المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج2

المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج2 | مرابط

الكاتب: عبد الرحيم السلمي

642 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تطورات الإرجاء

نحن لا يهمنا الحديث عن إرجاء الفقهاء؛ لأنها مسألة تاريخية أكثر من كونها مسألة عملية، لكن الذي يهمنا هو الإرجاء الذي ظهر بعد ذلك، وأول من أظهر الإرجاء بالصورة التي عليها المرجئة الآن هو جهم بن صفوان؛ لأن جهم بن صفوان عرف الإيمان بأنه المعرفة، فاعتبر أن من عرف الله عز وجل فقد حقق الإيمان، حتى لو انتفت عنه أعمال القلب جميعًا، وحتى لو انتفت عنه أعمال الجوارح جميعًا، وحتى لو لم يحصل عنده الإقرار باللسان، فالصورة التي عند جهم هي أنه: لو أن إنسانًا عرف الله فقط فإنه مؤمن يدخل الجنة ولا يعذب ويكون كامل الإيمان، ولا شك أن هذا مخالف لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، وهذه الصورة منكرة.
ولهذا قال الجهمية هؤلاء: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وأصبح جهم يتبنى هذا المذهب، ثم انقرض قول جهم بهذه الصورة، وهي صورة: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

ثم جاءت مرحلة جديدة من مراحل الإرجاء وهي: إرجاء أهل الكلام، وإرجاء أهل الكلام هو إرجاء الأشاعرة والماتريدية، فالأشاعرة تبنوا مذهب المرجئة، وصورة الإرجاء الموجودة عند الأشاعرة هي أنهم قالوا: الإيمان هو تصديق القلب، وأخرجوا من الإيمان عمل القلب وأخرجوا عمل الجوارح، واختلفوا في الإقرار باللسان، فبعضهم قال: إن الإقرار باللسان هو شرط لإجراء أحكام الإسلام على الظاهر، وبعضهم قال: إنه داخل في حقيقة الإيمان، لكن أكثرهم يعتبرون أن قول: لا إله إلا الله هي شرط لإجراء الأحكام الظاهرة على الإنسان، فلو أن شخصًا مثلًا لم يقل: لا إله إلا الله وكان مصدقًا ثم مات، فإنهم يعتبرونه كافرًا في أحكام الدنيا، لكن يحتمل أن يكون من أهل الجنة في الآخرة، لأن قول: لا إله إلا الله عندهم ليس من حقيقة الإيمان الذي يكفر صاحبه في الحقيقة، وإنما يعتبرونه شرطًا لإجراء أعمال الإسلام في ظاهر الأمر، وفي ظاهر الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فإنهم لا يعتبرونه شرطًا، وإنما يقولون: إنه قد يكون مؤمنًا إذا كان تصديقه صحيحًا!

هذه الصورة صورة خطيرة لمفهوم الإيمان، فإن تصديق القلب ركن أساسي في الإيمان عند أهل السنة، فالمكذب ليس بمؤمن، ونطق اللسان شرط أساسي في الإيمان، ويدل عليه حديث المسيب بن حزن عندما ذكر قصة أبي طالب عندما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله،) فلم يقلها فمات على الكفر.

وهذا يدل على أن قول: لا إله إلا الله شرط للإسلام، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله)، وهذا يدل على أنها شرط في التعامل مع الإنسان على أنه مسلم.

وكذلك عمل القلب هو شرط أساسي وركن أساسي في الإيمان، فلو أن إنسانًا انتفى عنه عمل القلب كله لا يكون مؤمنًا؛ لأن حقيقة الإيمان هو محبة الله والخوف منه والتوكل عليه، فإذا كان الإنسان ليس في قلبه محبة لله، وليس في قلبه خوف من الله، وليس في قلبه توكل، وليس في قلبه إنابة، كيف يكون موحدًا؟! كيف يكون مؤمنًا؟! لا يمكن أن يكون مؤمنًا.

