تطويل الطريق

تطويل الطريق | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

8265 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛ فلا أخفي أنني أحترم تمامًا حرصهم على سلامة التصورات الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر .. لكنني أرتاب كثيرًا في نجاعة هذا الأسلوب الذي يريدون .. عندي وجهة نظر لكني لا أبوح بها كثيرًا .. لأني أرى بعض المفكرين الإسلاميين يتصور أنها نوع من التثبيط والتخذيل، فلذلك ألوذ بالصمت.

 

ختمة تدبر

وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية المعاصرة أسهل بكثير بكثير مما نتصور .. فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للاقبال على القرآن، وتدبر القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -الباحث عن الحق- كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم أول "ختمة تدبر"..

 

بالله عليكم لو قرأ الشاب المسلم –الباحث عن الحق- آيات القرآن في حقارة الكافر .. وآيات القرآن في وسيلية الدنيا ومركزية الآخرة .. وآيات القرآن في التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين .. وآيات القرآن في إقصاء أي فكرة مخالفة للوحي .. وآيات القرآن في وجوب الوصاية على المجتمع عبر شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وآيات القرآن في تقييد الحريات الشخصية بالإنكار والاحتساب .. وآيات القرآن في أزلية الصراع بين الحق والباطل .. وآيات القرآن في وجوب هيمنة الشريعة على كل المجتمعات .. وآيات القرآن في نفي النسبية وإثبات اليقين .. وآيات القرآن في مسخ أقوام قردة خاسئين لما تسلطوا على ألفاظ النصوص بالتأويل لتوافق رغباتهم وأهوائهم .. وآيات القرآن في ارتباط الكوارث الكونية بالمعاصي والذنوب .. وآيات القرآن في ترتيب جدول أولويات النهضة بين التوحيد والإيمان والفرائض والفضيلة وإعداد القوة المدنية .. الخ الخ

 

فبالله عليكم قولي لي ماذا سيتبقى -بعد ذلك- من أطلال الانحرافات الفكرية المعاصرة ؟!

 

حين يقرأ الشاب المسلم –الباحث عن الحق- مثل هذه الآيات فإنه ليس أمام "خطاب فكري" يستطيع التخلص منه عبر مخرج "الاختلاف في وجهة النظر" .. بل هو أمام "خطاب الله" مباشرة .. فإما الانصياع وإما النفاق الفكري .. ولا تسويات أو حلول وسط أمام أوامر ملك الملوك سبحانه وتعالى ..
لنجتهد فقط في تحريض وتأليب العقل المسلم المعاصر على الإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، في تجرد معرفي صادق للبحث عن الحقيقة .. وصدقوني سنتفاجأ كثيرًا بالنتائج ..

 

قراءة واحدة

قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي ..
قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأسًا على عقب ..
هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه بـ"تجرد" .. فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه .. هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ ..وخصوصًا .. إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس مجرد "معلومات" يتعامل معها ببرود فكري .. بل هو "رسالة" تحمل قضية ودويا ..

 

الانفعال وجدانيا وعاطفيًا بالقرآن

وإن من أكثر الأمور لفتًا للانتباه في هذا القرآن العظيم .. هي ماحكاه الله عن انفعال الأنبياء بالقرآن انفعالا وجدانيا وعاطفيا عميقًا .. خذ مثلًا .. لما ذكر الله مسيرة الأنبياء عقب بذكر حالهم إذا سمعوا آيات الوحي حيث يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]

 

يا ألله .. هذه الآية تصور "جنس الأنبياء" لا بعضهم .. فانظر بالله عليك كيف يبلغ اتصالهم بـ"كلام الله" مبلغ الخرور إلى الأرض ودموعهم تذرف بكاءً وتأثرًا .. أي انفعال وجداني أعظم من ذلك؟!

 

ويصف تعالى مشهدًا آخر يأسر خيال القارئ، حين يصور أهل الإيمان وهم يستقبلون آيات الوحي فيقول تعالى:
"وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ" [المائدة:83]
ويصف تعالى مرة أخرى أثر القرآن الجسدي وليس الوجداني فقط فيقول تعالى:
"اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ"

 

التدبر الصادق

على أية حال .. لو أفلحنا في إقناع الشاب المسلم بالإقبال على القرآن بالتدبر الصادق المتجرد للبحث عن الحق .. فاعتبروا أن "الدور المعرفي" تقريبًا انتهى .. وبقيت مرحلة الإيمان .. فمن كان معه إيمان وخوف من الله فسيحمله على الانقياد والانصياع لله سبحانه .. ومن أرخى لهواه العنان .. فسيتخبط في شُعب النفاق الفكري .. حيث سيبدأ في أن يعلن على الملأ –كما يعلن غيره- أنه "يحترم ضوابط الشريعة" .. لكنه في دخيلة نفسه يدرك أن كل ما يقوله مخالف للقرآن ..!

