عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول

عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

2065 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

عندما نتحدث عن عين جالوت التي سقط فيها جيش التتار، فإننا نتحدث عن موقعة بالفعل غيرت خريطة العالم، ورفعت كابوسًا من أكبر الكوابيس التي مرت بها الأمة الإسلامية وغير الإسلامية.. العالم كله كان قد عانى معاناة شديدة من كارثة كادت تقضي على كل صور ومظاهر الحضارة في العالم، لولا موقعة عين جالوت التي ردت للناس الأمة والأمان في العالم كله.

 

ظهور التتار.. وحال الأمة

 

قبل أن نتحدث عن عين جالوت لا بد أولًا أن نعرف من هم التتار الذين سقطوا في الموقعة.. التتار دولة ظهرت على حدود الصين في منغوليا سنة 603هـ، وأنشأ هذه الدولة أحد أكبر سفاحي ومجرمي العالم جنكيز خان، كان شخصية دموية إلى أقصى درجات التخيل، وكان عنده قدرة كبيرة على القيادة والتجميع، فجمع أعدادًا هائلة من التتار، وفي غضون عشر سنوات تقريبًا استطاع أن يضم كل منغوليا التي ظهر فيها، وكل الصين وكوريا وتايلاند وكمبوديا، كل ذلك دولة واحدة أصبح رئيسها جنكيز خان، الذي بدأ بعد ذلك يتطلع إلى ما بعدها، وكانت المملكة الخوارزمية -وهي جزء من الممالك الإسلامية، وهي الآن كازاخستان وأوزبكستان وباكستان وأفغانستان- ملاصقة له، وبدأ يغزو تلك البلاد واستطاع بالفعل أن يجتاح العالم الإسلامي اجتياحًا غير متخيل، لدرجة أنه في سنة 617هـ استطاعت جيوشه أن تحتل العالم الإسلامي من غرب الصين إلى شرق العراق، وتلك مساحة لا تتخيل من الأرض والكثافة السكانية العالية.. وسبحان الله جيوشه كانت في منتهى القوة والعنف والإرهاب!!

 

وهذا يظهر لنا الوضع الذي كان عليه المسلمون؛ ضعف شديد.. فرقة وبعد المسئولين عن الدين.. وتمسك المسلمين بالدنيا.. وانفصال الحكام عن المحكومين.. أمور وأمراض كثيرة أدت لهذا الهوان الذي وصلت إليه الأمة، وبالتالي اجتاحت جيوش التتار كل هذه المساحات. والتتار أدخلوا في حكمهم خلال هذه السنة 617هـ كازاخستان وباكستان وأوزبكستان وأفغانستان وتركمانستان وأجزاء ضخمة جدًّا من إيران شمال وشرق وغرب إيران وأذربيجان كلها، وأرمينيا ولم تكن مسلمة كانت نصرانية، والكورج دولة جورجيا الآن، والشيشان ودخيستان وجنوب روسيا، كل هذا في عام واحد.

 

الاجتياح التتري البربري

 

دموية التتار شديدة تجعل من السهل أن نذكر أن التتار ما دخلوا بلدًا إلا وقتلوا كل سكانها؛ رجالًا ونساء وأطفالًا، محاربين ومدنيين، كل شيء يقتل، يأخذ البلد بكل ثروتها، ويزيح السكان من طريقه.

 

من أشهر الأمثلة غزو مدينة (مروى) الإسلامية التي كانت من حواضر العلم والثقافة والاقتصاد، وهي تقع بين التركمانستان وإيران، وهذه المدينة سكانها كانوا 900 ألف، 200 ألف خرجوا لمحاربة التتار وفنوا عن آخرهم، ودخل التتار وحاصروا المدينة وأعطوا الأمان لأهلها، وخرج أهل المدينة بعهد الأمان، لكن التتار كالعادة خانوا العهد وسفكوا دم 700 ألف، قتلوا المدينة كلها ولم يبق بها حي واحد. واختفت (مروى) ولم يعد لها وجود حتى على الخريطة، وهكذا أكثر من مدينة.

