هذا مخالف للعلم: النزعة العلموية

هذا مخالف للعلم: النزعة العلموية | مرابط

النزعة العلموية:

وهذا يدعونا إلى بحث نزعة أشد مغالاة في العلوم التجريبية، وتتخذ مواقف أكثر حدة من النقل في مثل هذه المجالات، وتتأكد أهمية الكلام على هذه النزعة المغالية في العلوم التجريبية مع انتشار عدد من البرامج الشعبية العلمية التي تستبطن هذه النزعة بوعي أو بغير وعي.

فمن أخطر مظاهر الغلو المعاصر في العلوم التجريبية حصر المعرفة الإنسانية البشرية في إطارها، وادعاء قدرتها على الوفاء بما يطلب منها كأداة تفسيرية لكل شيء، فما كان داخلًا في قدرتها فهو المقدور على إدراكه، وما عجزت عنه فلا سبيل إلى تحصيله وإدراكه، تزداد المشكلة باستحضار أن العلوم التجريبية إنما تنحصر في الإطار المادي الطبيعي، وبناءً عليه فكل ما كان خارجًا عن هذا الإطار فسيكون تلقائيًا محلًا للرفض والتكذيب، إذ لا سبيل للعلم إلى دركه، وما كان كذلك فيستحيل أن يكون علمًا، وما ليس بعلم فإنما هو خرافة ودجل.

وقد أطلق بعض المهتمين على هذه النمط المغالي في إمكانيات العلوم التجريبية لفظة (ساينتزم) (Scientism) وهو مصطلح منحوت من كلمة (ساينس) أي علم، مضافًا إليها ما يدل على الطبيعة الأيدولوجية لهذا الإيمان الشديد بإمكانيات العلوم التجريبية وحصر مصدرية المعرفة فيها، وقد تُرجمت هذه اللفظة في الفضاء العربي بـ(العلموية).

وظاهرة الغلو هذه ليست جديدة تمامًا، بل هي ظاهرة قديمة نسبيًا، لكن يبدو أن الأيام لا تزيد ظاهرة الغلو هذه إلا غلوًا، وليس بخافٍ أن جزءًا من مبررات هذا الغلو يعود للمكتسبات العلمية والمنجزات التقنية الهائلة التي تحققت بسبب المنهج العلمي والذي أحدث تحولًا ضخمًا جدًا في حياة البشر على كافة المستويات، بما لا يمكن قياسه.

لكن المشكلة هو في هذا التعاطي التحقيري مع الموارد المعرفية الأخرى ومحاولة حصر المجال المعرفي بتفاصيله وتعقيداته وتبايناته في هذا المورد وحده دون ما سواه.

أهم مشكلات النزعة العلموية

ونكتفي هنا بالكشف عن أهم مشكلات هذه النزعة، بما يدل على انحرافها وضلالها:

العجز عن الإثبات: وهي أكثر إشكاليات هذه النزعة طرافةً، فهي نزعة معرفية عاجزة تمامًا عن إثبات صحتها، فصحة المنهج التجريبي الذي تتأسس عليه النظرة العلموية إما أن يكون مدركًا بطريقه أو بطريق خارج عنه، فإن كان إدراكنا لصحة هذا المنهج هو بذات المنهج فهو دور باطل، يحمل في طياته تناقضًا داخليًا، إذ لا يصح أن تجعل الدعوى موردًا للاستدلال لها أو عليها. أما إن كانت صحة هذا المنهج مدركةً بأمر خارج عنه فقد حصل المقصود بإمكان تحصيل المعرفة بهذا الخارج، وهو ما يدخل في مجالنا المعرفي ضرورةً مورد معرفي آخر ليس من طبيعة ذلك المورد.

بطلان جذرها الفلسفي: إذ أصل فكرة العلموية قائم على أن مصادر المعرفة الإنسانية منحصرة في المدركات الحسية فحسب، وهذا الأساس غير صحيح، ودلائل بطلانه وخطئه كثيرة جدًا، فالحس ناقل معرفي لا حاكم معرفي، إذ الحاسة من حيث هي لا تصوب ولا تخطئ، وإنما تنقل الأمر للعقل الذي يؤدي هذا الدور، والعقل يشتمل على معارف ضرورية تنتهي إليها سلسلة المعارف النظرية.

