مسائل حول الطلاق والسكنى

مسائل حول الطلاق والسكنى | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

244 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

طلاقُ السُّنَّة وطلاقُ البِدْعةِ:

قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.

للطَّلاقِ عِدَّةٌ وموضعٌ يُنزَلُ فيها، وليس للزَّوْجِ أن يتكلَّمَ بالطلاقِ بهواهُ وفي الوقتِ الذي يشاءُ هو؛ فقد جعَلَ اللَّهُ للطلاقِ موضعًا، وموضعُهُ أنْ يُطلِّقَها في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه، أو يُطلِّقَها حاملًا قد اتَّضَحَ حَمْلُها.

وقد قال ابنُ مسعودٍ (1)، وابنُ عبَّاسٍ (2)، وابنُ عمرَ (3)؛ في قولِه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}: إنَّه في طُهْرٍ مِن غيرِ جِماعٍ؛ وبه قال عطاءٌ ومجاهدٌ والحسنُ وعِكْرِمةُ وميمونُ بنُ مِهْرَانَ (4).

وكلُّ طلاقٍ لم يُوافِقِ السُّنَّةَ، فهو طلاقٌ بدْعيٌّ، أمَّا السُّنيُّ فتقدَّم، وأمَّا الطلاقُ البِدْعيُّ:

هو تطليقُ الزوجةِ في حَيْضِها أو نِفَاسِها، أو في طُهْرٍ قد جامَعَها فيه، أو يُطلِّقُها في زمنِ عِدَّتِها مِن تطليقةٍ سابقةٍ، أو يُطلِّقُها أكثَرَ مِن طلقةٍ مرةً واحدةً.

وأمَّا الصغيرةُ والآيسةُ التي لا تَحِيضُ، فلا طلاقَ بدْعيًّا يتعلَّقُ بحَيضِها ونِفاسِها؛ وإنَّما البِدْعيُّ يتعلَّقُ بتطليقِها في زمنِ عِدَّتِها مِن طلقةٍ سابقةٍ، أو تطليقِها بأكثَرَ مِن واحدةٍ مرةً واحدةً.

ومِن الأئمَّةِ كالشافعيِّ: مَن لم يَجعَلْ مجرَّدَ الطلاقِ ثلاثًا بِدْعةً ما دام طلاقُها في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه؛ فاعتبَر الزمانَ ولم يَعتبرِ العَدَدَ، ولكنْ أمَرَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنَ عمرَ أن يُراجِعَها، ثمَّ إنَّ اللَّهَ تعالى قال بعدُ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، والأمرُ: الرَّجْعةُ، وهذا يدُلُّ على أنَّ المرادَ بقولِه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} طلاقُ الرَّجْعةِ، وهو الأصلُ، والثلاثُ على قولِهِ لا رجعةَ فيها، وقد أخَذَ بعمومِ الآيةِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، فوسَّعَ في عددِ الطَّلَقاتِ ما دام في العِدَّةِ، وقد تقدَّم الكلامُ على الطلاقِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ أو مجلِسٍ واحدٍ عندَ قولِهِ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩].

وقولُه تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أمَرَ اللَّهُ بضبطِ العِدَّةِ؛ لأنَّ ذلك يتعلَّقُ به حقوقٌ واستحلالُ فُرُوجٍ وتحريمُها، ومِن ذلك الميراثُ؛ فلو مات أحدُ الزوجَيْنِ في آخِرِ يَوْمٍ مِن عِدَّةِ طلاقِ الرَّجْعةِ ولم تخرُجْ منها، فإنَّهما يَتوارَثانِ، وتعتدُّ الزوجةُ لوفاةِ زوجِها، وبضبطِ العِدَّةِ تُحفَظُ الأرحامُ مِن أن يكونَ فيها نُطْفةٌ لزوجٍ سابقٍ، فتتزوَّجُ غيرَهُ فيَنتسِبُ الولدُ إلى غيرِ أبيه، وكلُّ خِطْبةٍ لزوجةٍ في عِدَّةِ طلاقِها فهي محرَّمةٌ؛ لأنَّها في عِصْمةِ زوجِها واحتمالِ رَجْعتِها إليه، فضلًا عى حُرْمةِ وطءِ غيرِ زوجِها لها -ولو كان بعقدٍ- في أثناءِ العِدَّةِ.

