تطويل الطريق

تطويل الطريق | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

8157 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛ فلا أخفي أنني أحترم تمامًا حرصهم على سلامة التصورات الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر .. لكنني أرتاب كثيرًا في نجاعة هذا الأسلوب الذي يريدون .. عندي وجهة نظر لكني لا أبوح بها كثيرًا .. لأني أرى بعض المفكرين الإسلاميين يتصور أنها نوع من التثبيط والتخذيل، فلذلك ألوذ بالصمت.

 

ختمة تدبر

وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية المعاصرة أسهل بكثير بكثير مما نتصور .. فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للاقبال على القرآن، وتدبر القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -الباحث عن الحق- كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم أول "ختمة تدبر"..

 

بالله عليكم لو قرأ الشاب المسلم –الباحث عن الحق- آيات القرآن في حقارة الكافر .. وآيات القرآن في وسيلية الدنيا ومركزية الآخرة .. وآيات القرآن في التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين .. وآيات القرآن في إقصاء أي فكرة مخالفة للوحي .. وآيات القرآن في وجوب الوصاية على المجتمع عبر شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وآيات القرآن في تقييد الحريات الشخصية بالإنكار والاحتساب .. وآيات القرآن في أزلية الصراع بين الحق والباطل .. وآيات القرآن في وجوب هيمنة الشريعة على كل المجتمعات .. وآيات القرآن في نفي النسبية وإثبات اليقين .. وآيات القرآن في مسخ أقوام قردة خاسئين لما تسلطوا على ألفاظ النصوص بالتأويل لتوافق رغباتهم وأهوائهم .. وآيات القرآن في ارتباط الكوارث الكونية بالمعاصي والذنوب .. وآيات القرآن في ترتيب جدول أولويات النهضة بين التوحيد والإيمان والفرائض والفضيلة وإعداد القوة المدنية .. الخ الخ

 

فبالله عليكم قولي لي ماذا سيتبقى -بعد ذلك- من أطلال الانحرافات الفكرية المعاصرة ؟!

 

حين يقرأ الشاب المسلم –الباحث عن الحق- مثل هذه الآيات فإنه ليس أمام "خطاب فكري" يستطيع التخلص منه عبر مخرج "الاختلاف في وجهة النظر" .. بل هو أمام "خطاب الله" مباشرة .. فإما الانصياع وإما النفاق الفكري .. ولا تسويات أو حلول وسط أمام أوامر ملك الملوك سبحانه وتعالى ..
لنجتهد فقط في تحريض وتأليب العقل المسلم المعاصر على الإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، في تجرد معرفي صادق للبحث عن الحقيقة .. وصدقوني سنتفاجأ كثيرًا بالنتائج ..

 

قراءة واحدة

قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي ..
قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأسًا على عقب ..
هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه بـ"تجرد" .. فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه .. هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ ..وخصوصًا .. إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس مجرد "معلومات" يتعامل معها ببرود فكري .. بل هو "رسالة" تحمل قضية ودويا ..

 

الانفعال وجدانيا وعاطفيًا بالقرآن

وإن من أكثر الأمور لفتًا للانتباه في هذا القرآن العظيم .. هي ماحكاه الله عن انفعال الأنبياء بالقرآن انفعالا وجدانيا وعاطفيا عميقًا .. خذ مثلًا .. لما ذكر الله مسيرة الأنبياء عقب بذكر حالهم إذا سمعوا آيات الوحي حيث يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]

 

يا ألله .. هذه الآية تصور "جنس الأنبياء" لا بعضهم .. فانظر بالله عليك كيف يبلغ اتصالهم بـ"كلام الله" مبلغ الخرور إلى الأرض ودموعهم تذرف بكاءً وتأثرًا .. أي انفعال وجداني أعظم من ذلك؟!

