وقفات مع قصة موسى عليه السلام

وقفات مع قصة موسى عليه السلام | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

1075 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]

أما بعد.. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

فاخرج إني لك من الناصحين

فقد كان من خبر موسى عليه السلام أنه لما انكشف أمره، أنه هو الذي قتل القبطي، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]* فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، الفاء في قوله تعالى:(فَخَرَجَ).. فيها دلالة على المبادرة بالخروج. بمعنى أنه خرج بلا زاد، بلا أهبة استعداد، خرج بلا دليل يدله، وما بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، خرج على الفور، خرج جائعًا، طريدًا، خائفًا، ولذلك قال الله عز وجل: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، هو عار من قوى الأرض كلها، عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ  [القصص:22]؛ لم تكن له عدة على الإطلاق، إنما خرج فارًا ناجيًا بنفسه، وفي قوله تعالى: (تِلْقَاءَ مَدْيَنَ).. فيه دلالة على أنه لم يكن يعرف أين يتوجه؟!

إنما خرج هاربًا، ما قصد بلدًا بعينه، وهذا واضح من كلمة تلقاء. تلقاء: أي في تلقائية، ليس هناك ترتيب، إنما خرج هاربًا، وهذا أدعى للحيرة، وهو المناسب للخروج بلا عدة ولا ترتيب. فتصور رجلًا خرج بلا أي زاد، ولا يدري إلى أين يذهب، يحمله ليل ويحطه نهار، مثل هذا الذي صنعه الله عز وجل على عينه لا يكون معتمدًا بقلبه إلا على الله، إنني أقول ذلك لتعيش هذا الدور، ولتعلم أن الذي يتوجه إلى الله عز وجل بقلبه فإنه لا يخيبه، إنك لو قصدت رجلًا شريفًا نبيلًا، وقلت له: احمني فإنه لا يسلمك إلى عدوك؛ لأن هذا هو المناسب لكرمه وحلمه ونبله وشرفه. لما خرج سفيان الثوري رحمه الله هاربًا من الخليفة، لقيه أحد عمال الخليفة، وكان رجلًا جوادًا كريمًا اسمه معن بن زائدة، فلما لقيه معنٌ وكان لا يعرفه، قال له: من أنت، قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: نشدتك الله لما انتسبت إلي؛ لأنه بإمكان أي واحد في الدنيا أن يقول: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فناشده الله أن ينسب نفسه.

فقال: أنا سفيان، ومعلوم أن سفيان الثوري آنذاك كل الناس تبحث عنه، قال: أنا سفيان، قال: سفيان بن سعيد، قال: نعم. وكان من المفروض أن يقبض عليه، ومعن بن زائدة أحد عمال الخليفة، يعني بمثابة المحافظ الآن. فقال له: خذ أي طريق شئت، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.. يعني: أنا لا أسلمك. وهكذا جرت سنة الرجال النبلاء، فكيف برب العالمين!! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، حسن الظن بالله عز وجل يقوي القلب على العمل.

لأنك تعلم أنه يقوي ضعفك وأنه محيط بعبيده، وأنه ذو القوة المتين. فالذي خرج بتلقائية بلا إعداد ولا ترتيب: قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، دخل مدين بعد ثمانية أيام، لم يكن له طعام في هذا السفر الطويل إلا ورق الشجر، قلنا: خرج بلا زاد، إذًا: دخل مدين وهو مكدود، متعب، مجهود، يتمنى الراحة، خرج خائفًا يطلب الأمن وهو لا يدري ما تخبئ له المقادير، خرج هذا الإنسان فارًا من الخوف فوقع في خطب أعظم مما فر منه؛ لأنه لا يدري ما يخبئ له القدر. فلما دخل مدين وجد أمة من الناس، أي: خلق كثيرون: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23]، تذود: أي: تكف الغنم عن البئر. هذا يوم الورد، أي ورد الماشية على السقيا، وكل رجل من هؤلاء الرجال معه غنم ومعه بهائم، والكل حريص على أن يسقي ويرجع، والكل يتزاحم، لكنه وجد امرأتين تذودان الأغنام حتى لا تختلط بأغنام القوم: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا [القصص:23]، لاحظ كلامه: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].

وهنا تظهر العضلات!! والشجاعة ما خطبكما؟ والمرأة الحرة لا تخالط الرجال. المرأة الحرة درة مكنونة وجوهرة مصونة، إنما يخالط الرجال الإماء اللواتي يُشترين من الأسواق، وإنما الحرة مخبأة، لا يراها أحد؛ لأنها حرة، والقائم عليها حر، فهو يستنكر أن تخرج امرأته ليراها الخلق، ولذلك قال موسى -حين رأى امرأتين حرتين تختلطان بالرجال- قال: ما خطبكما؟ الخطب الذي هو المصيبة، يعني: أيُّ مصيبة أوقعتكما حتى اختلطتما بالرجال، المرأتان كانتا مرهفتا الحس لما سمعتا: ما خطبكما؟ قالتا: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].

 

وأبونا شيخ كبير

(وأبونا شيخ كبير) أي: لا تسيء الظن بنا، فنحن ما خرجنا لنختلط بالرجال، وإنما الذي أخرجنا أن أبانا شيخ كبير، فدعتنا الضرورة للخروج، هذا الذي جعلنا نخرج، وهكذا الحر، إذا شعر أنه وقع فيما يسيء إليه وإلى مروءته ونبله، سارع وأعطى الدليل أنه ليس كذلك.

أخي الكريم! لست ملكًا كريمًا ولست نبيًا مرسلًا، ولم ينزل وحي بتأييدك، فلن تنجو من سوء الظن بك مهما كان قدرك، فلا تتلبس بالشبهات، ولا تستعلي وتقول: لا، أنا فلان الفلاني، أنا الذي يعرف الناس نبلي وقدري وديني وتقواي، لا. فرب العالمين سبحانه لم يؤمن به إلا القليل من عباده والأغلب كفروا به سبحانه وتعالى ويسبونه ليل نهار، قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، ويشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذبيه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، أوليس إعادة الخلق بأهون علي من ابتدائه وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الله الأحد الصمد، لم أَلد ولم أُولد، ولم يكن لي كفوًا أحد).. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]

يسبونه ليل نهار، ويشتمونه، حتى بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام عندما تقع لأحدهم مصيبة، يقول: لماذا يا رب؟! أنا ماذا فعلت؟! لماذا اخترتني من دون الناس؟ تراه يعترض على أقدار الله وحكمته، يقول الباري عز وجل كما في الحديث القدسي: (خيري إلى العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد).

ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الخلق، وهو ربهم، ولا قوام لهم إلا برعايته إياهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كفر به أكثر أهل الأرض، فلا تقل: أنا رجل محترم، أو أنا رجل لي مكانة، فتتلبس بالشبهات، وتظن أن الناس تحميك أو تدافع عنك، لا. فقد جاء في الحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفًا فجاءته صفية، فتحدثت معه فلما أرادت أن ترجع خرج معها ليقلبها -أي: ليوصلها إلى البيت- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أسرعا الخطا، فناداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! -يعني: أونظن فيك الشر أو السوء؟ أو أن تكون قد وقفت مع امرأة لا تحل لك؟ هذا في الظاهر- قال: إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا فتهلكا) أي: لو أنهما أساءا الظن بالنبي صلى الله عليه وسلم هلكا، فإن من أساء الظن بنبيه كفر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نادى وقال: (على رسلكما إنها صفية ).

فالمرأتان حرتان، ومن بيت كريم. ليستا ابنتي النبي شعيب كما ذهب إليه أكثر المفسرين. ليس هذا الرجل هو شعيبًا النبي. لا. إنما هو رجل صالح، والدليل على ذلك أن شعيبًا عليه السلام.. قال لقومه وهو يعظهم.. وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89]، وجاءت قصة شعيب بعد قصة لوط، ولما يقول لهم: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89]، أي: أن هلاك قوم لوط كان قريب العهد بهم. حتى يتسنى لهم النظر والاعتبار، ولوط عليه السلام كان في زمان إبراهيم عليه السلام، قال تعالى بعدما ذكر قصة إبراهيم في سورة العنكبوت: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26].

