النساء: مفصل الصراع بين الإسلام والغرب

النساء: مفصل الصراع بين الإسلام والغرب | مرابط

الكاتب: محمود خطاب

482 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

مقدمة: القوة الناعمة

يبدو أن العالم الغربي قد أدرك جيدًا أن الصدام المباشر واستعمال القوة الصلبة (الحملات الاستعمارية) لن يساعده على تحقيق أهدافه في دول الشرق وخصوصًا العالم الإسلامي، فالقوة الصلبة لا يمكنها أن تصهر الأفكار والعقائد التي تسكن العقول وتملك القلوب وتملأ النفوس.. ومن هنا كان الحل الناجع هو اللجوء إلى القوة الناعمة؛ لأن الفكرة يمكنها أن تنتصر على الفكرة، وهذا ما لم تستطع الحملات الاستعمارية أن تحققه: وأقصى ما حققته هو امتلاك الأرض قهرًا وغصبًا، ولكن ظل أصحابها على دراية بأن هذا محتل وما يفعله يسمى احتلالا، وظل هدفهم الأول هو إخراجه منها، ولهذا استمرت هذه الحملات لفترات طويلة وزادت تكلفتها مع الوقت، ﻷنها لم تستطع أن تقضي على هذه الفكرة.. أما على الجانب الآخر فالقوة الناعمة أقل تكلفة وأكثر فعالية، ﻷنها ببساطة يمكن أن تغير هذه الفكرة وجوزيف ناي هو أول من استعمل مفهوم القوة الناعمة، وبين بشكل جليّ أنه أكثر فائدة من القوة الصلبة، وأقل تكلفة كذلك.

يقول المبشر شاتيله مخاطبًا المبشرين: إذا أردتم أن تغزوا العالم الإسلامي وتحصروا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة، والتي كانت السبب الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، فعليكم أن تواجهوا جهودكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بأماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن ذلك بنشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر روح الإباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي، حتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء فإنه يكفينا ذلك لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أعضائها. (1)

والحقيقة أن هذا الأسلوب أكثر فعالية من الأسلوب الصلب المباشر الذي تمثل في الاستعمار العسكري.. لماذا؟ لأن العالم الغربي إذا حقق انتصارًا فكريًا ثقافيًا، أو بعبارة أخرى إذا استطاع أن يمتلك العقول = هنا ينتهي كل شيء تقريبًا؛ إذ يمكنه بعد ذلك أن يتحكم في أفكار الشعوب وسلوكياتهم، ويمحو ماضيهم وتراثهم، وهنا يتحول الولاء للغرب، ويكون هو مصدر التلقي ومصدر المعرفة الأوحد، وهنا تُستنسخ أفكاره في العقول الخاوية التي تم مسحها بعد أن منيت بهزيمة فكرية ساحقة، بل ويصبح هو القدوة في الفكر والثقافة، وما يخالفه يُرمى بالتخلف والتأخر والرجعية.. وهنا قطعًا يستطيع العالم الغربي أن يحقق كل أهدافه في الشرق، بلا أدنى مقاومة.

ومن هنا يمكننا أن نتحول إلى سؤال المقال: لماذا النساء؟ ما سر اهتمام الغرب بوضع النساء في دول ما يسمى بالعالم الثالث؟ وما علاقة هذه المقدمة بهن؟

لماذا النساء؟

من الواضح أن التركيز على النساء هو جزء من هذه القوة الناعمة.. يقول رسولنا، صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.. والحقيقة أن المرأة في الأسرة هي بمثابة هذا القلب؛ إذا صلحت = صلح أبناؤها وقامت الأسرة، وإذا فسدت = فسد أبناؤها وانهارت المنظومة الأسرية.. فالمرأة هي اللبنة الأساسية في البناء الأسري، هي التي تتعاهد تربية الأبناء وتلقينهم في أهم مراحل التلقي في صغرهم، فيكبر الأبناء وقد تشربوا الكثير مما تبثّه فيهم الأم من القيم والمبادئ والعقائد؛ وهذا ما يشكل ويصوغ شخصياتهم فيما بعد.

والمتأمل لهذا الدور الهام والخطير الذي تقوم به المرأة، يدرك أن النشء أمامه طريقان: إما أن يخرج صالحًا يعرف دينه ويعتز بأمّته وتاريخه ويدرك -بالتالي- دوره تجاه هذه الأمة وهدفه في الحياة وواجباته وحقوقه إلخ.. أو يخرج تافهًا ضالًا لا يكاد يعي من أمور دينه إلا نذرًا يسيرًا لا يساعده على تشكيل أي رؤية أو تكوين أي نظرة تجاه العالم حوله بل وحتى تجاه نفسه وأمته التي ينتمي إليها، وبالتالي لا يعرف دوره ولا يدرك طريقه، ويجهل ماضيه وتاريخه.. ثم هذا الأخير لا يحمل عقيدة حقيقية في صدره، ويظل هكذا إلى أن تتخطفه العلمانية أو غيرها من المذاهب الهدّامة المحيطة بالمسلمين من كل مكان، فالنفس طالما كانت خلوًا من عقيدة = فهي مستباحة لأي مذهب طارئ يصل إليها، أما النموذج الأول الذي تربى على يدي امرأة تقيّة تعرف دينها وتلزم غرزه = فهو يحمل مبادئ أو أساسيات عقيدته ويعرف ماضي أمته وماضي أعدائه ويلتزم بمنظومة قيمية ومعرفية صلبة، وهذا يمثل حائط صد أمام العقائد المنحرفة..

