بين الإمام أحمد والكرابيسي

بين الإمام أحمد والكرابيسي | مرابط

الكاتب: عبد اللطيف بن عبد الله التويجري

2216 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله، أمَّا بعد: فمن باب المُباحثة مع إخوتي الكرام حول قصة الإمام أحمد مع حسين الكرابيسي المشهورة، وشدة موقف الإمام أحمد منه كما جاء ذلك عنه بروايات كثيرة، وهنا في هذه الخاطرة القصيرة محاولة لتسليط المجهر حول هذه القصة وتداعياتها، والبحث عن ملابساتها وواقعها الزمني قبل الحكم عليها؛ ومثلُ هذه القضية تحتاج من الناقد التريثَ والتثبتَ قبل استصدار الحكم بَلْهَ التصورَ لحقيقة ما جرى، وألا يَجري فيه بنظره العقلي بعيدًا عن تقويم أهل العلم العارفين ممن شهد القضية واطلعَ على ملابساتها.
 

غضب الإمام أحمد على الكرابيسي

نعودُ لموضوعنا وكلام الإمام أحمد في أبي علي الكرابيسي، وهل صحيح أن الإمام أحمد لم يغضبْ على الكرابيسي ويشتدَّ عليه إلا بسبب قوله: "لفظي في القرآن مخلوق" فقط مع شناعتها وعظمها كما بيَّنه ابن تيمية في مواضع في المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى؟
 
من خلال نظرة سريعة في أطراف القضية يظهر أن غضب الإمام أحمد على حسين الكرابيسي لم يكن بسبب ذلك فقط كما أشار إليه الإمام ابن رجب في شرح علل الترمذي [806/2 ط: دار السلام المصرية] حيث ذكر جوانب أخرى من تصرفات الكرابيسي تبين حقيقة موقف الإمام أحمد منه.
 
منها: أن الكرابيسي ألف كتابًا سماه: "المدلسين" فلما عُرض على الإمام أحمد "ذمَّه ذمًّا شديدًا" وقال كلامًا مصلحيًا بديعًا جاء فيه: (هذا جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به، حذِّروا عن هذا، ونهى عنه). قال ابن رجب مسببًا ذلك: (وقد تسلَّط بهذا الكتاب طوائفُ من أهل البِدع من المعتزلة وغيرهم في الطَّعن على أهل الحديث..). [شرح علل الترمذي، 807/2].
 
ومن اللَّفتات المهمة في هذا الموضوع: أن هذا الذَّم من الإمام أحمد للكرابيسي لم يكن من الإمام أحمد وحده فقط بل ذمَّه كذلك أبو ثور وغيره من العلماء، حتى قال الكرابيسي نفسه: (وقد سألني أبو ثور وابن عقيل، وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيتُ عليهم. وقلت: بل أزيدُ فيه – ولجَّ في ذلك وأبى أن يرجعَ عنه)! كما نقله عنه الإمام ابن رجب في شرح العلل [807/2].
 
ونقل عن الإمام الكبير يحيى بن معين شدته عليه أيضًا كما نقله جعفر بن أبي عثمان الطيالسي قال: (سمعت يحيى بن معين، وقيل له: إن حسينًا الكرابيسي يتكلم في أحمد بن حنبل؛ فقال: ومن حسين الكرابيسي لعنه الله؟! إنما يتكلم في الناس أشكالهم؛ ينطل حسين، ويرتفع أحمد. قال جعفر: ينطل: يعني ينزل).
 
وقيل ليحيى بن معين: (إن حسينًا الكرابيسي يتكلم فِي أحمد بن حنبل قال: ما أحوجه أن يُضرب!). [تاريخ بغداد، 64/8 ط: دار الكتب العلمية] ولما تكلم ابن حبان في الثقات [189/8] عن أبي علي الكرابيسي قال: (ولكن أفسدهُ قلَّة عقله فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير حتى صار علمًا يقتدى به ووضع من شاءَ معَ العلم الكثير حتى صار لا يُلتَفت إليه).
 

ليس الإمام أحمد وحده

فأنت ترى أن الشِّدة على حسين الكرابيسي ليست من الإمام أحمد فقط؛ بل إن أئمة الحفاظ والعلل قد تكلموا فيها واشتدت عباراتهم عليه بسبب تصرفاته وكلامه في الإمام أحمد حتى قدحت في روايته كما نبه عليه الذهبي بقوله: (مقت الناس حسينًا لكونه تكلم في أحمد) [ميزان الاعتدال، 544/1 ط: دار المعرفة].
 