 

والتتار لم يكتفوا بغزو العالم الإسلامي فقط، لكن جاوزوه بعد ذلك إلى أوربا؛ لهذا أقول: إن المعاناة التي عانى منها الناس ليست معاناة إسلامية فقط، لكنها معاناة إنسانية عالمية من جيوش التتار.

 

ودخلوا على أوربا في الثلاثينيات من القرن السابع الهجري من 629 إلى 634هـ، اجتاحوا كل روسيا 17 مليون كيلو متر مربع، سقطت كلها ودمرت موسكو عن آخرها، وجاوز تركيا على أوكرانيا ودمروا كييف العاصمة، ثم اتجهوا إلى بولندا، وتعاون ملك بولندا وملك ألمانيا لحرب التتار، فسحق الجيش البولندي والألماني، وانتقلوا إلى المجر وكرواتيا، ووصلوا إلى ساحل البحر الأدرياتي، نصف أوربا الشرقية كله تحت حكم التتار، وأصبحت دولة التتار سنة 639هـ تصل من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، كل آسيا ونصف أوروبا.

 

وبعد ذلك وفي سنة 656هـ استطاعوا إسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وبذلك سقط الكيان الذي جمع الأمة الإسلامية أكثر من 500 سنة وأكثر، وعندما دخلوا بغداد قتلوا مليون مسلم، وسكان بغداد في ذلك الوقت 3 ملايين، قتلوا ثلث السكان وكانت أكبر مدينة في العالم، وبعد موقعة التتار اختفى ذكرها من الكتب ولم يعد إلا في القرن العشرين؛ لأن بغداد أصبحت مدينة لا وزن لها، إذ إن معظم السكان ماتوا ومعظم عمالقة الشعب ماتوا، العلماء الفقهاء الحكام الأمراء الوزراء المفكرون، كل من له رأي أو قول في بغداد قُتل في البداية، إضافةً إلى تدمير الثروات والقصور والديار، وأشهر ما دمر في بغداد هي المكتبة عندما ألقوا بعصارة فكر الإنسانية كلها في نهر دجلة؛ ليختفي بذلك كم هائل من العلوم ليس في علوم الشريعة فقط، لكن في كل مجالات الحياة علوم فقه وتفسير وأخلاق وعقيدة، إضافة لعلوم الطب والفلك والهندسة وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وكل علوم الحياة.

 

قطز.. وبناء الأمة

 

لم يتخيل أحد أن مصر ممكن أن تقف أمام هذا الكائن الضخم، لكن قطز -رحمه الله- بدأ بسياسة في منتهى الروعة في تأهيل الوزراء والأمراء والجيش والشعب لهذه الموقعة، وكل التأهيل والوقت كان عشرة أشهر فيها وجه الشعب إسلامي واضح.. جعل القضية قضية إسلامية في المقام الأول، يصرف فيها المسلم دمه وروحه وماله من أجل الله عز وجل، وكل القتال الذي سبق وسقوط المسلمين كان لأن المسلمين كانوا يدافعون عن دنياهم ولا يدافعون عن دينهم، حتى الشعوب نفسها لم تكن في ذهنها قضية الدين، وقطز -رحمه الله- بدأ يعيد الناس مرة أخرى إلى الله سبحانه وتعالى، وكان كل هدفه قتال هؤلاء الذين احتلوا نصف العالم تقريبًا في سنوات معدودات، ويستكملون النصف الآخر إذا ما سقطت مصر؛ لأن مصر بوابة إفريقيا.

 

وقطز بدأ ينمي فيهم الروح والحمية وحرك في الناس روح الإيمان، وكان للعلماء دور مهم في مصر.. وأعطى للأزهر وعلمائه دورًا كبيرًا جدًّا، وكان على رأس العلماء العز بن عبد السلام سلطان العلماء الذي كان يحب قطز حبًّا شديدًا جدًّا، ويرى أنه أفضل المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز.. وبدأ العلماء يقومون بدورهم نحو الشعب، وبدءوا يرفعون قيمة الجهاد في سبيل الله، الكل يسعى للجهاد والشهادة.