لك أن تتخيل أننا هنا لا نتكلم عن أسرة واحدة بل عن أجيال كاملة؛ فكل الأجيال ستقف أمام مفترق الطرق هذا، فإما أن يخرج للأمة جيل يعتز بدينه وينصره ويواليه وإما أن يخرج جيل يكون هو معول الهدم لهذا الدين.. ومن هنا ندرك أهمية دور المرأة في البناء الأسري، وندرك أيضًا لماذا تتعرض لكل هذه الحملات الضخمة، وبالطبع إذا استطاع أعداء الإسلام أن يفسدوا المرأة فقد ضمنوا أن تحوي هذه الأمة أسباب فنائها من الداخل.. لماذا؟ لأن هناك جيل كامل قد يخرج لهذه الأمة وهو فارغ داخليًا = وبالطبع الغرب أحاط المسلمين بكل أسباب العلمنة واللبرلة، ومن هنا يكون مسلمًا في الظاهر، ولكنه علماني في سلوكه وأفكاره وأحلامه وآماله.. وبالتالي يسهل على الغرب أن يحقق أهدافه في الشرق بأكمله فهو يواجه أجيالا خاوية داخليًا، فضلًا عن كونهم فريسة سهلة لأفكار الغرب نفسه، فكيف يعارضون مشاريعه ومصالحه؟

هل عرفت الآن لماذا المرأة؟ لماذا يريدون إخراجها من بيتها؟ لماذا يريدون أن تنشغل عن دورها الفطري -الذي خلقها الله من أجله- بالعمل والوظيفة ومزاحمة الرجال؟ ولماذا يحيطونها بهالة من المظلومية وبالتالي يدفعونها إلى معارك خاسرة؟ بالطبع يريدون أجيالا خاوية لهذه الأمة..  يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: ومن هنا العلمانية تركز على الأسرة منذ البداية، وأنا أعتقد أن حركة التمركز حول الأنثى دليل إفلاس الهجوم العلماني، ﻷنهم شعروا أنهم أمام العالم الإسلامي = الأسرة تحمي الفرد، وتعطيه القيم، وأن الطريقة الوحيدة هي ضرب هذه المنظومة.. وكيف ذلك؟ بتصعيد توقعات المرأة وتغيير إحساسها بنفسها بحيث إنها تتحول من زوجة وأم وأخت وهكذا إلى أنثى فقط، أي متمركزة حول الذات. وبتفصيل أكثر يقول المسيري في موضع آخر: 

فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة ولا طاقة له بها، ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد. كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، الذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادرًا على توصيل المنظومات القيمية والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع، ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية ويوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم. هذا ولا شك يعني التصدي لعملية العولمة..، وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة. ومن هنا يأتي تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى. فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي يعلن حتمية الصراع بين الذكر والأنثى، وضرورة وضع نهاية للتاريخ الذكوري الأبوي وبداية التجريب بلا ذاكرة تاريخية، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتها إلا خارج إطار الأسرة. وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت، وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية، وأهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهويته القومية ومنظومته القيمية. وبذلك يكون النظام العالمي الجديد قد نجح من خلال التفكيك في تحقيق الأهداف التي أخفق في تحقيقها النظام الاستعماري القديم من خلال المواجهة المباشرة. (2)

خدائع الغرب: الحملات ضد المرأة

ولهذا تعرضت المرأة المسلمة لكثير من الحملات، واتسمت هذه الحملات بالتنوّع الشديد:

- فتارة تجد الهجوم على الحجاب؛ فيقولون: شريعة رجعية، تزمت مقيت، يمنع المرأة من التعبير عن نفسها، يعوق المرأة عن ممارسة حياتها، إلخ.

- وتارة تجد الهجوم على القوامة؛ فيقولون: كبت للمرأة، عبدة، خادمة، رجعية، تزمت وتشدد.. ويستمرون في إثارة الفتن بين المرأة والرجل، فينتقلون للحديث عن الميراث؛ يقولون: لا بد من المساواة بين الرجل والمرأة.. والهدف في النهاية هو دفع المرأة لمعركة لا معنى لها مع الرجل، بحيث يتم تفكيك العلاقة بين الرجل والمرأة، ونزع حالة الوئام والمودة بين الأزواج وإحلال الصراع بدلًا منها، وهذا بدوره يغير من طبيعة الأسرة وتماسكها كما يقول علي عزت بيجوفيتش:  الرجل والمرأة هما الخلية الأساسية للعالم والحياة، لن تتغير الحياة الواقعية ولا الإمبراطوريات ولا القوانين إذا لم تتغير العلاقة بين الرجل والمرأة. إن أقل تغيير لهذه المادة الحياتية الأساسية يقود للانقلاب العام! (3).