 

ويصف تعالى مشهدًا آخر يأسر خيال القارئ، حين يصور أهل الإيمان وهم يستقبلون آيات الوحي فيقول تعالى:
"وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ" [المائدة:83]
ويصف تعالى مرة أخرى أثر القرآن الجسدي وليس الوجداني فقط فيقول تعالى:
"اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ"

 

التدبر الصادق

على أية حال .. لو أفلحنا في إقناع الشاب المسلم بالإقبال على القرآن بالتدبر الصادق المتجرد للبحث عن الحق .. فاعتبروا أن "الدور المعرفي" تقريبًا انتهى .. وبقيت مرحلة الإيمان .. فمن كان معه إيمان وخوف من الله فسيحمله على الانقياد والانصياع لله سبحانه .. ومن أرخى لهواه العنان .. فسيتخبط في شُعب النفاق الفكري .. حيث سيبدأ في أن يعلن على الملأ –كما يعلن غيره- أنه "يحترم ضوابط الشريعة" .. لكنه في دخيلة نفسه يدرك أن كل ما يقوله مخالف للقرآن ..!

 

بقي الاستثناء الوحيد هاهنا .. وهو أنني أقول أن من كانت نفسيته المعرفية سوية .. أعني أنها تنظر في "جوهر البرهان" وليس في "شكليات الخطاب" فلن يحتاج إلا لقراءة القرآن بتجرد .. أما من كان يعاني من عاهات في شخصيته الفكرية .. بحيث أنه يقدم وهج الديكور اللغوي على جوهر البرهان .. فهذا النوع المريض من الناس قد يحتاج فعلًا بعض الكتابات الفكرية التي تخدعه ببعض الطلاء التسويقي ..

 

كما قال الامام ابن تيمية في حادثة مشابهة في كتابه "الرد على المنطقيين":

(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

 

ختامًا .. أعطوني ختمة واحدة بتجرد .. أعطيكم مسلمًا سنيًا سلفيًا حنيفًا .. ودعو عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة .

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أصول الانحراف الدرس الأول ج3 | مرابط
تفريغات

أصول الانحراف الدرس الأول ج3


الذي يقبل على القرآن -إن صح التعبير- بأقفال يبحث لها عن مفاتيح فإنه يجد كنوزا الذي يقبل على القرآن بهموم يبحث لها عن حل الذي يقبل على القرآن بتساؤلات يبحث لها عن إجابات يفاجأ بآيات كثيرة كانت نصا في الباب ولكنه لم يكن يشغله هذا الهم

بقلم: أحمد عبد المنعم
469
أخبار الأنبياء والرسل | مرابط
اقتباسات وقطوف

أخبار الأنبياء والرسل


تعليق لشيخ الإسلام ابن تيمية على تواتر أخبار الرسل التي وصلتنا من طرق مختلفة فجميع أهل الأرض الآن يعلمون أنه كان هناك رسل وهؤلاء الرسل كان لهم أتباع ومخالفون وأن الله في النهاية نصر الفريق الأولى من اتبعوا الرسل وأخزى الفريق الآخر ونقل هذه الأخبار يؤسس معرفية يقينية حتمية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2221
عصر البلبلة | مرابط
اقتباسات وقطوف

عصر البلبلة


فمن شر هذه البلية: كتاب وعلماء ورجال من أصحاب الرأي ليس في قلب أحد منهم تقوى لله ولا خشية للإثم ولا محبة للحق فيرى أحدهم الرأي الفطير وهو ما أعجل عن إدراكه واستحكامه فلا يلبث أن يمسك القلم فيجري السواد على بياض الورق فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي أخبث منه صاحبه والناطق به

بقلم: محمود شاكر
237
فلسفة الصوم | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

فلسفة الصوم


الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جو الحضارة المادية التي تسود العالم إنها حضارة تؤمن بالجسد ولا تؤمن بالروح وتؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الآخر ومن ثم فهي تكره عبادة تقيد الشهوات ولو إلى حين وتؤدب هذا البدن المدلل وتلزمه مثلا أعلى إن الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى راغبة لتكثير الدخل ورفع مستوى المعيشة ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى وفي المقال يقف بنا الكاتب أمام فلسفة الصوم

بقلم: محمد الغزالي
1527
بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط
فكر مقالات

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة


في الغرب يتحدثون عن حقوق المرأة في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان صناعة الأنوثة جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها لم يعد يكتفى بتشيؤ هذا الجسد أي تحويلها إلى شيء إنما جعله في خدمة الشيء حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

بقلم: عبد الوهاب المسيري
255
شروط الإفتاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

شروط الإفتاء


وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه فقال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة وذكر الكلام المتقدم

بقلم: ابن القيم
565