزمن الذي تشكلت فيه النواة الأولى في المصنفات الخاصة به، ويقوم برصد التطورات التي وقعت في الكتب العقدية من أول زمن ظهور التصنيف فيه إلى زمننا الحاضر.

ومن خلال هذا العرض لمكونات البحث في نشأة العلوم وتطوراتها يظهر بجلاء بأن هذه القضية مركبة من أمور عديدة فلا بد من توفرها جميعا في معالجة تلك القضية المحورية، والتقصير في واحد من تلك المكونات يؤدي إلى تقصير في تصورها وإدراك أثرها.

ولأجل هذا فإن قضية نشأة العلوم وتطورها- علم العقيدة- من أعقد القضايا البحثية وأكثرها عمقا، وتتطلب قدرا عاليا من الاستقراء والتحليل والبناء والتركيب.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#نشأة-العلوم
اقرأ أيضا
هل الخلاف شر كله؟ | مرابط
مقالات

هل الخلاف شر كله؟


إشكالية تربى عليها جيل كامل وهي أن الخلاف شر كله وفي نفس الوقت تعلم أن من الخلاف ما هو معتبر وسائغ! فلذلك تراه منظرا لأدب الخلاف لكن عند التطبيق تراه يشتد على كل من خالفه ويود لو أنه حمل الناس على قوله ودفن كل قول مخالف.

بقلم: أحمد عبد السلام
290
نقض شبهة تعلم النبي القرآن من بشر | مرابط
اقتباسات وقطوف

نقض شبهة تعلم النبي القرآن من بشر


مقتطف هام لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح يشير فيه إلى أحد الطرق التي تنقض بها وتهدم دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم القرآن من بشر ونسبه إلى ربه تلك الدعوى التي روجها أولياء الشيطان وكذبها العقل ونأت عنها الفطرة وكذبتها القرائن وكافة الأدلة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2497
أعظم الظلم في ميزان الوحي | مرابط
مقالات

أعظم الظلم في ميزان الوحي


قال تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ۚ إنا من المجرمين منتقمون السجدة : 22 وهذا المعنى تشهد الفطر والعقول السليمة بحسنه فالرب تعالى له أعظم الحق لكماله وإنعامه فجحد حقه والإعراض عن آياته أعظم ظلم وجرم فالله تعالى أرسل لهذا الظالم من ذكره بآيات ربه الذي يريد سبحانه تربيته وتكميل نعمته على أيدي رسله تأمره وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم والانقياد والشكر..

بقلم: د. طارق عنقاوي
326
كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟


قد يقول قائل: إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام فكيف تخبر النشرة الجوية عن جو الغد أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل: هل هو ذكر أم أنثى؟

بقلم: علي الطنطاوي
246
مقالة مفيدة لسفيان الثوري | مرابط
مقالات

مقالة مفيدة لسفيان الثوري


عليك بالصدق في المواطن كلها وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها فإنها وزر كله وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل فإنه شرك بعينه وإياك والعجب فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ولا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه كيف يعالج داء الناس وينصح لهم؟

بقلم: أحمد بن عبد الله الأصفهاني أبو نعيم
229
الروح في اليقين والهم في الشك | مرابط
مقالات

الروح في اليقين والهم في الشك


الزهد في الدنيا هو طريق راحة قلبك من الهم فإنها هم دائم ما دامت. والزهد فيها يرجع إلى ثلاثة أصول كلها قلبي المنشأ ليس فيها ما هو جارحي! وكلها ينشأ من عبادة اليقين بالله وحده وهي قلبية.

بقلم: خالد بهاء الدين
370