السُّكْنَى للمطلَّقةِ:

قال تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}، نَسَبَ اللَّهُ البيوتَ إليهنَّ، فقال: {بُيُوتِهِنَّ}؛ ليبيِّنَ حقَّهُنَّ فيها بالسُّكْنَى في أثناءِ عِدَّتِها، فالمطلَّقةُ الرجعيَّةُ لا يجوزُ لزوجِها إخراجُها بعدَ تطليقِهِ لها حتى تخرُجَ مِن عِدَّتِها؛ كما أنَّه لا يجوزُ لها أن تخرُجَ هي مِن بيتِ زوجِها: {وَلَا يَخْرُجْنَ}؛ لأنَّها وإن كانتْ مطلَّقةً فهي في عِصْمةِ زَوْجِها لا تخرُجُ إلَّا بإذنِه.

وإنْ خرَجَتِ المطلَّقةُ مِن بيتِ زوجِها بغيرِ إذنِه، فلا نَفَقةَ لها ولا سُكْنى؛ وهذا مُقتضَى سياقِ الآيةِ.

وقولُه تعالى: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} بيَّن اللَّهُ أنَّ المرأةَ إنْ أتتْ بفاحشةٍ بيِّنةٍ، وهي الزِّنى، فلزَوْجِها إخراجُها مِن منزلِه؛ لأنَّها خانتْ أمانتَهُ وعَهْدَهُ معها وميثاقَ اللَّهِ الذي أخَذَهُ عليها.

وقد فسَّر الفاحشةَ بالزِّنى جماعةٌ، كابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ وجماعةٍ مِن السلفِ (5).

ومِن السلفِ: مَن حمَلَ الفاحشةَ هنا على فُحْشِ اللِّسَانِ وبَذَاءتِه؛ كأنْ تتسلَّطَ بالفُحْشِ على الزوجِ وعلى أهلِهِ كأُمِّه وأبيهِ؛ وهذا مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ (6).

ومنهم: مَن حمَلَ الفاحشةَ على كلِّ معصيةٍ، ورُوِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ أيضًا (7)، وصوَّبه ابنُ جريرٍ (8).

وقولُه تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بيانٌ بأنَّ أحكامَ الطلاقِ والعِدَدِ والسُّكْنَى أحكامٌ للَّهِ لا يجوزُ الخروجُ عنها مهما بلَغَتِ البَغْضاءُ بينَ الزوجَيْنِ، فأمرُ اللَّهِ وحَدُّهُ فوقَ ذلك كلِّه، ومَن خالَفَ تلك الحدودَ مِن الزوجَيْنِ، فظُلْمُهُ على نفسِه؛ فاللَّهُ لم يَشرَعِ الأحكامَ إلَّا لمنفعتِهِ ولو جَهِلَ ذلك أو غابتْ عنه حِكْمَتُه، وبيانُ ذلك في قولِه تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}؛ يعني: أنَّ اللَّهَ يُحدِثُ مِن تغيُّرِ الحالِ والرأي بينَ الزوجَيْنِ بعدَ عجَلةِ الطلاقِ ما يَنْدَمانِ عليه، فيَتراجَعانِ عن قُرْبٍ قبلَ خروجِ الزوجةِ مِن بيتِها، وقبلَ انقضاءِ العِدَّةِ، فجعَلَ اللَّهُ العِدَّةَ أجَلًا للنظرِ ومراجعةِ النَّفْسِ، فلو تَفَرَّقَ الزوجانِ مِن أولِ وقوعِ الطلاقِ، وخرَجَتِ الزوجةُ مِن بيتِ زوجِها، كانتِ الرجعةُ أشَقَّ، ومكابَرَةُ النفوسِ وعنادُها أشَدَّ، فتُهلِكُ العجَلةُ أهلَها، واللَّهُ يُريدُ بهم رِفْقًا.

