من أبرز سمات المنهج الإِسلامي أنه منهج عبادة، ولكن العبادة في هذا المنهج ليست مقصورة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة.. وإنما هي معنى أعمق من ذلك جدًا.. إنها الصلة الدائمة بالله.
هذه الصلة في الحقيقة هي منهج التربية كله، تتفرع منه جميع التفريعات وتعود في النهاية إليه.
والصلاة والصيام والزكاة والحج، وسائر الشعائر التعبدية، إن هي إلا مفاتيح؛ مجرد مفاتيح للعبادة، أو ”محطات” يقف عندها السائرون في الطريق يتزودون بالزاد، ولكن الطريق كله عبادة، وكل ما يقع فيه من نسك أو عمل، أو فكر أو شعور، فهو كذلك عبادة.. ما دامت وجهته إلى الله.
والعبادة بهذا المعنى تشمل الحياة.
إنها لا تقتصر على اللحظات القصيرة التي تشغلها مناسك التعبد، وما كان هذا هو القصد من الآية الكريمة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وإلا فما قيمة لحظات عابرة في صفحة الكون، لا تكاد تترك لها أثرًا وتضيع في الفضاء؟
إنما قيمتها أن تكون منهج حياة يشمل كل الحياة، قيمتها أن تكون خطة سلوك وخطة عمل وخطة فكر وخطة شعور، قائمة كلها على منهج واضح، يتبين فيه – كل لحظة – ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون.
ومرد الأمور كلها في ذلك هو الله، هو المرجع الذي يرجع إليه في كل أمر، ودستوره هو الدستور الذي يستشار في كل لحظة، يستشار في داخل القلب وفي وعي العقل وفي واقع السلوك.
وهذه هي العبادة في مفهوم الإِسلام.
ليس معناها أن يتزهد الإِنسان ويتنسك ويترهبن.
وليس معناها أن تستولي التقوى على قلبه في السجود والركوع، فإذا ختم صلاته هبت في داخل نفسه نوازع الطمع والجشع والعدوان، أو تخاذل عن القيام بالأمانة، أو ضعف عن نصرة الحق، أو تواكل عن العمل المنتج في عالم الحس.
كلا ! فما هو إذن موصول القلب بالله؟ إنه ”متسكع” في ”محطة العبادة” لكنه لا يسير في الطريق.
والعبادة هي السير في الطريق، مع التزود بين الحين والحين؛ السير في الطريق والقلب يحمل الشحنة الحية الواصلة، التي تدفع للعمل. تدفع دائمًا إلى الأمام.
والإِسلام صريح في اعتبار العمل هو العبادة، ما دام القلب يتجه فيه إلى الله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
هذا هو منهج العبادة الذي يرسمه الإِسلام ويقيم عليه أسسه التربوية، ويشترط فيه الصدق مع الله، والتقوى لله، أي الصلة الدائمة بالله
المصدر:
- محمد قطب، هل نحن مسلمون