لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول

لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

1959 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

"لو خُيّرت بين الألم واللاشيء، سأختار الألم"
وليليام فولكنر (نوبل للآداب 1949م)
 
"خبرتي مع الألم.. انشأت فيّ شعورًا بالإعجاب بالألم وتقديرًا له. أنا لا أرغب في حياة من غير ألم، ولا يمكنني حتى تصوّر ذلك"
الدكتور بول براند

 

تدور شبهة المشكك حول الزعم أن الإله الكامل في صفاته لا يمكن أن يصدر عنه غير عالم بلا شر وأن وجود الشر ناف لوجود إله خالق كامل، وهو بذلك يرى أن وجود هذا الشر مفسد لمعادلة هذا الكون المنظّم.
 
يثير هذا الاعتراض سؤالًا يقول: هل تؤدي إزالة الشرور إلى استواء عالمنا؟ ويختزن هذا السؤال في داخله أسئلة فرعيّة لا بدّ من بحثها:
 
ماذا يبقى من معنى الحياة بعد ذهاب الشر؟
ما غاية الحياة في عالم معصومين؟
ما شكل العالم بلا ألم؟

 

عندما يعطي الشر لحياتنا معنى

 

هل يستطيع الإنسان الأرضي أن يعيش من غير ألم؟ للإجابة على هذا السؤال نحتاج أن نسأل قبل ذلك إن كنّا نطيق أن نعيش بلا معنى.
 
إن بحث الإنسان عن معنى هو المحرك الأساسي لحياته، وليس هو عقلنة ثانوية لموجّهاته الغرائزية، فهو الذي يمدّه بزاد للسير في هذه الحياة والإحساس بحرارة الوجود. وقد عانى الغرب منذ النصف الثاني من القرن العشرين أزمة كبرى؛ أزمة الفراغ الوجودي، حيث فقد الوجود معناه، وأفرغ نفسه من جاذبية المدافعة والنجاح.
 
ومن أبسط مظاهر الفراغ الوجودي ما يسمى بعُصاب الأحد، حيث يكتشف المرء في نهاية الأسبوع بعد أيام صاخبة، عندما يخلو إلى نفسه أن حياته على الحقيقة خلو من المعنى؛ فكيف بحياة ينهسها عصاب الفراغ نهسًا أو نهشًا ؟ وفي هذا الجو العدمي تنبت أمراض الكآبة والإحباط وخواطر الرغبة في الانتحار.
 
لم تمر هذه الأزمة في خفاء؛ إذ هي الأزمة الكبرى المائجة الطاحنة، وهي ظاهرة في امتلاء المصحات النفسية بالمرضى وحالات الانتحار أو محاولات الانتحار، وأزمة الفردانية والسلبية الأسرية والمجتمعية.
 
وفي إحصائية أجرتها مؤسسة بحثية في جامعة هوبكنز مستقصية آراء 7948 طالب في 48 كلية في إجابة سؤال: ما هو أهم شيء بالنسبة إليهم؟ كانت إجابة 16%: تحصيلي قدر أكبر من المال، في حين اختار 78% القول: إن هدفهم الأول هو إيجاد هدف للحياة ومعنى لها، وهذا ما يعبر عنه وعي عميق مؤلف بأزمة العدمية.
 
وقد أسس عالم النفس فكتور فرنكل -صاحب الكتاب الذي بيعت منه ملايين النسخ "بحث الإنسان عن معنى" والذي عاش تجربة المحرقة النازية- مذهبًا جديدًا في علم النفس سماه "lOGOTHERAPY" أي المعالجة النفسية بالمعنى؛ إذ أنه قد اكتشف أن أكثر العلل النفسية في الغرب تعود إلى فقدان الإنسان معنى لحياته، وهو ما يجعله عاجزًا عن إيجاد دوافع جادة لمعايشة هذه الحياة وتحقيق استوائه النفسي، وهو بهذا المسلك العلاجي يحاول أن يجعل المريض يشعر بمعنى الحياة ومسؤوليته فيها.
 
ويخبرنا فكتور فرنكل أن الكشف عن معنى للحياة يكون بثلاث طرق، أحدها: اتخاذ موقف من معاناة لا سبيل لتجاوزها وذلك بتحويل المأساة إلى نصر، والمأزق إلى منجز إيجابي، وحتى عندما نكون عاجزين عن تغيير الواقع، نسعى إلى تغيير أنفسنا.
 
إن الألم هو إذن عنصر أصيل في حياة سليمة وقلب معافى من البرود القاتل؛ فبه يجد الإنسان حوافز في داخله للاستمتاع بلحظات الوجود أو الإحساس بها ومغالبتها، ففي غيبة الإحساس باللحظة، أو الرغبة في تحقيق نصر على شر فيها، تهمد رغبتنا في البقاء وتتهاوى قدرتنا على الصمود.
 