وقد صحَّ عن عليٍّ قولُه: ما طلَّقَ رجلٌ طلاقَ السُّنَّةِ، فَنَدِمَ (9).

وذلك أنَّ اللَّهَ لم يشرِّعْ ذلك ويَضَعْ له عِدَّةً وحَدًّا إلَّا لتخرُجَ الزوجةُ مِن نَفْسِ زوجِها، والزوجُ مِن نفسِ زوجتِه، ولا يَجِدَا ألمًا وحَسْرةً على الفِراقِ، ولكنْ يَندَمُ الناسُ على الطلاقِ بمقدارِ مُخالفتِهم لحدودِ اللَّهِ فيه.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن، ص2154

الإشارات المرجعية:

  1. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٣).
  2. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٩).
  3. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٨)، وتفسير ابن كثير (٨/ ١٤٣).
  4. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٥ - ٢٧)، وتفسير ابن كثير (٨/ ١٤٣).
  5. تفسير ابن كثير (٨/ ١٤٣).
  6. تفسير الطبري (٢٣/ ٣٤).
  7. تفسير الطبري (٢٣/ ٣٤).
  8. تفسير الطبري (٢٣/ ٣٦).
  9. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (١٧٧٣٧)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٣٢٥).
     
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطلاق #السكنى
اقرأ أيضا
اللغة الشاعرة هي اللغة العربية. | مرابط
لسانيات

اللغة الشاعرة هي اللغة العربية.


وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي يميزونها بثلاث نقط من تحتها بدلا من النقطة الواحدة أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة والفاء ذات النقط الثلاث v أو كما يحدث في الجيم المعطشة وغيرها.

بقلم: عباس محمود العقاد
570
ضرر الذنوب في القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرر الذنوب في القلب


ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب

بقلم: ابن القيم
358
شبهة: المدة الزمنية لخلق السماوات والأرض بين العلم والقرآن | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: المدة الزمنية لخلق السماوات والأرض بين العلم والقرآن


تقول الشبهة: توضح كثير من سور القرآن أن السموات والأرض قد خلقت في ستة أيام وهنا مشكلتان الأولى انه من الثابت علميا أن خلق السموات والأرض قد استغرق بلايين السنين والثانية: أنه في التعبير القرآني نفسه كانت مدة الخلق ثمانية أيام بدلا من ستة فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآيات

بقلم: محمد عمارة
1329
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج4 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج4


ومن علامات وأمارات وأشراط الساعة: تطاول الناس بالبنيان وفيه إشارة إلى الجزئية التي تقدم الإشارة إليها وهي البنيان الذي يعلو جبال مكة أي: يفوقها وربما كان عليها الناس يتطاولون بالبنيان كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله جبريل قال: وما أمارتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان

بقلم: عبد العزيز الطريفي
1130
بين الإمام أحمد والكرابيسي | مرابط
مناظرات فكر مقالات

بين الإمام أحمد والكرابيسي


من باب المباحثة مع إخوتي الكرام حول قصة الإمام أحمد مع حسين الكرابيسي المشهورة وشدة موقف الإمام أحمد منه كما جاء ذلك عنه بروايات كثيرة وهنا في هذه الخاطرة القصيرة محاولة لتسليط المجهر حول هذه القصة وتداعياتها والبحث عن ملابساتها وواقعها الزمني قبل الحكم عليها

بقلم: عبد اللطيف بن عبد الله التويجري
2215
نحن المسلمين | مرابط
فكر مقالات

نحن المسلمين


لا نهن ولا نحزن ومعنا الله ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس هذا النشيد القوي: الله أكبر البطولة سجية فينا وحب التضيحة يجري في عروقنا لا تنال من ذلك صروف الدهر ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها ويعيش أهلها من جحيمها في جنات

بقلم: علي الطنطاوي
1528