تحويل القبلة وكشف الأوراق

تحويل القبلة وكشف الأوراق | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

2172 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

في أحداث السيرة النبوية مواقف صنعها الله عز وجل لتكون اختبارًا لأفراد الجماعة المسلمة، فيمحِّص الصفوف، وينفي عنها الخبث، كما يكشف بها سبحانه وتعالى أوراق أعداء الأمة من منافقين ومشركين؛ وذلك لكي تنشأ هذه الأمة نقيَّة خالصة لله عز وجل، خاضعة لأمره سبحانه دون شك أو ارتياب.

 

ومن هذه المواقف الجليلة والفاصلة في تاريخ الأمة، حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في النصف من شعبان من العام الثاني للهجرة، حيث كان المجتمع المسلم ما زال حديث البناء نسبيًّا في المدينة المنورة، وما زالت قريش والعرب متربصين به، وينتظرون له أي هفوة للتشنيع عليه.

 

كما أن اليهود في المدينة المرتبطين مع المسلمين بمعاهدات ومواثيق كانوا في باطنهم يحملون أشد العداوة لهم، ويتلهفون على أية فرصة للإساءة إلى الإسلام والمسلمين، مقرِّين في أنفسهم أنهم ما عقدوا هذه المعاهدات إلا لضعفهم عن مواجهة المسلمين، وإثارة الشبهات حول الإسلام.

 

في ذات الوقت كان هناك بعض حديثي الإسلام الذين لم يثبت الإسلام في قلوبهم بعدُ، ويمكن أن تؤثر فيهم بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.

 

تحويل القبلة وموقف المؤمنين

 

إذن كان المناخ في المدينة مهيّأً لإجراء الاختبار الكاشف لأوراق كل فريق، وجاء الأمر بتحويل القبلة ليعلن بدء الاختبار فعليًّا؛ قال تعالى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. وبدأ كل فريق في كشف أوراقه.. كانت البداية من المؤمنين المخلصين الذين صبروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتوا أمام كل ما مضى من محن الإيذاء، والتكذيب والتعذيب، والتضحية بالجاه والمال والرياسة، بل والتضحية بالأهل والوطن، وهؤلاء لم يكن الاختبار الجديد عسيرًا عليهم؛ لذا فإنهم -كشأنهم منذ أسلموا- سلموا لأمر الله عز وجل، ونفذوه موقنين أنه الحق، فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر -وهي أول صلاة يصليها متوجهًا إلى الكعبة- ثم داوموا على القبلة الجديدة، ثابتين على عقيدتهم.

 

بل كان من هؤلاء المؤمنين الصادقين من ضرب المثل في التصديق والاتّباع، مع الأخذ في الاعتبار أن الأمر جاء فجأةً، ودون تمهيد مسبق؛ فلم تؤثر فيهم المفاجأة، ولم يصدمهم الحدث، وهم بنو حارثة الذين وصلهم الخبر وهم يصلون عصر نفس اليوم؛ إذ مر أحد المسلمين الذين صلَّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزِل عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا إلى الكعبة"[1]؛ فسمِّي مسجدهم من يومها (مسجد القبلتَيْن).

 

موقف المنافقين ومذبذبي الإيمان

 

فهكذا كان شأن المؤمنين الصادقين، فكيف كانت حال من لم يستقر الإيمان في قلوبهم بعدُ، أو كانوا مذبذبي الإيمان؟ لقد قلق هؤلاء من مصير من مات من المسلمين قبل تحويل القبلة، هل تُقبل صلاتهم أم لا؟

كما تساءلوا عن جزاء صلاتهم السابقة نحو بيت المقدس، وكأنهم ظنوا أن الصلاة إلى القبلة السابقة كانت اجتهادًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وحي من الله؛ لذا لن يُثابوا عليه بل قد يعاقبون.

وهذه الفئة تظهر دائمًا في المجتمع المسلم وقت المحن، إذ تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر؛ فيبدأ هؤلاء في التشكُّك والظن في الثوابت.

 

موقف اليهود

 

أما الفئة الثالثة في المدينة فكانت اليهود، هؤلاء الذين كانوا فرحين مبتهجين عندما اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس قبلة عقب الهجرة؛ لأنها قبلتهم، فظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيتبعهم في دينهم بعد فترة، فلما جاء الأمر بتحويل القبلة أصيبوا بالإحباط واليأس من غرضهم؛ فأطلقوا لسانهم ليشككوا المسلمين في دينهم، قائلين: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. فجاء الرد الإلهي {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، وأنزل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177].