وانظر كيف كان كلامه في الإمام أحمد سببًا لمقت (الناس) لتُعلَم منزلة أحمد، وأن القضية ليست مجرد وجهة نظر شخصية، والناس هنا ليسوا دهماء الناس بل هم من يمثل الوسط العلمي، ولذلك لا تجد من استنكر موقف الإمام أحمد من الكرابيسي وشدته عليه من أئمة ذاك الزمان.
 
ولم يكتفِ النقاد الكبار بعدم لوم الإمام أحمد على شدته هـذه؛ بل وافقوه حتى جاءت عباراتهم شديدة على الكرابيسي نفسه كما في كلام يحيى بن معين السابق وغيره من الأئمة، ومن ثم لا وجه لمن أنكر على الإمام أحمد شدته عليه من النقاد المعاصرين.
 

فتنة اللفظية

الأمر الآخر في تداعيات هذه المسألة: أن فتنة "اللفظية" انتشرت وأُظهرت على يد الكرابيسي وذلك سنة أربع وثلاثين ومئتين، فأراد الإمام أحمد قمعها في بداية ظهورها، جاء في سير أعلام النبلاء [290/11] لمؤرخ الإسلام الإمام الذهبي:

(أول من أظهر مسألة اللفظ حسين بن علي الكرابيسي، وكان من أوعية العلم، ووضع كتابًا في المدلسين، يحط على جماعة: فيه أن ابن الزبير من الخوارج. وفيه أحاديث يقوي به الرافضة، فأعلم أحمد، فحذر منه، فبلغ الكرابيسي، فتنمر، وقال: لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها، فيكفر. فقال: لفظي بالقرآن مخلوق."

تأمل قوله هنا: (لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها، فيكفر)! فهذا يدل على أن القصة فيها أخذ ورد وفيها فتنة واستثارة لأهل الحديث وأحمد؛ مما يحتِّم على الناقد ضرورة معرفة سياقاتها وأطرافها حتى تكتمل الصورة ويُعرف تداعياتها وأسبابها؛ والإمام الذهبي على جلالة قدرة وإعماله النقدي المشهور عَقِب الحكايات والقصص لم يعترض على كلام الإمام أحمد بل نظَّر لقوله وأيده قائلًا: (فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطرفين، إذ كل واحد من إطلاق الخلقية وعدمها على اللفظ موهم، ولم يأت به كتاب ولا سنة، بل الذي لا نرتاب فيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق). [سير أعلام النبلاء، 290/11].
 
هذا الكلام الذهبي من الذهبي يعطي درسًا فيما يجب على الناقد، فأنت تعلم أن الإمام الذهبي لا يعتبر الإمام أحمد معصومًا لكنه أحسن في توجيه موقفه، وحَمَلَ كلامه على أحسن المحامل، وهذا هو المؤمل من الناقد الخبير.
 
ومراعاة كلام المتخصص جادة مسلوكة عند أهل العلم؛ فكيف إذا كان هذا المتخصص قد تَفرد بالإمامة فيه، وحين تَطرق العالم الرباني ابن جرير الطبري لفتنة "اللفظية" أعاد فيها الأمر للإمام أحمد، وقال: (ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله – يعني الإمام أحمد -؛ إذ لم يكن لنا إمامٌ نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع). [مجموع فتاوى ابن تيمية، 423/12].
 
كيف إذا عُلم أن الجهم قال في البداية أن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة كما قاله الإمام أحمد في الإبانة الكبرى لابن بطة [338/1] ولذلك جعل اللفظية شرًا من الجهمية في رواية.
 

خاتمة

وفي خاتمة هذه الخاطرة أردت أن أقدم أنموذجًا يُوضح أن قضايا الأعيان التي تُنقل عن الأئمة الكبار المشهود لهم بالمعرفة والدراية= ينبغي أن تُنظر في كامل سياقاتها ومناطاتها، لتكتمل النظرة الموضوعية تجاهها؛ خاصةً وأن القول قولهم وقد بلغوا فيه شأوًا عاليًا، ومن التجوز في المباحثة توهم أن الإمام أحمد لا يعرف عن الكرابيسي إلا ما نقل له المروذي فقط مع أن الروايات تعددت وتنوعت عن الإمام أحمد في مواقفه منه! أمَّا وضع المجهر وتضخيمه لقضية أو قضيتين وبناء التصور والحكم عليها وترك ما سوى ذلك مما يرشِّد نظرة الناقد فهذا قصورٌ لا يساعد على الإنصاف في قراءة الموقف، والله أعلم.