 

وبعد هذا، قام قطز بشيء مهم جدًّا، ألا وهو القدوة، لم يجلس قطز في قصره الأمن يحرك الجيوش وهو بمعزل عن الخطر، لكنه فعل مثلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، كل شيء بيده قبل يد الصحابة.. هكذا فعل قطز أول ما صعد لكرسي الحكم قال: لم أصعد لهذا الكرسي إلا لقتال التتار. وقال كلمة جميلة: أنا ألقى التتار بنفسي. وكان قطز أول من يسمع لكلام العلماء؛ لذا وافق العز بن عبد السلام عندما رفض فرض الضرائب على الشعب لتجهيز وإعداد الجيش إلا بعد أن ينتهي المال من بيت المال ويرد الوزراء والأمراء الأموال التي أخذوها من بيت مال المسلمين، وعندما سمع قطز تلك الفتوى قال: أنا أول من يفعل ذلك. ولم يُبقِ في بيته شيئًا إلا الفرس والسلاح.

 

لم يكن قطز لديه مطمع في حكم وسلطان.. شاب صغير لم يبلغ من العمر 35 عامًا على درجة عالية من الفقه والعلم والدراية، ولم يفكر في شيء من متاع الدنيا، ولم يطلب سوى الآخرة بوضوح.. بعد ذلك خطا قطز خطوة رائعة في تاريخ الإنسانية؛ لأنه بدأ يوحِّد الصف مع المسلمين الذين كانوا على خلاف شديد معه قبل ذلك.. نسي كل ذلك، ووضع يده في يد المماليك البحرية التي تتبع نجم الدين أيوب، والتي كان على رأسها الظاهر بيبرس، وكان هو على رأس المماليك المعزية التي تتبع عز الدين أيبك، وكان بينهم خلاف وصراع شديد.

 

نسي كل الخلافات، وأصدر عفوًّا حقيقيًّا عن المماليك البحرية، وطلب منهم تكوين جيش واحد لمحاربة التتار، ووضع على رأس الجيش المصري (فارس الدين أقطاي الصغير)، وهو غير أقطاي الذي قتله مجموعة من المماليك المعزية، وليس قطز كما يدَّعون. وللعلم والتاريخ فإن بيبرس أيضًا لم يقتل قطز، وغير ذلك تزوير في التاريخ، ومحاولات لتشويه الرموز الإسلامية الكبرى.

 

المهم أن قطز بعد ذلك وحَّد مصر مع الشام، رغم أنهم كلهم كانوا خونة وعملاء؛ الناصر يوسف الأيوبي حاكم دمشق كان يوالي الصليبيين مرة والتتار مرة أخرى، ورغم هذا طلب منه وحدة الأمة تحت رئاسته، رغم أن قطز كان في موقف قوة، وأرسل له كلمات جميلة جدًّا "إن اخترتني خدمتك"، وهذا تجرد ورقي في الأخلاق.. وأرسل قطز للمغيث فتح الدين عمر أمير الكرك -في الأردن الآن- وللأشرف الأيوبي أمير حمص الموالي للتتار، ولأمير حماة، ولأمير بانياس.. أرسل لأكثر من منطقة من مناطق الشام لتوحيد الصف، منهم من رفض ومنهم من جاء.

 

المهم أنه في النهاية كوَّن جيشًا من المسلمين المصريين والشاميين، وأهل فلسطين بعد ذلك انضموا للجيش بعد خروج الجيش لحرب التتار، واختار مكان الموقعة في فلسطين، مع أن كل الأمراء رفضوا أن تكون الحرب في فلسطين، لكن قطز -رحمه الله- حوَّل الأمر إلى قضية إسلامية، إضافةً إلى البعد الأمني القومي لمصر من الناحية الشرقية.

 

ولا يمكن لمصر أن تقبل بوجود عدو قوي يحتل فلسطين وتبقى هي في أمان، بالتأكيد أمانها يكون مهددًا، وهذا مثل الوضع الذي نعيشه الآن.. وقصة التتار شديدة التشابه مع واقعنا المعاصر؛ لذا دراستها بنوع من التركيز أمر في غاية الأهمية.. المهم وحد قطز الجيوش وخرج بها، واختار مكان الموقعة في عين جالوت، ورتب جيوشه ترتيبًا محكمًا، وأعد العُدَّة بشكل في منتهى الروعة عسكريًّا وتنسيقًا للجيش ومن ناحية الخطة، وسبق لمكان المعركة قبل جيش التتار، وبالفعل التقى مع جيش التتار يوم 25 رمضان سنة 658هـ في موقعة من أشرس المواقع في تاريخ البشرية.

