ويرِد على هذا الجمع شبهة، وهي قول بعضهم: القرآن لم ينقل كله بالتواتر، بدليل أن زيد بن ثابت لم يجد خاتمة سورة براءة إلا مع خزيمة الأنصاري، وهو صحابي واحد، إذ يقول زيد: (فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم} إلى آخرهما) (1).
والجواب: سبق الحديث عن حفظ الصحابة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسور القرآن كلها، ومنها آيات سورة براءة، التي سأل زيد الصحابة عنها، فلم يعرفها أحد ممن سألهم إلا خزيمة الأنصاري (2)، أي لم يجدها مكتوبة إلا عنده، فأثبتها في مصحف أبي بكر، ويدل عليه قول زيد: (نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها؛ فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري) (3).
قال الزرقاني في بيان معنى قول زيد: "لم يجد الآيتين اللتين هما ختام سورة التوبة مكتوبتين عند أحد إلا عند أبي خزيمة، فالذي انفرد به أبو خزيمة [أو خزيمة] هو كتابتهما، لا حفظهما، وليس الكتابة شرطًا في المتواتر، بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ولو لم يكتبه واحد منهم، فكتابة أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقًا واحتياطًا فوق ما يطلبه التواتر" (4).
واستدل لذلك بما روي عن الصحابة من حفظهم لهاتين الآيتين، أولهم زيد نفسه، فهو يعرف الآية، لكنه يبحث عمن يعرفها من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل في سائر آيات القرآن، لذلك يقول زيد- كما في رواية البخاري -: (فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري)، فزيد يعرف الآية ويبحث عمن يعرفها من الصحابة (5).
وكذلك فإن أُبي بن كعب يحفظ هاتين الآيتين، ففي تفسير ابن أبي حاتم أن أُبيًا قال للصحابة لما ظنوا أن آخر ما نزل قوله: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم}، فقال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأني بعد هذا آيتين: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}) (6).
وكذلك يحفظهما عمر - رضي الله عنه -، ففي مسند أحمد أنه - رضي الله عنه - قال: (وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله) (7).
وكذلك يحفظهما عثمان، ففي كتاب المصاحف أن عثمان - رضي الله عنه - قال: (وأنا أشهد أنهما من عند الله) (8).
وكذلك سمع ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية وتفسيرها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني من أعظمكم قدرًا (9).
وقد جاء في روايات لا تخلو من ضعف عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - أن قلة من شهد لهاتين الآيتين سببه أنهما آخر ما نزل من القرآن (10).
وهكذا فهاتان الآيتان محفوظتان بحفظ الصحابة لهما، وإن لم توجدا مكتوبتين إلا عند خزيمة، لكن يحفظهما الصحابة حفظة القرآن، كما يحفظها زيد وعمر وعثمان وأبي، وغيرهم ممن لا يعرف عددهم إلا الله تعالى.
الإشارات المرجعية:
- أخرجه البخاري ح (٤٦٧٩).
- وسمته بعض الروايات (أبو خزيمة).
- أخرجه البخاري ح (٢٨٠٧).
- مناهل العرفان، الزرقاني (١/ ٩٨).
- أخرجه البخاري ح (٤٠٤٩).
- أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (٦/ ١٩١٩)، وابن أبي داود في المصاحف ح (٩٧)، وابن ضريس في فضائل القرآن ح (٢٦).
- أخرجه أحمد ح (١٧١٧)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس.
- أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (٣٣).
- أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/ ٢٦٢).
- أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/ ٣٦٨).
المصدر:
د. منقذ السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص33