ثانيًا: الفردية الجديدة:
جاءت الفردية لإعلاء استقلال الفرد بذاته، من خلال تعبير كل فرد عن رؤيته الخاصة، التي تمثلت في حرية الفكر والتعبير والملكية والانتخاب، وهذا الفرد هو الذي يعينه رالف إمرسون في مقالته "الاعتماد على النفس" حين يوجه إليه كلامه قائلًا "إن العبقرية هي أن تؤمن برأيك، وأن تعتقد أن ما هو يقيني في نفسك إنما هو يقيني للناس جميعهم" (1)
وقد أراد إمرسون أن الفرد معبّر عن الإنسانية، وهو أداة نجاح لنفسه وللمجتمع، وتقوم هذه الرؤية الجديدة للفردية على أساس غير الأساس الأناني النفعي، وهذا الأساس الذي تقوم عليه هو اعتقاد وحدة الوجود في الإنسان؛ ﻷن الله تعالى موجود في روح الإنسان، ولهذا فالفرد متعال على الطبيعة وهو فوقها ومرتفع عليها (2)
وهذه الفردية الجديدة المنطلقة من الإنسان والمتعالية على الطبيعة نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بالفكر المتعالي البراجماتي وهي مختلفة عن الفردية التقليدية اختلافا كبيرًا.
فالفردية الجديدة لا تعتقد بأن هناك حالة طبيعية للإنسان تستبطن الفردية، وأنها تظهر بشكل تلقائي عند انعدام الإكراه كما يتصوره الاتجاه التقليدي، ولكنها ترى أن الفردية تتكون من خلال العمل، وثقة الإنسان بقدراته، والتحرر من قيود العالم الطبيعي، والتعالي عليه، واستشعار القدرة على فعل أي شيء بثقة تامة.
كيف ظهر المفوم الجديد للفردية؟
وهذا التغير من الفردية القديمة إلى الفردية الجديدة فرضته ظروف مادية جديدة، وهي تطور الصناعة المذهل، والسيطرة على وسائل التقنية، وقد أدى ذلك لطمس صورة الفردية السابقة، لتظهر صورة جديدة للفردية فرضتها المعطيات الجديدة، والهيمنة الرهيبة للمادية (3)
وقد ارتبط هذا المفهوم للفردية بالتطور الصناعي في أمريكا، وبسبب وجود الفردية المتعالية أصبح الأمريكيون يشعرون أنهم ليسوا أفرادا عاديين، فالنموذج الفردي الأمريكي يعد طفرة في تاريخ الحضارات، وقدرات الحضارة الأمريكية خاصة تفوق كل الحضارات السابقة.
"ولعل خير تعبير عن هذه الطفرة مقولة فان ويك ركي في كتابة نبيذ المتطهرين: لقد شبينا نحن الأمريكيون جميعًا عن الطوق، ونحن بغير شك أكبر أجناس العالم نموًا ولكن يبدو أن بلادنا أمريكا لم تتمتع مطلقًا بطفولتها؛ لأن الكفاح من أجل الحياة لم يدع لنا فرصة غرس المشاعر الحية التي تتفوق تفوقًا بهيجًا على مصاعب الحياة، التي تتمثل بالنسبة لمعظمنا في السعي من أجل مادة الحياة دون أن نفكر في معنى الحياة ذاتها، فنحن نسعى وراء ما تجلبه لنا الحياة لا وراء الحياة ذاتها" (4)
الفردية الأمريكية
ويقرر جون ديوي أن الفردية الأمريكية الجديدة مختلفة عن الفردية الأوروبية التقليدية بأنها أطلقت غرائز الإنسان الحيوانية، بينما أبقتها تقاليد أوروبا القديمة مغلولة خاضعة خضوعًا نظاميا لشيء أسمى يدعى بكثير من الإبهام: الروحانية(5)
يريد ديوي بالروحانية: النظرة التقديسية للفرد وحقوقه في الفردية التقليدية، والتي حطمتها المادية الأمريكية عبر براجماتيتها الشرسة التي ألغت كل المثل العليا للحريات الفردية. والتطور الصناعي واكتشاف الآلة هو المبرر الوحيد للتغير في مفهوم الفردية؛ ﻷن الحرية هي القدرة على التغير ومواكبة التحديث مع القدرة على العمل، فالصناعة هي سبب الغرور الأمريكي وتعاليه، وبالتالي فهي سر تميزه وحضارته؛ ولهذا ينبذ ديوي مقولة القائلين بأن الآلة الصناعية هي مصدر المتاعب للفرد، فيرى أنها مغالاة صبيانية من الروحانية الأوروبية، إذ إن الآلة تمنح قوة دافعة للأمام، وعند البدء في تخطيط منظم لإيجاد توازن بين ما تحققه الآلة من تقدم تكنولوجي، وبين تحقيق القيم المماثلة لهذا التقدم التكنولوجي فإن إنسانا جديدًا أو فردًا جديدًا في حالة تصالح مع معطيات العصر المعاش سيبدأ في النمو والتكون (6)
ملامح الفردية الجديدة
وتشترك الفردية الجديدة مع التقليدية في مادية الحضارة الغربية، وخلوّها من القيم الأخلاقية الحقّة، ونبذ الدين، وبناء الروابط الاجتماعية على المصلحة الذاتية الخاصة وغيرها، ولكن الفردية الجديدة تزيد عليها بأمور متعددة منها:
- ربط القيم الإنسانية بالعمل، واعتباره القيمة الصحيحة، والأمر المميز بين الفضائل والرذائل، وهذا التصور المادي يعلي من قيمة الرأسمالية باعتبارها فئة ناجحة من الناحية العملية، واعتبار أخلاقها الناتجة عن العمل هي الأخلاق الفاضلة.
- تبرير التغير الفكري بالآلة الصناعية، وأن التحديث الصناعي يقتضي تحديثًا فكريًا مطردًا، وأن مواكبة المتغيرات تقتضي تغيّرًا في الفكر، وهذا يدل على أنه لا يوجد ثبات في الفكر لأنه مقرون بأمر متغير.
- تعالى وغرور من يملك تطورًا تقنيًا على أساس أنه فرد متطور، ولهذا فإن محافظته على تعاليه وغروره يستلزم استعمال كافة أوجه القوة لبقائه على تميّزه.
وهذه الصفات موجودة في الحياة الأمريكية، وهي التي تمثّل الفردية الجديدة، وهي تجمع أنانية الفردية التقليدية وتزيد عليها البُعد العملي المادي.
الإشارات المرجعية:
- نقولا عن مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص165
- المرجع السابق ص167، ومن هذا المنطلق تكوّن الفكر الليبرالي المتعالي في الليبرالية الأمريكية المعاصرة
- انظر: الفردية قديمًا وحديثًا ص18
- تطور الفكر الأدبي الأمريكي في القرن العشرين ص108، نقلًا عن مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص169
- انظر: الفردية قديمًا وحديثًا ص27
- الفردية قديمًا وحديثًا ص92. وانظر مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص 170
المصدر:
- د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، ص146