وكان من حكمة الله سبحانه ورحمته أن أيد أنبياءه ورسله بالآيات والبراهين، وعزز دعوتهم بالحجج والدلائل، التي من شأنها أن تزيح عن الفطر حجب الشبهات، وتنفي عن القلوب خبث الشهوات، وتستنقذ العقول من الظلمات، بإذن الله، وذلك أولًا بما جعل في مخلوقاته من الدلالة على خالقها، وشهادتها بربوبيته وألوهيته، وكماله وحكمته، وفي ذلك برهان الأنبياء على ما يدعون إليه من التوحيد والإيمان بالبعث، ثم بما خص به أنبياءه من الآيات القولية والحسية الدالة على صدق نبوّتهم.
وجميع هذه الآيات والبراهين والحجج، إنما هي موقظ للفطر، ومذكّر لها بما عرفته من قبل، وغفلت عنه بعد، أو نسيته بسبب اجتيال الشياطين. ولما كانت رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، آخر الرسالات وخاتمتها، وحجة الله على عباده إلى يوم الدين، كان لها من الآيات والبراهين النصيب الأوفى والحظ الأوفر، وفقا لسنة الله تعالى في تيسير أسباب الشيء بحسب حاجة العباد إليه، رحمة منه وفضلًا.
وكان من حكمة الله تعالى أن تكون أعظم آياتها باقية مستمرة، موافقة لبقاء الرسالة، ومبالغة في الإعذار إلى من بلغته، إذ وقف عليها دون واسطة. كما أن من حكمته سبحانه جعلها معلومة بالطريق نفسه الذي يعلم به شرعه؛ لتكون أوصل إلى الالتزام بمقتضاها؛ من عبادة الله، فلا تقف عند مجرد الإيصال إلى المعرفة، وهذا مما خُصّت به الرسالة الخاتمة؛ أن جُعلت براهينها الكبرى كامنة فيما أوحي إلى نبيّها.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من الأنبياء نبي إلا وأعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة. فبين أن برهانه الأعظم، الذي خُصّ به من بين الأنبياء، هو هذا الوحي، وأن من شأنه أن يُهدَى به أكثر من غيره من آيات النبوة، لقوة حجته وظهور سلطانه.
ولذا أنكر الله سبحانه على من طلب الآيات على صدق نبيه عدم اكتفائهم بالقرآن، فقال "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ۖ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"
فدل ذلك على أن من أراد الإيمان لم يردّه عنه سوى طلب الدليل والبرهان، لا التعصب أو الهوى، وأن القرآن كاف في ذلك غاية الكفاية، وأنه لا رجاء لأحد بعده في الإيمان.
المصدر:
سعود العريفي، الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، ص5