الهجرة إلى الله ورسوله

الهجرة إلى الله ورسوله | مرابط

الكاتب: ابن القيم

637 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظرًأ فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد.

 

نوعا الهجرة

إذ الهجرة هجرتان:

الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها.

 

مبدأ الهجرة ومنتهاها

وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.

 

الفرار الى الله

وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

 

الفرار من الله

أما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده، فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته. فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شيء إلى شيء وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه.

ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " وأعوذ بك منك " وقوله: " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك "، فانه ليس في الوجود شيء يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقًأ وإبداعا. فالفار والمستعيذ: فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه.

وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفًأ ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجبًأ لخوفه منه، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه، فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.

فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله: " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالًأ وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق

فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.

والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فان المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات.

 


 

المصدر:

ابن قيم الجوزية، الرسالة التبوكية، ص16

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-القيم #الهجرة
اقرأ أيضا
ولا يبدين زينتهن | مرابط
تفريغات المرأة

ولا يبدين زينتهن


قول الله جل وعلا: ولا يبدين زينتهن النور:31 في نهي الله جل وعلا عن إبداء الزينة جاءت الزينة في هذه الآية في موضعين: الموضع الأول في النهي والموضع الثاني في الاستثناء إلا ما ظهر منها أمر الله جل وعلا بعدم إبداء الزينة وفي قوله جل وعلا: إلا ما ظهر منها النور:31

بقلم: عبد العزيز الطريفي
574
الدين والعبادة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الدين والعبادة


مقتطف ماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية من رسالة العبودية يتحدث فيها عن المعنى الحقيقي للعبادة وكيف أنها تستلزم الحب والذل في آن واحد وكذلك يشملهما معنى الدين وما هو المعنى العام للدين ومراحل أو درجات الحب وجدير بالمسلمين أن يدركوا هذه المعاني جيدا حتى تصفى عبادتهم لله

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2123
العشر الأواخر من رمضان | مرابط
مقالات

العشر الأواخر من رمضان


أسرعت أيام رمضان ولياليه انقضاء ومر من رمضان عشره الأوائل ثم عشره الأواسط ولم يبق من رمضاه الا الثلث الأخير والعشر الأواخر.. وإذا كان العلماء قد اتفقوا على أن رمضان هو خير الشهور وأفضلها فإنهم قد اتفقوا كذلك على أن العشر الأواخر منه هي أفضل ما فيه وأعظم لياليه فهي فضل الفضل وخير الخير.. وأعظمها بالإجماع ليلة القدر فهي أفضل العشر بل أفضل ليلة في الوجود.nbspوإذا كان رمضان قد قارب الرحيل وأشرف على نهايته فإن quotالعبد الموفق من أدرك أن حسن النهاية يطمس تقصير البداية وما يدريك لعل بركة عملك في....

بقلم: إسلام ويب
407
الرد على المفوضة الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الرد على المفوضة الجزء الأول


وردت الكثير من الشبه حول مسألة التفويض في آيات الصفات ونسبتها إلى أهل السنة وعقيدة السلف في هذه ذلك هو الإيمان بالمعنى وتفويض الكيف أما المعطلة فيظهر فساد مذهبهم في ذلك وتأثرهم بعلم المنطق وبين يديكم تفريغ لمحاضرة للشيخ الألباني يرد فيه على المفوضة وعلى من نسب عقيدتهم إلى السلف

بقلم: الشيخ الألباني
774
الطاقة الذهنية | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

الطاقة الذهنية


الإنسان يملك كمية معينة من وقود التفكير وينبغي للمرء أن يكون حاذقا في صرف طاقته الذهنية في المواد المجدية يقول ابن القيم في فصل عقده في كتابه الفوائد في بيان هذا المفهوم أصل الخير والشر من قبل التفكير فإن الفكر مبدأه الإرادة

بقلم: إبراهيم السكران
382
مصادر التنظير في التاريخ الإسلامي ج2 | مرابط
مقالات أبحاث

مصادر التنظير في التاريخ الإسلامي ج2


وكثير من المصادر الغربية يغلب عليها الطابع الحداثي في قراءة الأحداث التاريخية أو تحليلها ذلك أنها اعتبرت الشريعة مثل القانون والأمر ليس كذلك نشأت وتطورت تبعا لنمو المجتمع وتطوره فأخضعت كل مجريات تاريخ التشريع الإسلامي لهذا المبدأ! في حين أن الشريعة سابقة على وجود الدولة لا مسبوقة بها حاكمة للمجتمع لا محكومة به والذي يتطور إنما هو وعي الناس بها.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
237