وكذلك أعمال الجوارح، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر من يخرج من النار هم الجهنميون من الموحدين، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين لا يخرجون منها أبدًا، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يصلون فقال: يعرفون بمواطن السجود، والمقصود بمواطن السجود يعني: بالصلاة، فقد كانوا يصلون فيكون أثر السجود في جباههم ويعرفون به، ولهذا ذكر هذا الحديث -حديث الجهنميين- البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة في باب فضل السجود مما يدل على أن هؤلاء من أهل الصلاة، فالصلاة هي ركن أساسي في الإيمان متعلق بأعمال الجوارح، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنه لا يتصور أبدًا أن يترك إنسانٌ جميع أعمال الجوارح فعلًا وتركًا ثم يكون عنده أعمال القلب؛ لأن أعمال القلب متفقة مع أعمال الجوارح، وأعمال الجوارح هي أثر من آثار أعمال القلب، فإذا انعدمت أعمال الجوارح في الظاهر كلها فعلًا وتركًا فإنا نجزم بأنه ليس في قلبه من أعمال القلب شيء، أي: ليس في قلبه من الإيمان شيء؛ لأن ترك أعمال الجوارح معناه: أن يترك جميع ما أمر الله به من الأفعال، كالصلاة والصيام والحج والزكاة، والأعمال الظاهرة جميعًا، وكذلك يدخل في أعمال الجوارح فعل المحرمات، فإن ترك المحرمات احتسابًا من أعمال الجوارح، فإذا ترك الإنسان المعصية فهذا يدل على أنه عمل.

فالصورة المفترضة عند من يرى أن ترك أعمال الجوارح غير مكفرة هو أنه يرى أنه لو ترك أعمال الجوارح الفعلية جميعًا بمعنى: أنه فعل جميع المعاصي لا يكفر، وهذا مستحيل أصلًا، فإن باطن الإنسان متعلق بظاهره، ولا يختلف تعلق باطن الإنسان بظاهره إلا في حالة الإكراه، فإن الإكراه حالة مستثناةٌ تجعل الإنسان في حالة غير طبيعية، بحيث إنه يعتقد شيئًا ولا يستطيع أن يعمله، ويمتنع عن عمله لوجود المكره له، لكن في الحالة الطبيعية وهي الحالة التي نعرف الإيمان من خلالها هي: أن عمل القلب مرتبط تمامًا بعمل الجوارح، فإذا انتفى عمل الجوارح بالكلية فإنه كذلك ينتفي عمل القلب بالكلية، وكذلك العكس، إذا انتفى عمل القلب بالكلية انتفى عمل الجوارح بالكلية، هذا في الحالة الطبيعية.

أيضًا هناك حالة مستثناه غير الإكراه وهي حالة النفاق، فإنه قد ينتفي العمل الباطني بالكلية ومع هذا توجد أعمال ظاهرها الإسلام، لكن هذه الأعمال التي في الظاهر للإسلام يفعلها المنافق حتى يتقي السيف، أو يتقي التكفير، أو يتقي هجران الناس، ونحو ذلك من الإحراجات التي يواجهها في المجتمع الإسلامي، لكن الصورة التي نتحدث عنها، هي الصورة الطبيعية للإنسان الطبيعي بدون إكراه وبدون نفاق، هذا إذا وجد عنده عمل القلب، وجد عنده عمل الجوارح مباشرة، وإذا انتفى عنه عمل القلب انتفت عنه عمل الجوارح مباشرة، وهكذا العكس: إذا وجدت عنده أعمال الجوارح وجد عنده عمل القلب وبقدر نقصان أعمال الجوارح ينقص عمل القلب، وبمقدار نقصان عمل القلب ينقص عمل الجوارح.

ولهذا أخطأ المرجئة والخوارج خطأً كبيرًا في هذه المسألة مما أدى إلى حصول البدع عندهم، فنجد أن المرجئة صورت أنه يمكن للإنسان أن لا يكون لديه عمل في الظاهر أبدًا، يعني: ليس لديه عمل من أعمال الظاهر بالمرة، ومع هذا يكون لديه عمل في الباطن، وهذا محال وغير واقع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فجعل التلازم بينهما تلازمًا تامًا، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا صلح القلب صلحت الأعضاء وإذا فسد القلب فسدت الأعضاء. هذا ما يتعلق بنشأة الإرجاء، وما يتعلق بظهور الطوائف المخالفة لمنهج أهل السنة فيه.

 

درجات المرجئة

أما أصول الإرجاء وأصول عقيدة المرجئة فهم في الحقيقة ليسوا على مرتبة واحدة، هم على مراتب، فنجد أن الغلاة هم الجهمية الذين جعلوا الإيمان هو المعرفة، وحينئذٍ يلزمهم أن يكون إبليس مؤمنًا، وأن يكون فرعون مؤمنًا؛ لأن إبليس وفرعون يعرفان الله، لكنهما يكذبان ويستكبران ويرفضان التعبد لله عز وجل، ثم أنقص منهم بقليل مرجئة المتكلمين وهم الأشاعرة والماتريدية وإن كان في الحقيقة أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الإيمان يقول: إن الأشاعرة والماتريدية ليس هناك فرق بينهم وبين الجهمية، فالجهمية قالت: الإيمان المعرفة، والأشاعرة قالت: الإيمان التصديق، ولم يذكروا بين التصديق والمعرفة فارقًا؛ لأن المعرفة معرفة بوجود الإله، والتصديق تصديق به، فليس هناك فارق بينهما؛ لأن هذا التصديق إن كان فيه محبة فهذا عمل ليس تصديقًا مجردًا، وإن لم يكن فيه محبة، فهذه معرفة مجردة ليست معرفةً وتصديقًا إيجابيًا له فائدته العملية.

وحينئذٍ سمى ابن تيمية رحمه الله وكثير من أهل العلم الأشاعرة: جهمية؛ لأنهم على طريقة جهم، ومما يدل على عقيدة الأشاعرة هذه كلام الباقلاني في الإنصاف، فإنه عرف الإيمان بأنه التصديق وقال: هذا هو المعروف في اللغة، حيث إن اللغة الإيمان فيها: هي التصديق دون أعمال الجوارح وأعمال القلب، ويمكن أن ننقل لكم من كتب الأشاعرة كتاب (المواقف في علم الكلام) ومؤلفه هو: عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، وهذا الكتاب يدرس في كثير من جامعات العالم الإسلامي ومنها الأزهر، يقول في تعريفه لحقيقة الإيمان:

المقصد الأول في حقيقة الإيمان: اعلم أن الإيمان في اللغة التصديق، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أي: بمصدق، وقال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) أي: تصدق، وأما في الشرع فهو متعلق بما ذكرنا من الأحكام، فهو عندنا وعليه أكثر الأئمة كالقاضي -يعني: القاضي أبو بكر الباقلاني -والأستاذ- وهو الإسفرائيني - يقول: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورةً.

إذًا: تعريف الإيمان: هو التصديق فقط، والعجيب: أنه فرق بين قولهم وقول السلف، فهو يقول: وأما في الشرع -يعني: حقيقة الإيمان- فهو عندنا -يعني: عند الأشاعرة- وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، ثم يقول: وقال السلف وأصحاب الأثر: إنه مجموع هذه الثلاث، فهو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ففرق بين السلف وبين قوله وقول أصحابه!

 

الدعاة والإرجاء

المشكلة الكبيرة التي حصلت في القرون المتأخرة هي: أن هذا المذهب الذي هو مذهب الإرجاء تبناه بعض الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، فأثر هذا المذهب الجديد عند بعض الدعاة تأثيرًا كبيرًا في موقفهم من كثير من الأحداث، وكثير من الأمور التي واجهوها في حياتهم، فاختلف أصحاب الدعوة الإسلامية بسبب اختلافهم في مفهوم الإيمان.

 

فنجد أن أصحاب الدعوة الإسلامية اختلفوا على ثلاث طواف:

الطائفة الأولى: هي التي انتهجت منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، ورأت أن الإيمان عمل بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وعرفوا الإيمان بأنه قول وعمل، ورأوا أن هذه الثلاث جميعًا من أركان الإيمان إلا التفصيلات، يعني: الإيمان قول القلب فإذا زال قول القلب بالكلية زال الإيمان، وقول اللسان، فإذا زال قول اللسان بالكلية زال الإيمان، وعمل القلب فإذا زال عمل القلب بالكلية زال الإيمان، وعمل الجوارح فإذا زال عمل الجوارح بالكلية زال الإيمان، لكن إذا زالت بعض فقرات من هذه الأركان الأربعة فإنه لا يزول الإيمان، إلا التصديق القلبي، فإنه لا ينقص التصديق إلا بالشك، إلا إذا اعتبرنا أن التصديق عمل من أعمال القلب فحينئذٍ نقول: إنه يزيد وينقص.

أما بقيتها الثلاثة فإن منها الواجب الذي يأثم الإنسان بتركه، ومنها الركن الذي يكفر الإنسان بتركه، ومنها المستحب الذي لا يعاقب الإنسان بتركه، ومنها غير ذلك، فمثلًا: من أعمال الجوارح رد السلام، فرد السلام من الإيمان، فلو ترك الإنسان رد السلام لا يكفر، وكذلك السنن من الإيمان، كركعتي الفجر من الإيمان، والوتر من الإيمان، فإذا تركها الإنسان لا يكفر، وكذلك كثير من أعمال القلب مثل: محبة الله، ومحبة الله نفسها تزيد وتنقص، فبعض الناس محبته لله قوية جدًا، وبعض الناس محبته لله أقل، لكن إذا زالت المحبة من أصلها بحيث لا يكون هناك محبة بالمرة حينئذٍ لا يكون مؤمنًا.

نرجع إلى حديثنا عن موضوع دخول الإرجاء في الدعوة الإسلامية فأقول: صار أصحاب الدعوة على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من تبنى منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم وعرف الإيمان بأنه قول وعمل، وأن أركانه ثابتة فيه، وأن العمل ركن منه، سواءًً عمل القلب أو عمل الجوارح، وقالوا: إنه يزيد وينقص إلى ما هنالك من مسائل الإيمان.

وطائفة ثانية: اعتبرت أفراد العمل من حقيقة الإيمان نفسه، يزول الإيمان بزوالها وهم الخوارج، فقالوا: إن الإنسان لو ترك واجبًا من الواجبات كرد السلام مثلًا أو صلة الأرحام فإنه يكون كافرًا خارجًا عن الإسلام، وهذا غلو وإسراف مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحدثنا سابقًا عن الخوارج.

الطائفة الثالثة: هم الذين تبنوا الإرجاء، والذين تبنوا الإرجاء من المشتغلين بالدعوة على أصناف أيضًا.

فمنهم: من تبنى الإرجاء كإرجاء الأشاعرة.

ومنهم: من كان أقل من ذلك، وسيأتي بيان ذلك.

فممن تبنى الإرجاء على أصول الأشاعرة من المعاصرين: الشيخ حسن أيوب في كتاب له اسمه: (تبسيط العقائد الإسلامية) يقول في صفحة (33): حكم النطق بالشهادتين، الشهادتان هما: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، والنطق بهما شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالأخرس أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه فهو ناج عند الله.

أما إذا استطاع النطق، ووجد وقتًا كافيًا ولم ينطق بالشهادتين، فإن كان عدم النطق عنادًا فهو كفر، ولا عبرة بالتصديق القلبي، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، إلى أن قال: أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه فالقول الراجح: أنه ناجٍ عند الله، يعني: لو أن إنسانًا ترك النطق بالشهادتين متعمدًا لكنه -كما قال- ليس عنادًا وليس رفضًا قال: فهو ناجٍ عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه وعدم الدليل عليه، ثم يقول: لقد حذر الشرع من الأمور المنافية للإيمان وحكم بكفر من يرتكبها، وذلك كالسجود للصنم اختيارًا أو الاستهانة بالفرائض أو التلفظ بكلمة الكفر أو نحو ذلك.