فإن المعرفة البشرية إما أن تكون معرفة نظرية وهي لون من المعارف تستدعي نظرًا وتأملًا واستدلالًا، أو معارف ضرورية لا تتوقف على النظر والاستدلال كمبدأ السببية العامة، وعدم التناقض، وكون الجزء أصغر من الكل ونحو ذلك من الضروريات العقلية، فلو كانت المعرفة البشرية نظرية كلها، للزم من ذلك التسلسل في المعرفة أو الدور، فكل معرفة تتطلب دليلًا، وهو ما يفضي إلى امتناع تحصيل معرفة ما، إذ كل معرفة مفتقرة إلى معرفة سابقة دون نهاية، أو أن دليل المعرفة هو ذاتها وهو دور باطل يجعل من الدعوى حجة، فلا بد أن تنتهي المعرفة النظرية إلى معارف أولية تمثل نقطة الانطلاق المعرفي، وهذه النقطة وإن دخل في تشكيلها الحس، لكن الأمر لا يقتصر عليه بطبيعة الحال بل العقل والفطرة داخلة أيضًا.

منع إمكانية الوصول لفضاءات معرفية: فمع الإقرار بأن العلوم الطبيعية قادرةٌ على تزويدنا بمعلومات وفيرة عن الظواهر الطبيعية فهذا لا يعني أنها قادرة على تزويدنا بمعلومات في كل المجالات الممكنة، فمن الخطأ الفادح قصر المورد المعرفي عليه وحده، فسبل التوصل إلى المعارف متنوعة بتنوع طبائع المعارف والعلوم. فلكل مجال معرفي أدواته المعرفية ومصادره، وبناءً عليه فمحاولة تعميم المنهج التجريبي ليكون مصدر المعرفة في كافة المجالات، واعتقاد أنه وحده الصالح لتقديم الإجابات على كافة التساؤلات إشكالية منهجية وعلمية حقيقية، تفضي بصاحبها ولا بد إلى مشكلات علمية متعددة. وواقع المشهد العلمي والمعرفي بحد ذاته يكشف عن مثل هذه الإشكاليات، فالتاريخ مثلًا له موارده ومصادره المعرفية، وعلوم الرياضيات كذلك، وهكذا في كل المعارف والعلوم، فاعتقاد أن المنهج العلمي التجريبي هو وحده أداة تحصيل المعرفة، متناقض مع واقع التنوع في المجالات العلمية والذي يستتبع تنوعًا في طرائق العلم والمعرفة.

ضريبة النزعة العلموية: الحقيقة أن ضريبة تبني هذه النظرة المغالية للعلم باهظة جدًا معرفيًا وخلقيًا وإنسانيًا، فطردها يدخلنا في ألوانٍ من السفسطة المعرفية، والنسبية الخلقية، بل هي تفضي إلى انتزاع كل قيمة للإنسان. فحصر المعرفة في إطار العلوم التجريبية يفضي -وهو الواقع- إلى إنكار المعقولات الضرورية، وإنكارها يُسبب انهيار المنظومات العلمية، إذ هي ما يمثل اللبنات المعرفية الأولية التي يبنى عليها معرفيًا وبغيرها ندخل في دوامة السفسطة والمغالطة. كما أن العلم التجريبي غير قادر على تحديد ما هو أخلاقي وغير أخلاقي، وهو ما أفضى بكثيرٍ ممن يتبنى هذه النظرة المغالية إلى ادعاء نسبية الأخلاق، وأن لكل شخص أو مجتمع أن يحدد ما يراه مناسبًا من الأخلاق، وهو يجرنا إلى فوضى أخلاقية، ويخالف ما نجده في أنفسنا من إدراكٍ ضروري بأن العدل مثلًا قيمة أخلاقية حسنة، وأن الظلم قبيح، وأنت إذا نزعت عن الإنسان معرفته وخلقه فماذا يبقى معه؟!

والخلاصة التي ينبغي أن نعيها: أن معارضة الوحي بالعلوم الطبيعية إنما ينشأ من سوء فهم للوحي، أو سوء فهم للعلم، وأن الحل هو في ضبط كل طرف، وإدراك المنهجية الشرعية الصحيحة في العلاقة بينهما، وأنها متى طبقت على نحو سليم، انزاحت كافة الإشكاليات المتعلقة بهذا الباب.


المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص92
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
إمكانيات فهم القرآن | مرابط
فكر مقالات

إمكانيات فهم القرآن


وأتذكر قصص السلف التي رويت في تراجمهم وما ذكر عن تهجدهم بالأسحار وقيام بعضهم الليل كله بآية يرددها من كتاب الله وجاء هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي ذر عند النسائي أيضا أتذكر هذه المشاهد من قيام بعض السلف ليلة كاملة بآية واحدة وأقول في نفسي: يا ترى كم هي المعاني التي فتحت لهذا المتهجد في قيام الليل حتى أصبحت قراءة الآية لا تزيده إلا شغفا بإعادتها

بقلم: إبراهيم السكران
617
شهادة أهل العصبية | مرابط
اقتباسات وقطوف

شهادة أهل العصبية


الناس كلهم عباد الله تعالى لا يخرج أحد منهم من عبوديته وأحقهم بالمحبة أطوعهم له وأحقهم من أهل طاعته بالفضيلة أنفعهم لجماعة المسلمين من إمام عدل أو عالم مجتهد أو معين لعامتهم وخاصتهم وذلك أن طاعة هؤلاء طاعة عامة كثيرة فكثير الطاعة خير من قليلها وقد جمع الله تعالى الناس بالإسلام ونسبهم إليه فهو أشرف أنسابهم.

بقلم: الإمام الشافعي
310
مفهوم العبادة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم العبادة


وأما العبادة الخاصة وهي العبادة الشرعية وهي التذلل لله سبحانه وتعالى شرعا فهذه خاصة بالمؤمنين بالله سبحانه وتعالى القائمين بأمره ثم إن منها ما هو خاص أخص وخاص فوق ذلك فالخاص الأخص كعبادة الرسل عليهم الصلاة والسلام

بقلم: ابن عثيمين
293
شبهة شرب معاوية رضي الله عنه الخمر: رد على عدنان إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة شرب معاوية رضي الله عنه الخمر: رد على عدنان إبراهيم


يستهدف الطاعنون والمشككون في الإسلام سيدنا معاوية بن أبي سفيان بكثير من الشبهات والحملات التشويهية التي ترمي في النهاية إلى إسقاط قيمة ورمزية الصحابة من قلوب المسلمين ورويدا يصلون إلى الطعن في دين الإسلام نفسه بعد تشويه رجاله وحملته وفي هذا المقال يفند الكاتب شبهة سخيفة نسمعها ويرددها الكثيرون ومفادها أن سيدنا معاوية كان يشرب الخمر وإليكم تفصيلها والرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
2261
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها | مرابط
اقتباسات وقطوف

عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها


مقتطف هام من كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية يضع بين يدينا عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها العبد مهما بذل فيها من وقت وجهد وكدح ثم بعدما يذكرها يقف على أعظم الإضاعات التي قد يقع فيها العبد وهما إضاعة القلب وإضاعة الوقت

بقلم: ابن القيم
590
قيمة الدنيا عند المسلم | مرابط
تفريغات

قيمة الدنيا عند المسلم


فنحن مطالبون بأن نعمل وأن نعمر هذه الدنيا ما استطعنا بخير لكن مطالبون كذلك بأن لا نغتر بها وأن نعلم أنها ليست دار بقاء ومن هنا فالتعامل الصحيح مع هذه الدنيا أن يجعلها الإنسان في يده ولا يجعلها في قلبه فإنه إن جعلها في يده كان بالإمكان أن يستفيد منها وأن يتصرف فيها وأن يبعد قذرها عن نفسه وإن جعلها في قلبه ملكته وكان وعاء لها وخادما لها ولم يفته شيء من أقذارها وأكدارها.

بقلم: محمد الحسن الددو الشنقيطي
266