ولما جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام وتوجهوا إلى القرية المؤتفكة ليقلبوها على من فيها، قال إبراهيم عليه السلام: إِنَّ فِيهَا لُوطًا [العنكبوت:32]، وما بين إبراهيم عليه السلام وصاحب مدين أكثر من أربعمائة عام، فالصواب أنه عبد صالح وليس شعيبًا النبي، ويدل على ذلك أيضًا أنه لو كانت المرأتان ابنتي شعيب النبي لعرف أهل مدين قدرهما، وما تركوهما، إنما كانوا أعانوهما على السقيا؛ لأنهما ابنتا النبي الكريم، نبي مدين. إنما هو رجل صالح ممن آمن بشعيب عليه السلام وحمل رسالته. إذًا: المرأتان من بيت كريم سواءٌ كانتا ابنتي النبي شعيب، أو كانتا ابنتي رجل صالح، فهما من بيت كريم، بيت ملتزم، بيت يحمل لواء الدين في قرية أغلبها كفرة، فالمناسب أن لا تخرج هاتان المرأتان الحرتان إلا لضرورة.

انظروا إلى واقعنا الآن، فإنه يبعث على البكاء.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول


معركة عين جالوت كانت فاصلة جدا ليس في تاريخ الإسلام فقط بل في تاريخ العالم الإنساني بأكمله فشر التتار لم يقتصر على العالم الإسلامي وإنما وصل اجتياحهم إلى قلب أوروبا وأبادوا بلادا ومدنا كثيرة وأهلكوا الحرث والنسل ودمروا كل شيء وقف في طريقهم وكانت هذه الموقعة فاصلة لأن لها ما بعدها فإما أن يستكمل التتار احتلالهم للعالم بأسره عبر اجتياح مصر ومنها إلى إفريقيا بعد أن وصلوا إلى مناطق متقدمة في أوروبا وإما أن يتصدى لهم المسلمون وينتهي شرهم وهذا مقال هام يحدثنا عن المعركة وكل تفاصيلها بقلم راغب الس...

بقلم: راغب السرجاني
2161
الاعتراف بالذنب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاعتراف بالذنب


اعتراف المذنب بذنبه مع الندم عليه توبة مقبولة قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه وفي دعاء الإستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت

بقلم: ابن رجب
818
ذروا ظاهر الإثر وباطنه | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذروا ظاهر الإثر وباطنه


نهى الله عباده عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن أي: السر والعلانية المتعلقة بالبدن والجوارح والمتعلقة بالقلب ولا يتم للعبد ترك المعاصي الظاهرة والباطنة إلا بعد معرفتها والبحث عنها فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن والعلم بذلك واجبا متعينا على المكلف

بقلم: عبد الرحمن السعدي
381
منهج عبادة | مرابط
مقالات اقتباسات وقطوف

منهج عبادة


من أبرز سمات المنهج الإسلامي أنه منهج عبادة ولكن العبادة في هذا المنهج ليست مقصورة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وإنما هي معنى أعمق من ذلك جدا إنها الصلة الدائمة بالله هذه الصلة في الحقيقة هي منهج التربية كله تتفرع منه جميع التفريعات وتعود في النهاية إليه

بقلم: محمد قطب
2163
الحرية | مرابط
فكر مقالات

الحرية


من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانا في الحرية من الحيوان الناطق فهل كان نطقه شؤما عليه وعلى سعادته وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدا بحريته الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس فمن عاش محروما منها عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم وآخرها بظلمة القبر

بقلم: مصطفى لطفي المنفلوطي
1796
الهجرة إلى الله ورسوله | مرابط
مقالات

الهجرة إلى الله ورسوله


لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه أحدث له ذلك نظرأ فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله وينفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد

بقلم: ابن القيم
717