إذًا: الشيخ حسن أيوب يعتبر أن من ترك النطق بشهادة لا إله إلا الله من غير سبب من الأسباب لكنه مصدق بقلبه فهو ناجٍ عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو مذهب المرجئة كما سبق أن بينا.

وممن تبنى الإرجاء في هذه الأيام صاحب كتاب (إحكام التقرير في أحكام التكفير) فإنه عرف الكفر بأن حقيقته: هو التكذيب والجحود القلبي، وهذا لا شك أنه تعريف المرجئة؛ لأن المرجئة خالفوا منهج أهل السنة ومذهب أهل السنة في تعريف الإيمان، وكذلك في تعريف الكفر؛ لأن الكفر عكس الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم التصديق، فالكفر سيكون التكذيب حينئذٍ، وأما غير التكذيب فليس بكفر عندهم، فلو أن إنسانًا أعرض عن دين الله عز وجل بالمرة وتولى عنه، فإنه لا يعتبر كافرًا عندهم ما دام أنه مصدق؛ ولهذا صدرت عن اللجنة الدائمة ثلاث تحذيرات من ثلاث كتب كلها تتبنى الإرجاء، وأصحابها ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله عز وجل، فمثلًا كتاب (إحكام التقرير في أحكام التكفير) حذر منه المشايخ لتبنيه قول غلاة المرجئة، وكتاب (ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه) حذرت منه أيضًا اللجنة لتبنيه الإرجاء، وكذلك كتاب (الحكم بغير ما أنزل الله، وأصول التكفير) حذر منه المشايخ لتبنيه مذهب الإرجاء، وهذا يدل على أن مذهب الإرجاء بدأ ينتشر في صفوف من ينتسب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا خطير ينبغي الحذر منه، وسنتحدث عما يترتب على مذهب الإرجاء فيما يأتي.

 

مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان

هذا كتاب الشريعة للإمام المحدث محمد بن الحسين الآجري رحمه الله يقول فيه: باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح لا يكون مؤمنًا إلا بأن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاثة.
ثم يقول: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ثم اعلموا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب.

وهذا مثل ما ذكرنا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقًا، خلافًا لقول حسن أيوب الذي نقلناه، ولا تجزئ معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، وهذا خلاف لمذهب من يرى أن ترك عمل الجوارح بالمرة لا يكون صاحبه كافرًا وإنما يكون مؤمنًا، فإن عمل الجوارح ركن في الإيمان، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمنًا، دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين، ثم ذكر جملة من الأدلة من القرآن والسنة على إثبات أن العمل من الإيمان، ثم نقل نصوصًا عن السلف الصالح رضوان الله عليهم تدل على أنهم لا يعتبرون الإيمان إيمانًا إلا بالعمل، فساق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالا: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة.

وأيضًا: نقل عن الحسن البصري أنه قال: الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بالسنة.

وقد تعددت تعبيرات السلف رضوان الله عليهم في نفي الإيمان عمن انتفى عنه العمل فنجد مثلًا أن بعضهم يقول: لا يكون كما جاء التعبير عند بعضهم، وبعضهم قال: لا ينفع، وبعضهم قال: لا يحصل، ونحو ذلك من التعبيرات، ونقل عن سفيان الثوري أنه قال: الإيمان قول وعمل، ونقل عن مالك بن أنس ونافع بن عمر الجمحي وغيرهما من السلف: أن الإيمان قول وعمل.

قال الحميدي: وسمعت وكيعًا يقول: أهل السنة يقولون: قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، وهذا يدل على أن السلف ردوا على الأشاعرة من قديم، فإنكم تلاحظون أنه فرق السلف بين قول المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول، يعني: تصديق القلب، وبين قول الجهمية الذين يقولون: إنه المعرفة.

والحقيقة كما ذكر ابن تيمية أنه ليس هناك فرق ظاهر بين الاثنين، لكن فائدة التفريق هنا: أن نعلم أنهم ردوا على الجهمية، وكذلك ردوا على الأشاعرة وغيرهم، وقد نقل نصوصًا كثيرة ثم بوب بابًا مستقلًا سماه باب ذكر كفر من ترك الصلاة، وذكر النصوص: (ليس بين العبد المسلم وبين الشرك إلا ترك الصلاة).

