التغريب: الأهداف والأساليب ج5

التغريب: الأهداف والأساليب ج5 | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2285 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين


 

 

ابتعاث المسلمين

ابتعاث المسلمين من بلدان المسلمين إلى بلدان الغرب للدراسة، وقد ظهر هذا قبل قرن ونيفًا، ظهر هذا حينما انبعث من بعض بلدان المسلمين سواءً كان من الشام أو مصر، وهي أول بلدان المسلمين بدأ فيها الابتعاث، وكذلك تونس فقد اقترنت مع مصر في هذا الأمر، وبدأ ما يسمى بإحياء المدارس الغربية، وبدأ ترجمة الأدب الغربي والسلوك الغربي والنمط الغربي، فأصبح نشر الثقافة الغربية هو الحق والصواب، وهي المدنية، وأن الإنسان إذا لبس على الطريقة الغربية فإنه على حضارة وتقدم ولو لم يكن منتجًا، تجد بعض الدول الإسلامية التي انسلخت من دينها وتعرت المرأة لا يخاطبها الغرب على أنها دول متخلفة، وإنما يخاطب الدول ولو كانت قوية اقتصاديًا ما تمسكت بدينها، ولم تسلك النمط الغربي على أنها متخلفة، وذلك لأمرين:

أن أمر الأخلاق مرتبط بالمادة، وكذلك فإن ما يخالف ذلك دليل على ارتباط الدين، والدين له أثر على حرب المادة فيما يظنون، وأن أعظم خطر على بلدان الغرب هو الدين، ولهذا يحاربونه بسائر أحواله وأنواعه، ولا يفرقون بين هذا وهذا، ولهذا من تأثر بالمدارس الغربية من المسلمين والذي احتضنته المدارس الغربية تأثروا تأثرًا مبالغًا فيه، وظهر منهم من نظر في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأظهروا نصوصًا في ذلك وكان منهم شرعيون وقضاة ودعاة، وظهر هذا أيضًا في الشام وتونس، فإنه قد ذهب طلبة علم للابتعاث إلى بلدان الغرب، فجاءوا بالفكر الغربي، فأخذوا ينظرون إلى النصوص ويئولونها حتى تتوافق مع النمط والطريقة الغربية، فدعوا إلى خروج المرأة وعملها، ودعوا كذلك إلى اختلاطها بالرجال، ودعوا إلى ما يسمى بالمساواة بين الذكر والأنثى، وأنه لا فرق بين الرجل والمرأة، والذي دعاهم لذلك هو الانبهار بالمادة.
 
وبدأت نفوس المسلمين بدأت تتروض بعد إدراك كثير من أمور المادية، وأن المادة لا ارتباط لها بما يسمى بصحة العقائد وغيرها، وكذلك فإنه في ابتداء ما يسمى بالتغريب الفكري في ذلك الزمن لم تكن الكفة متوازنة، من جهة قوة الحق والباطل كانت الدعوة في ذلك قوية، يختلف بذلك ما يسمى بالاستعمار العسكري مع الغزو الفكري مع أطر الناس، ومنع كل مناهض لتلك الدعوة، أما في زمننا فكانت ثمة أكفة شبه متوازنة، ما يسمى بوجود وسائل الإعلام التي تدعو إلى الحق وتواجه الباطل وكذلك ما يسمى بالمحاضرات والندوات، وكذلك وسائل الإعلام سواءً كانت مرئية أو مسموعة، وما يسمى بشبكة المعلومات والانترنت التي تدعو إلى الله عز وجل، ودخلها أهل الإسلام والحق، فبينوا طرائق أهل الضلال والزيغ، وطرائق الحق.

وينبغي أن يعلم أن ثمة أمورًا مهمة في هذا وهو أن أخطر الدعوات إلى التغريب هي الدعوة التي تدعو إلى التغريب باسم الإسلام، وهذا كما تقدم الإشارة إليه هو البوابة التي دخل عليها التغريب في مصر والشام، فإن من ظهر في زمن التغريب في بلاد مصر كانوا قضاة، وكانوا دعاة ومفتين، فإن من دعا إلى نزع حجاب المرأة المسلمة هو قاسم أمين وقد كان قاضيًا، وكذلك فإن من كان مفتيًا وهو أول مفت بالبلاد المصرية، ولم يكن ثمة مفت قبله وهو محمد عبده، وكان مفتيًا ومشرفًا على سائر القضاة، فهو قد تكلم على هذا الأمر ودعا إلى الانخراط في الثقافة الغربية، كذلك طه حسين كان أزهريًا قد درس في الأزهر، وابتعث ثم دعا إلى الانخراط في الثقافة الغربية حلوها ومرها، وأنه لا يمكن لنا أن نتقدم إلا بالانخراط بها، فكان ثمة دعوات قوية إلى التغريب، وهذا نوع من الخلط في هذه الأمور التي ينبغي للإنسان أن يميز بين أخذ الحق من أهل الباطل، وبين الإنسان الذي يناكف الباطل بالجملة مع ما فيه من حق.
 