إن هذه الحياة الدنيا بلا ألم غير قابلة لأن تعاش لأنها بلا دلالة تتجاوز الأنفاس الصاعدة الهابطة، وبعبارة (س. إس. لويس): حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أنك قد استبعدت الحياة نفسها

 

لماذا لم يخلق الله عالمنا من الطيبين فقط؟

 

يتكرر على لسان المعترضين تساؤل مهم، وهو: لِم لم يخلق الله عالمًا خلوًّا من الشر، البشر فيه أحرار لكنّهم لا يأتون الشرّ وإنما يلتزمون العمل الصالح وينأون عن الشرور والمفاسد؟
 
والجواب هو فيه قوله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أجمعين"
 
قال المفسر ابن عاشور "وأما تعقيبه بقوله "ولذلك خلقهم" فهو تأكيد بمضمون "ولا يزالون مختلفين" والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله "مختلفين" واللّام للتعليل لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة وعالما به... كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم، والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل"(1)
 
فالله سبحانه قد خلق الناس بقدرات وملكات تقتضي ألا يكونوا كلّهم مصيبين وألا يكونوا كلّهم مخطئين؛ فقد ركّز في فطرهم معرفة الحق، ثم أسلمهم إلى ما يختارون من حق وباطل؛ ولذلك ظهر الفساد والكفر (وهو أقصى الشر) من فريق منهم. فليس في حساب الله سبحانه أن يخلق عالما بلا شر، وإنما اختار لخلقهم هذه الطبيعة في هذا العالم؛ ﻷنه يريد ذلك، فـ "الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوّح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة"(2)
 
وليس الأمر كما يظن فلاسفة مدرسة Process Theology الذين ذهبوا إلى أن الرب الخالق ليس كُلي القدرة، في سبيل التوفيق بين وجود الله ووجو دالشر! إن الله سبحانه لم يخلق الناس ليصيبوا الحق في كل أمرهم ولم يرد للوجود أن يكون براء من الشر، وإنما رضي للشر أن يكون أحد حقائق الحياة التي على الناس أن يصطرعوا معها، فينجو من يصرعها ويهلك من تصرعه.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير 190/12
  2. المصدر السابق 187/12

 

المصدر:

  1. د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص199
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مشكلة-الشر
اقرأ أيضا
صدق المرسلين | مرابط
اقتباسات وقطوف

صدق المرسلين


مقتطف من كتاب درء تعارض العقل مع النقل لشيخ الإسلام ابن تيمية يشير فيه إلى استحالة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء من أهل الكتاب ولكن التشابه فيما أخبر به الرسول وأي رسول قبله يوحي بأن المرسل واحد ويدل على صدق المرسلين وهذا ما ينكره أهل الكتاب

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2387
استحضار عظمة القرآن الكريم | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

استحضار عظمة القرآن الكريم


لك أن تتصور أن الذي خلقك وصورك وأنطقك وجعلك قابلا للتفكير والتأمل وجعل لديك هذه القدرة العقلية والقدرة على المقارنة والتحليل والنظر إلخ الذي أودع فيك هذه البصمة التي تختلف عن بصمة أخيك وأمك وأبيك وابنك وزوجتك إلخ والذي جعل فيك هذا المستودع من الخلايا والجينات والأعصاب واللحم والعظام والمفاصل إلخ هذا الذي أبدع هذا النظام كله والنظام الكوني: هو الذي أنزل هذا القرآن الكريم

بقلم: أحمد يوسف السيد
473
التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات النسوية

التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الثاني


تستعرض المؤلفة في هذا المقال بعض القواعد والأسس والكليات والأصول الدينية التي فيها رد ضمني على منطلقات التيار النسوي ومرتكزاته وأعمدته الفلسفية والفكرية سنرى هنا كيف تعامل الإسلام مع المرأة وما هي صورة المرأة في الإسلام هل فعلا هناك ظلم واقع عليها أم لا وهل هناك دونية أو نظرة استعلاء من قبل الرجل للمرأة في الإسلام أم لا وغير ذلك من التساؤلات والمرتكزات النسوية

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2184
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج2 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج2


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
525
زهرة الدنيا وزينتها | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

زهرة الدنيا وزينتها


هذا الذي يخشاه الرسول عليه السلام ما سيفتحه الله عز وجل من مغانم ومكاسب تأتي بسبب اتساع الدعوة الإسلامية وهذا ما وقع ولذلك كان بعض الصحابة يخشون على أنفسهم أن يكونوا قد فتنوا بزهرة الدنيا وزينتها حينما جاءتهم الأموال فكان الواحد منهم يعمل طيلة النهار ليحصل على قوت يومه

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
403
الإيمان بالقدر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإيمان بالقدر


جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم الإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب الحديث الثاني وهو سؤال جبريل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان

بقلم: ابن رجب الحنبلي
2099