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجَّهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يومٍ مراتٍ إلى جهات متعددة؛ فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه"[2].

 

موقف قريش

 

أما قريش التي كانت متربصة بالمسلمين، فقد قالت: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. ولكن الله سبحانه وتعالى ردَّ عليهم: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150]. فنعتهم الله عز وجل بالظلم؛ ليكشف مكنون قلوبهم.

وانكشف باطن الكافرين، ومُحِّص المذبذبون، ومَرَّ الاختبار بعد أن تعلم منه المسلمون واستفادوا ما ينبغي لنا الاستفادة به؛ من أهمية اليقين والتسليم لأمر الله عز وجل، والانقياد لأوامره، وأهمية الثبات أمام الشبهات التي يلقيها أعداء الأمة دون انقطاع، وعدم التأثر بها، بل الرد عليها؛ لنحمي ضعاف الإيمان من التأثر بها.

ونسأل الله عز وجل النصر للإسلام والمسلمين.

 


 

المصدر:

  1. د. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ص92
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الدفع أهون من الرفع | مرابط
فكر

الدفع أهون من الرفع


السؤال الأكثر رواجا بين فئة الشباب وهم يواجهون موجات من عواصف الفتن والإفساد العصرية العاتية التي تهدد دينهم وإيمانهم: ما السبيل الأمثل إلى التصدي لتلك الهجمات؟ وفيما يلي وصفة علاجية تقعيدية نافعة ناجعة فاشدد بها يديك.

بقلم: د. جمال الباشا
349
التاريخ عظات وعبر | مرابط
اقتباسات وقطوف

التاريخ عظات وعبر


التاريخ علم لا يحتاج إلى معلم يحتاج فقط إلى قدم تسير وعين تنظر قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ... لا يكاد توجد واقعة إلا ولها نظير في التاريخ ومن المؤسف حقا أن نرى أخطاء التاريخ تتكرر: بسبب الجهل به ... من جهل التاريخ لا بد أن يعيد أغلاطه وأكثر الناس يسقطون بنفس حفر الماضين

بقلم: عبد العزيز الطريفي
494
الحياة العريضة | مرابط
مقالات

الحياة العريضة


إن كثيرا من الناس إذا ذكرت عنده البركة انصرف ذهنه إلى بركة المال والولد ويغفل عن البركة في العمر فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة

بقلم: د. طلال الحسان
322
كسوف الشمس وإثبات النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

كسوف الشمس وإثبات النبوة


أريدك أن تتخيل معي دجالا كذابا يدعي أنه مرسل من عند الله ويموت ولده ويوم موت ولده تنكسف الشمس وحين تنكسف الشمس يقول الناس: إن الشمس انكسفت من أجل ولده.. أريد منك أن تقلب هذا الأمر ظهرا لبطن وبطنا لظهر وترى كيف سيتصرف هذا الدجال؟ أعمل عقلك كثيرا في هذه المسألة ور كيف سيتصرف دجال وضع في هذه الفرصة الذهبية للترويج لنفسه!

بقلم: د. حسام الدين حامد
247
عوامل الصعود اللوطي الجزء الثاني | مرابط
مقالات الجندرية

عوامل الصعود اللوطي الجزء الثاني


تستند الموجة اللوطية الجديدة على عدد من العوامل في صعودها السريع وانتشارها الملحوظ في بعض المجتمعات ومن أبرز هذه العوامل: التقدم الطبي الذي أتاح للشواذ واللوطيين إجراء تعديلات جسدية وتجميلية وظاهرية موافقة للميول الجندرية الجديدة وكذلك الإتخام الجنسي وإتاحته بكل الصور في كل مكان عبر الشبكة مثلا أحدث نوعا من الملل والتخمة لدى مشاهدي ومدمني البورنو وهو كا دفعهم إلى أشكال جديدة من الجنس مثل اللوطية وفي هذا المقال يناقش الكاتب عمرو عبد العزيز هذه العوامل وغيرها بشكل موجز

بقلم: عمرو عبد العزيز
2112
مجاراة الموضة والعالم الافتراضي | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

مجاراة الموضة والعالم الافتراضي


والحقيقة أن المجتمع اليوم هو مجتمع افتراضي أو قل: يتجه نحو شكل المجتمع الافتراضي لا روابط بين أفراده إلا تلك الروابط التي أنشأتها الشبكة الاجتماعية الافتراضية الزرقاء فهي الآن تعد وسيلة الاتصال الأساسية بين البشر

بقلم: محمد علي فرح
506