الاقتباس مما عند الآخرين

النبي عليه الصلاة والسلام ربما أخذ حقًا من أهل الباطل، ولكن مع اقتران ذلك بذم أهل الباطل، النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى لما قدم المدينة وجد أهل المدينة يصومون يوم عاشوراء، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نحن نصومه لأن الله عز وجل نجى فيه موسى وقومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا أولى بموسى منكم )، لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: نصوم معكم، وإنما قال: ( نحن أولى بموسى منكم )، يعني: أنكم شيء ونحن شيء آخر، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن العاقل إذا وجد شيئًا يستفاد منه أنه ثمة طرق في هذا الأمر:
 
الطريقة الأولى: الاستفادة من ذلك الأمر مع بيان وجوه المفارقة بين أهل الباطل وأهل الحق، وأن الإنسان لا يجعله يخالف أهل الزيغ والضلال أنه يدع ما لديهم مما وجد عندهم من الحق.
 
الطريقة الثانية: أن الإنسان يأخذ ذلك الحق ويسكت عن بقية الباطل، وهذا من التلبيس والضلال الذي ينبغي للإنسان أن يكون على بينة منه، وعلى سبيل المثال يأتي إنسان ويمتدح مثلًا صورة من صور الطرائق الغربية ويدع ذم الغرب، وينتقي المحامد لديهم، ويقول: لدى الغرب كذا وكذا من الأمور الحسنة، ويجتنب الأمور السيئة، وهذا من الأمور التي تغري كثيرًا من الناس، ونمثل لها بالإنسان الذي لديه عقد، وهذا العقد مزيف، وفي هذا العقد حلقة من حلقاته، وجوهرة من الجواهر، وهي واحدة ضمن عقد تام، فيأتي إليها ويثني عليها في كل محفل، وهذه جوهرة وهذه جوهرة، فيسكت عن الباقي..

فإن الناس في ذلك يظنون أن الباقي قريب منها، أو على نحوها، وهذا من التدليس الذي ينبغي للإنسان العاقل أن يترفع عنه، وأن الإنسان إذا أراد أن يستفيد منها فيقول: هذه جوهرة قد جعلت بين زيف، فيبين المزيف، ويبين الحق، فإن هذا من الأمور التي تفقدها الأمة في زماننا، فكان الناس في ذلك على طرائق: طرائق يسلكون هذه الطريقة في أبواب الخلط وطرائق من تنكب طريقة أهل الباطل بما فيها من حق مما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وانصرف عن هذه الطريق مما جعل الأمة تتأخر في بعض أبوابها.
 
الطريقة الثالثة: وهي الطريقة الضعيفة وهم الذين حاولوا أن يأخذوا شيئًا ويدعوا شيئًا، وترددوا في بعض الأمور، ولكنه بصوت ضعيف، لا يمكن أن يوصل حقًا إلى سائر الناس، وهذا الصوت ينبغي أن يظهر ببيان الحق وبيان الباطل حتى ينقطع التلبيس عند دعاة الضلال والزيغ، وذلك أن كثيرًا من التغريبيين الذين يدعون المجتمعات المسلمة على سبيل الخصوص إلى الدخول إلى الطريقة الغربية أنهم يلومون أهل الإسلام ويقتنصون جملة من كلام المسلمين أنهم ما استفادوا من كذا، ويحاربون كذا، ويحرمون كذا، فلا يظهر من كلام أهل العلم إلا المنع، فينبغي أن يظهروا مع المنع القبول لبعض الخير الذي ينفع الناس، فيقول: هذا الأمر هو أمر خيرٍ ينبغي أن يؤخذ ويستفاد منه، وهذا الشر ينبغي أن يرد، ويذكر الشر بعينه وخصوصه، وحتى يكون الناس على بينة منه، وحتى لا يقع الخلط في هذا الأمر، وقد استغل أعداء الملة والدين ذلك الخلط الذي وجد عند كثير من أهل الصلاح، والعامة أيضًا في الخلط في هذا الأمر وجد من يخلط في قبول الحق، ويحمل جملة من الحق على بعض الباطل؛ حتى يلتبس عليه وعلى غيره.
 

النظر إلى المصالح والمفاسد

لهذا وجب على أهل الإسلام أن ينظروا إلى المصالح والمفاسد، وأن يدققوا فيهما؛ لأن العالم الحق هو الذي يميز بين درجات الخير ودركات الشر، وهذا هو العالم الذي يوفقه الله عز وجل، وليس العالم الذي يميز بين الخير والشر فقط، الذي يميز بين الخير والشر هذا من جملة العوام، أما الذي يميز بين الدرجات أن هذه أولى من هذه، وهذه إذا اقترنت بهذه فإن هذه أولى منها.
 