 


 

المصدر:

محاضرة المرجئة ضمن سلسلة المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة، للشيخ عبد الرحيم السلمي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المرجئة
اقرأ أيضا
من ذكريات الحج | مرابط
مقالات

من ذكريات الحج


ألا ترون العروق الشعرية كيف تحمل الدم من أطراف الجسم ثم تصبه في الأوردة الكبار حتى يدور دورته في القلب مجتمعا وفي الرئة منتشرا فيصفو بعد العكر وينقى من الوضر ويعود في الشرايين دما أحمر جديدا بعد أن كان في الأوردة دما أسود فاسدا كذلك الحج يأتي المسلمون من آفاق الأرض الأربعة أفرادا ثم ينتظمون جماعات ثم يدورون حول الكعبة قلب الأرض المسلمة ثم ينتشرون في عرفات رئة الجسم الإسلامي فتصفي نفوسهم من أكدار الشهوات وتنقى أوضار الذنوب ويعودون إلى بلادهم أطهارا قد استبدلوا بتلك النفوس نفوسا جديدة كأنها م...

بقلم: علي الطنطاوي
674
مصدر تفسير القرآن | مرابط
تعزيز اليقين

مصدر تفسير القرآن


وكل ما استقر عليه فهم الصدر الأول من القرآن فهو مراد الله فيه لأن الله أنزله بلسانهم ليفهموه ولا يسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- معنى باطل استقر في نفوسهم فهذا يخالف مقتضى الرسالة والله مطلع على ما في نفوسهم من فهم.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
254
كيف تقرأ كتابا ج3 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج3


من الأمور التي تشد أو تحبب القراءة للشخص أن يحس بالمردود وإذا كان المردود سريعا كان تحبيب القراءة أو حبه للقراءة أكثر فمثلا: لو أن الإنسان قرأ مسألة فقهية ثم تعرض لها فإنه يستأنس جدا لأنه يعرف الجواب مثلا: لو قرأت عن الحج ثم ذهبت إلى الحج سيكون إحساسك بفائدة القراءة كبيرا لو قرأت كتابا في صفة الوضوء أو صفة الصلاة وأنت تطبق ذلك يوميا ستشعر بحب للقراءة لأن الثمرة مرئية ومشاهدة وسريعة

بقلم: محمد صالح المنجد
411
الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج2 | مرابط
توثيقات

الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج2


دولة التركستان الشرقية من الدول الإسلامية المحتلة التي ابتلعتها الصين الشيوعية في سنة 1949م في ظل غفلة المسلمين عن قضاياهم الماسة ونتيجة لفرقة المسلمين وتشتتهم وهي أرض إسلامية خالصة ولقد فصلنا في تاريخها في مقال سابق بعنوان قصة الإسلام في الصين كما ذكرنا الثروات الهائلة التي تمتلكها هذه الدولة الإسلامية الكبرى والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والدينية التي تتمتع بها وهذا في مقال آخر بعنوان كنوز التركستان الشرقية وفي مقالنا هذا نرى ماذا فعلت الصين الشيوعية في العقود الثلاثة الأ...

بقلم: راغب السرجاني
583
خير أمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

خير أمة


خص الله الأمة الإسلامية بكثير من الخصائص والمميزات فهم خير أمة أخرجت للناس أتباع النبي الخاتم الذي لن يأتي بعده نبي آخر ولهذا عصمهم الله من الاجتماع على الضلال وجعلهم شهداء على الناس وخصهم بالرواية والإسناد وحفظ الذكر الذي نزله وغير ذلك وهذا مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يتحدث عن الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1846
القوامة وظلم الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات النسوية المرأة

القوامة وظلم الزوجة


إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا -الذي ما فتيء ينادي ويصرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة- لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأخزاب إلى الرجال في هذه الدولة

بقلم: منقذ محمود السقار
1978