 


 

المصدر:

  1. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ج1، ص107
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #عين-جالوت
اقرأ أيضا
هل الفكر الإسلامي يتقدم أم يتأخر؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل الفكر الإسلامي يتقدم أم يتأخر؟


وقد اختلفت الأنظار في الجواب على سؤال: هل الفكر الإسلامي يتقدم أم يتأخر؟ وطرحت في الجواب عليه أطاريح متعددة فمنهم من يقرر بأنه يتأخر وأصحاب هذه الأطروحة اختلفوا في تحديد وجه التقدم وزمنه ورموزه ومنهم من يقرر بأنه يتقدم ويتصاعد وأصحاب هذا الطرح اختلفوا في عدد من تفاصيله

بقلم: سلطان العميري
331
موافقة الغرب باسم الإسلام | مرابط
مناقشات المرأة

موافقة الغرب باسم الإسلام


إن المؤلف يلح في كتابه على خروج المرأة من بيتها وانخراطها في العمل العام المختلط من أجل تقدم المجتمع وازدهاره ومن أجل المصلحة العامة وهذا كله وهم فقد خرجت المرأة في غالب دولنا إلى الشارع العام واختلطت بالرجال وأظهرت زينتها كما يدعو إليه المؤلف فما هي النتيجة زاد تأخرنا وانحطاطنا وإذلالنا ن قبل الشراذم

بقلم: د عادل بن حسن الحمد
393
دعوى مظلومية المرأة | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات المرأة

دعوى مظلومية المرأة


اطلعت على بعض المقاطع المعدة بأسلوب درامي مؤثر يرسم صورة الأنثى كمظلومة تحت مظلة الإسلام وقد نجحت مثل هذه الرسائل في استمالة ضعيفات الإيمان إلى ظلمات الشك ثم الإلحاد وكثيرا ما يدخل المشككون في الإسلام من باب المرأة يستثيرون بذلك عواطف المسلمات اللاتي لم يعرفن دينهن حق المعرفة وفي الحقيقة فإن خطابهم التشكيكي هذا لا يعدو أن يكون غشا و تدليسا

بقلم: أحمد يوسف السيد
2680
لماذا كره السلف علم الكلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

لماذا كره السلف علم الكلام


مقتطف من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية يوضح فيه أن السلف لم يكرهوا علم الكلام بسبب الألفاظ المستحدثة أو المولدة والجديدة فيه وإنما لما تشتمله هذه الألفاظ من المعاني المبطنة والتي تحوي خيرا وشرا وتحوي صوابا موافقا للشريعة وخطأ مضادا للكتاب والسنة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1881
مقصود طلب العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

مقصود طلب العلم


كثير من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ولكل امرئ ما نوى وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله فهو مقصود عندهم لمنفعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة كما قال معاذ بن جبل في صفة العلم: إن طلبه لله عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة به يعرف الله ويعبد ويمجد الله ويوحد

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
364
الطفل والأفكار | مرابط
مقالات ثقافة

الطفل والأفكار


وفي المجتمع الذي يدور فيه عالم الأفكار حول محور الأشياء تأخذ الميول الفردية الوجهة ذاتها. ولقد حدث أن سألت طفلا في إحدى البلاد العربية عما كانوا يعطونه في المدرسة ولم ركن استعمالي فعل أعطى متعمدا لكن جوابه العفوي كان ذا دلالة ظاهرة فقد أجابني: إنهم يعطوننا بسكويت. ومن الواضح أن معنى أعطى عنده يتمفصل بادئ الأمر بعالم الأشياء حتى حينما يستعمل الفعل في الإطار المدرسي في صيغة سؤال. وهكذا فالفرد يدفع ضريبة عن اندماجه الاجتماعي إلى الطبيعة وإلى المجتمع.

بقلم: مالك بن نبي
335