كذلك من دقائق معرفة الأحوال أن يعرف الإنسان مآل الشيء، فقد يكون الشيء خيرًا، ولكن مآله إلى شر، وقد يكون الشيء شرًا ولكن مآله إلى خير، ونحن نرى في زمننا هذا أن أعظم ما يواجه به الباطل هو وسائل الإعلام، والبعد عن وسائل الإعلام بالكلية في نشر الخير ومواجهة الباطل هذا من أظهر وجوه التقصير في زماننا الذي ينبغي للإنسان أن يستغلها قدر إمكانه ووسعه ببيان الحق للناس مع التمسك بالهدي والتمسك بالحق، ومهما وجد المخالفين له في بيان الحق، سواءً بالتنديد بقوله، أو ما يسمى بالغلو أو التشدد أو مخالفة الحضارة أو التمدن أو التخلف، أو نحو ذلك.

فهذه أوصاف قد وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يأتي إلى رؤساء القبائل ويعرض نفسه في نواديهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يأتي إلى الصفا وعن يمينه وشماله الأصنام عند الكعبة، وكان يدعو كفار قريش إلى الحق، ويأتي إليهم في نواديهم وفي أعيادهم وفي مجتمعاتهم ونحو ذلك، وكان ربما أدى عبادته والأصنام عن يمينه وشماله وهو يستقبل في ذلك الكعبة، فلكل مرحلة طريقها، فينبغي للإنسان أن يسلك في ذلك الطريق الذي يوصل إلى الحق المحض، شريطة ألا يجامل في دين الله جل وعلا، فهو إن أمسك في موضع لمصلحة فإنه يجب عليه أن يبين في موضع آخر، حتى لا يغلب على الإنسان الخوف من الباطل، وكذلك اضمحلال الحق وانطفاء جذوته في قلب الإنسان، فإنه إذا انطفأت جذوة الحق من قلب الإنسان انساق خلف الباطل من حيث لا يشعر، وبدأ الحق يضمحل في قلبه حتى لم يجد له هيبة.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطريفي #التغريب
اقرأ أيضا
النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة


خرج الترمذي من حديث يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون إزداد وإن كان مسيئا ندم أن يكون نزع وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هشام الرفاعي حدثنا حفص بن غياث عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر دفن حديثا فقال: لركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفلون يراهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم

بقلم: ابن رجب الحنبلي
1367
العلمانيون ووهم الاستقلال الفكري | مرابط
العالمانية

العلمانيون ووهم الاستقلال الفكري


من المفارقات العجيبة أن أصحاب الفكر العلماني مع دعواهم الاستقلال الفكري ودعوتهم إلى التحرر من سلطة أي مرجعية إلا أنهم في حقيقة حالهم إنما يبنون مقولاتهم ومشاريعهم على مسلمات ليس لهم فيها جهد مستقل بل هم فيها مقلدون ومجرد صدى لما يطرح من مقولات وتحولات واتجاهات في الفكر الغربي فهم في حقيقة الأمر إنما تركوا مرجعية إلى مرجعية وانتقلوا من القطيعة مع التراث الإسلامي إلى الاستمداد من الفكر الغربي.

بقلم: عبد الله القرني
425
القوامة وظلم الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات النسوية المرأة

القوامة وظلم الزوجة


إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا -الذي ما فتيء ينادي ويصرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة- لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأخزاب إلى الرجال في هذه الدولة

بقلم: منقذ محمود السقار
2103
ذكر ما يصدأ به القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذكر ما يصدأ به القلب


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال حذيفة إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير قلبه كالشاة الربداء

بقلم: ابن الجوزي
731
بين منزلتين.. الشك واليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين منزلتين.. الشك واليقين


ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخم شأن الشك وعدم الحسم.. ويقزم اليقين واليقينيات.. بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين! ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة إلى المزيد من طرح الأسئلة! فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيرا بحسم الإجابات! لأن الإجابة تعني الالتزام بأمر ما.. والسؤال المفتوح يجعل الخيارات متاحة دوما لما هان على النفس والتذت به.. والهوى المتغير ألذ من الالتزام بموقف..

بقلم: إبراهيم السكران
232
كيف كان النبي يعالج الكرب والهم والغم والحزن؟ | مرابط
تعزيز اليقين

كيف كان النبي يعالج الكرب والهم والغم والحزن؟


فصل ماتع من كتاب الطب النبوي لابن القيم يبين فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الهم والغم والكرب والحزن ويجمع فيه الأحاديث الواردة في هذه المسائل ودلالتها.

بقلم: ابن القيم
374