 

بقي الاستثناء الوحيد هاهنا .. وهو أنني أقول أن من كانت نفسيته المعرفية سوية .. أعني أنها تنظر في "جوهر البرهان" وليس في "شكليات الخطاب" فلن يحتاج إلا لقراءة القرآن بتجرد .. أما من كان يعاني من عاهات في شخصيته الفكرية .. بحيث أنه يقدم وهج الديكور اللغوي على جوهر البرهان .. فهذا النوع المريض من الناس قد يحتاج فعلًا بعض الكتابات الفكرية التي تخدعه ببعض الطلاء التسويقي ..

 

كما قال الامام ابن تيمية في حادثة مشابهة في كتابه "الرد على المنطقيين":

(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

 

ختامًا .. أعطوني ختمة واحدة بتجرد .. أعطيكم مسلمًا سنيًا سلفيًا حنيفًا .. ودعو عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة .

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
فن أصول التفسير ج7 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج7


وقضية ترتيب الأحداث التي تحدث في السماء قد يكون صعبا أنك تراقب الأحداث ماذا يحصل ثم ماذا يحصل ثم ماذا يحصل قد يكون صعبا وأحيانا في بعض الأحداث قد يمكن أن يقال: النتيجة لهذا فيما يدل عليه العقل لكن على العموم إن كل هذه الأحداث التي تحدث للسماء في قوله: يوم تمور السماء مورا الطور:9 وأكد قوله: تمور بقوله: مورا وهذا من باب التأكيد الذي يسمى المفعول المطلق

بقلم: مساعد الطيار
745
النعمة في البرد والحر | مرابط
اقتباسات وقطوف

النعمة في البرد والحر


من النعم التي لا يلتفت إليها كثير من الناس: نعمة الوقاية من البرد والحر وفي هذا المقتطف الماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية تعليق سريع حول هذه النعمة من وحي القرآن الكريم حتى يعلم المسلم قدر النعم التي أحاطه الله بها وهي لا تحصى

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
491
كلام محرج للاختلاطيين | مرابط
مقالات المرأة

كلام محرج للاختلاطيين


هل مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد بغير تقارب لا يدخل في الاختلاط المحرم؟ هل المقصود بالاختلاط المحرم في كلام العلماء هو الامتزاج والتلاصق وتقارب الرجال بالنساء وذلك مثل ما يوجد في عامة الأفراح أو ما يوجد في الجامعات المختلطة من التقارب والتلاصق أو ما يوجد في الموالد؟ هل مجرد وجود النساء والرجال تحت سقف واحد بغير تقارب بأن يكون هؤلاء في جانب وهؤلاء في جانب ليس هو الاختلاط المنهي عنه في كلام العلماء أصلا؟ يجيبكم الشيخ قاسم اكحيلات.

بقلم: قاسم اكحيلات
565
لماذا نحتاج إلى الخالق طالما عرفنا القوانين؟ | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

لماذا نحتاج إلى الخالق طالما عرفنا القوانين؟


يفترض الملحد أن القوانين تكفي لخلق الكون وظهوره وقد اعتمد بعض الملحدين على فكرة قانون الجاذبية وأنه كاف لظهور الكون وبغض النظر عن سقوط هذا الزعم ذاتيا بمجرد التفكير في مصدر قانون الجاذبية أو من الذي قننه أو من الذي أعطاه صفة التدخل وإظهار الأثر؟ بغض النظر عن هذه البديهيات الأولية فإن قانون الجاذبية لا يؤدي إلى دحرجة كرة البلياردو! فالقانون وحده عاجز عن أي شيء بدون ظهور الشيء.

بقلم: د. هيثم طلعت
409
ذكر المتحابين في الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذكر المتحابين في الله


حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن ميسرة عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: المتحابون بجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي وحدثنا علي بن الجعد حدثنا عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب حدثني عايذ الله بن عبد الله أن معاذ بن جبل حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المتحابون بجلال الله عز وجل في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله

بقلم: ابن أبي الدنيا
873
هل مجتمعنا خير من مجتمع رسول الله | مرابط
فكر مقالات

هل مجتمعنا خير من مجتمع رسول الله


أعرف أحد المنتسبين للثقافة إذا طرح أي فكرة في مقالاته لا بد أن يذيلها بمقولة مع الالتزام طبعا بضوابط الشريعة ولا يمل من تكرار هذه الجملة بشكل يطمئن القارئ لكنه في المجالس الفكرية المحدودة يعلن صراحة بأنه كما يقول: يارجل لا حل لنا إلا بالعلمانية وتحويل الدين إلى خيار شخصي محترم فقط كل المجتمعات المعاصرة لم تتقدم إلا بالعلمانية الدين شيء رائع ونبيل ولكنه يجب أن يبقى ممارسة ذاتية

بقلم: إبراهيم السكران
1183