وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم التكاثر، وما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم التعمد) رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
هذا الحديث في الطرف الأول منه جزء من الحديث السابق في الدرس الأخير، من حديث عمرو بن عوف الأنصاري، وفيه يقول الرسول عليه السلام بعدما جاءه مال الجزية من البحرين، وتعرَّض له أصحابه عليه الصلاة والسلام، يريدون أن ينالوا ما لهم من حق في ذلك المال الذي أتي به من البحرين، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (أبشروا وأملوا ما وصلكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) طرف من هذا الحديث حديث أبي هريرة: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم التكاثر).
وكأن هذا الحديث بفقرتيه مأخوذ من القرآن الكريم.
أما الفقرة الأولى: (ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى عليكم التكاثر) فذلك قوله تبارك وتعالى: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ" [التكاثر:1] فهذا خطاب لعامة البشر، كأن الله عز وجل يشير إلى أن طبيعة البشر الذين لم يربَّوا على الإسلام، وعلى أخلاق الإسلام، ولم يتأثروا بأوامر الإسلام ووعي الإسلام؛ أنهم يحبون التكاثر في الأموال والأولاد، وأن ذلك ديدنهم وشغلهم، حتى يزوروا المقابر، أي: الموت.. "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ" [التكاثر:1] هذا خطاب لعامة البشر، فلا ينجو من هذا الخطاب إلا المسلم الذي تربى بتربية الإسلام، وتأدب بآداب الإسلام.
فيخشى الرسول صلوات الله وسلامه عليه على أصحابه أصلًا، وعلى من يأتون من بعدهم تبعًا، يخشى عليهم التكاثر في الأموال، ولا يخشى عليهم الفقر؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بكثير من المغيبات، ومنها: أن الله عز وجل سيفتح له كسرى وقيصر، وقد تحقق ذلك كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة وأخبار السيرة.
ولذلك قال لهم: (ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم التكاثر) كأنه يقول لهم: لا تكونوا من عامة الناس، الذين يلهيهم التكاثر حتى يزوروا المقابر -حتى يموتوا- فلا ينفعهم إن ماتوا مالهم، كما مر معنا في أحاديث كثيرة: إن المسلم أو المرء إذا مات يتبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى معه عمله.
ولذلك فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث والحديث السابق وأمثالهما كثير، يخشى على أمته المال، أي: الغنى والثروة، ولا يخشى عليهم الفقر، وهذا هو واقع الأمة الأولى والجيل الأول من المسلمين.
وأما واقعنا اليوم، فنحن لا نكاد نرى فقيرًا يشكو من الجوع أو من العري، هذا لا يمكن! فهذا الذي هو أفقر الناس تراه متظاهرًا بأحسن اللباس، وقد يأكل أنواعًا من الطعام وألذه، ولذلك فلا ينبغي للمسلم أن يخشى الفقر.
وقد سبق أن ذكرنا أن المال فتنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال) فهذا الشطر الأول من الحديث، وهو كما قلنا مشتق من هذه الآية الكريمة: "أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ" [التكاثر:1].
الشطر الثاني وهو قوله عليه السلام: (وما أخشى عليكم الخطأ، ولكن أخشى عليكم التعمد) هذا أيضًا مقتبس من القرآن الكريم، في غير ما آية في القرآن، من ذلك قوله تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ" [الأحزاب:5] فهذا نص القرآن اقتبس منه هذا الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أخشى عليكم الخطأ، ولكن أخشى عليكم التعمد) وهذا من لطف الله عز وجل ويسره بعباده، كما قال عز وجل: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة:185]؛ ذلك لأن الخطأ لا يكاد ينجو منه إنسان، فلذلك ربنا عز وجل لا يؤاخذ عباده على ما يقع منهم من الخطأ، مهما كان هذا الخطأ كبيرًا وعظيمًا، وعلى العكس من ذلك يؤاخذ المرء إذا تعمَّد الإثم ولو كان صغيرًا، فمجال المؤاخذة إنما هو على التعمد، ولا مؤاخذة إذا وقع من الإنسان الخطأ بغير قصد منه.
لذلك هذه النصوص من قرآن وحديث وغير ذلك مما لا مجال لذكره الآن، يلفت نظرنا بقوة إلى أنه لا يمكن بوجه من الوجوه أن يكون الإنسان مجبورًا على أعماله التي تصدر منه باختياره، أي: ما يقوله عامة الناس اليوم وقد يتكلم فيه بعض خاصتهم من قولهم: إن الإنسان مسيَّر لا مخيَّر، ويزعمون أن الإنسان مسيَّر وليس مخيَّرًا.
هذا الكلام على إطلاقه باطل، وإنما هو كما شرحنا لكم من قبل ولا أريد الإطالة، وإنما إشارة سريعة.