 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/Doat/twijri/3.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أحمد-بن-حنبل
اقرأ أيضا
الحكمة من خلق الإنسان؟ | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الإنسان؟


ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس له ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه ليسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي فإذا ما بصره الله وعلمه وأنبته وتملك وأصبح له وظيفة وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه نسي الله وتمرد على حدود الله وانتهك محارم الله وحدوده فأين العقول؟!

بقلم: د. عائض القرني
1382
من مقومات المجتمع المسلم: اتباع السنة | مرابط
فكر تفريغات

من مقومات المجتمع المسلم: اتباع السنة


كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على ما ظهر من بدع في أيامهم كما أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على بدع في التسبيح فعلها بعض القراء ثم لما ظهرت الفرق المبتدعة وتميز أهل السنة رأينا كيف كانت عقوبتها

بقلم: سفر الحوالي
431
لماذا نحب الرسول الجزء الأول | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الأول


في هذه المحاضرة يدور الحديث حول محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطريق إليها معناها وأهميتها واجباتها ومستلزماتها وما ينبغي أن يكون موقف المسلم تجاه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا الموضوع على درجة عظيمة من الحساسية لما وقع الناس فيه من أهل الإسلام أهل القبلة بين الإفراط والتفريط هذا الموضوع ينبغي أن يفتح كل مسلم قلبه وسمعه لتفاصيله ويتذكر حتى ولو لم يتعلم شيئا جديدا ويستعيد إلى نفسه وقلبه ذكريات هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويتذكر حقوق رسول الله وواجباته

بقلم: محمد المنجد
839
من براهين النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

من براهين النبوة


وكان من حكمة الله سبحانه ورحمته أن أيد أنبياءه ورسله بالآيات والبراهين وعزز دعوتهم بالحجج والدلائل التي من شأنها أن تزيح عن الفطر حجب الشبهات وتنفي عن القلوب خبث الشهوات وتستنقذ العقول من الظلمات بإذن الله وذلك أولا بما جعل في مخلوقاته من الدلالة على خالقها وشهادتها بربوبيته وألوهيته وكماله وحكمته وفي ذلك برهان الأنبياء على ما يدعون إليه من التوحيد والإيمان بالبعث ثم بما خص به أنبياءه من الآيات القولية والحسية الدالة على صدق نبوتهم

بقلم: سعود العريفي
484
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج2


نحن لا نفهم قيمة العلوم الحياتية حقيقة وبالذات الشباب الملتزم الذي له واجهة إسلامية واضحة فهو لا يعطي هذا الأمر قدرا وقد ساهم في ذلك -وللأسف الشديد- بعض علماء المسلمين فبعض علماء المسلمين قديما وإلى الآن يسير على نهجهم البعض صنفوا العلوم إلى علوم شرعية وحياتية إلى علوم دينية ودنيوية أو علوم أخروية ودنيوية فقالوا: علوم الدين كالفقه والتوحيد والتفسير والحديث وما إلى ذلك وقالوا: علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم فما الذي نتج عن ذلك نتج أن الإنسان الملتزم بدينه يشعر بحرج شديد أ...

بقلم: د راغب السرجاني
695
في ذكر من غلب من العوام بذكائه كبار الرؤساء | مرابط
مقالات

في ذكر من غلب من العوام بذكائه كبار الرؤساء


وقال الصاحب بن عباد ما أخجلني غير ثلاثة منهم أبو الحسين البهديني فإنه كان في نفر من جلسائي فقلت له وقد أكثر من أكل المشمش لا تأكله فإنه يلطخ المعدة فقال ما يعجبني ما يطب الناس على مائدته وآخر قال لي وقد جئت من دار السلطان وأنا ضجر من أمر عرض لي من أين أقبلت فقلت من لعنة الله فقال رد الله غربتك فأحسن علي إساءة الأدب وصبي مستحسن داعبته فقلت لبيك تحتي فقال مع ثلاثة أخر يعني في رفع جنازتي فأخجلني قال رجل شربت البارحة فاحتجت إلى القيام لإراقة الماء كأنني جدي فقال له عامي لم تصغر نفسك يا سيدنا

بقلم: ابن الجوزي
874