- وتارة يحدثونها عن تحقيق الذات بأن تترك المنزل وتحقق لنفسها "كارير" تفخر به فيما بعد؛ وبالطبع يقبّحون ويشوهون صورة المرأة ربة المنزل، التي لا تعمل -في نظرهم- فهي لا تحقق شيئًا ولا قيمة لوجودها أصلًا وأنها تفني سنوات عمرها عاطلة لا وجود لها..

- ثم لا يتوقف الأمر عند هذا.. بل حتى يصل إلى الجوانب النفسية المرتبطة بنظرة المرأة لجسدها = فقد خدعوها بنماذج ثابتة من الجمال، وهو ما يعرف بالجمال المُعولم، حيث يفرض الغرب شكلًا محددًا للجمال، والمرأة التي لا تتصف به لا تكون جميلة.. ومن هنا تلهث النساء وراء هذه المعايير في صالونات التجميل، ويلجأون إلى عمليات الحقن والتجميل، للنفخ والشد والتكبير والتصغير وغير ذلك مما يجعلها مقبولة أمام هذا النمط الغربي المهيمن للجمال وطبعا يستهلك هذا مبالغ طائلة.. بل قد وصل الأمر ببعض الفتيات للانتحار عندما وجدن أنفسهن قبيحات وفقًا لمعايير الجمال المعولم.. والهدف في النهاية أيضًا هو شغل المرأة عن دورها ووظيفتها وتكدير صفوها النفسي.

وكل هذه الحملات تُقدم على أنها دفاع عن حقوق المرأة وتحرير لها من ربقة التخلف والرجعية، ورغبة في إخراجها من دائرة المظلومية التي تعيشها بالطبع.. وهذه الشعارات الكاذبة تتكرر كثيرًا فهناك مشروعات كبيرة تستهدف "تحديث" البلاد العربية أو الشرق الأوسط بشكل عام، مثل المشروع المسمى بالشرق الأوسط الكبير الذي تم مناقشته في مناسبات عديدة، ويستهدف تنمية النواقص التي يزعمون أنها غائبة، وأبرزها: الحرية، المعرفة، تمكين النساء، ويستهدف المشروع إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكن الحقيقة أن هذه الإصلاحات لن تأتي بمفردها؛ أي بمعزل عن الجانب الفكري والثقافي، بل إن هذه التحديثات لا بد أن تصاحبها تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية.. وطبعًا ما يهمنا هنا هو مسألة تمكين النساء التي يكررونها كثيرًا، يقول الدكتور عبد الله الوهيبي معلقًا على التغييرات التي تريد أمريكا إحداثها في المجتمعات العربية:

إن تركيز برامج التغيير التي ترعاها الإدارة الأمريكية على التغيير الاجتماعي وما يسمى "تمكين النساء" يسعى إلى خلخلة البنية الاجتماعية المحافظة التي تمثل الركيزة الأولى للتنشئة الصالحة. إن تزايد حضور المرأة في الفضاءات والمناصب العامة، وانتشار الاختلاط في التعليم والعمل، والتنديد بالزواج المبكر تحت ذريعة زواج القاصرات، والحث المبالغ فيه على فتح كافة المجالات والتخصصات للنساء، والدفع بالمرأة لسوق العمل في القطاعين العام والخاص دون ضوابط، واعتبار التزام المرأة بتربية أطفالها ورعاية بيتها مشكلة اقتصادية بحاجة إلى معالجة، كل ذلك وغيره يوفر البيئة المناسبة للتحلل الأخلاقي، والانحرافات السلوكية، ويعطل كليا أو جزئيًا الحاضنة التربوية للطفل في المنزل، مما يضعف حالة المحافظة الدينية، ويفت في عضد العمل الإسلامي المناكف لمشروعات الهيمنة والتغيير. (4)

إذن هذه الشعارات البرّاقة تحت مسمى الإصلاح والتطوير والتحديث = تهدف في المقام الأولى إلى تفكيك الأسرة المسلمة التي هي مادة حياة وبقاء المجتمعات الإسلامية، فإذا اختلت الأسرة ينهار المجتمع بأكمله.. وكيف يريدون تفكيك الأسرة؟ بالطبع الإجابة واضحة: عن طريق النساء! .. يستهدفون تغيير العلاقة بين الرجل والمرأة، وصرف المرأة عن دورها الفطري، وهو الأمومة والتربية، يريدونها أن تخرج للعمل في بيئات مختلطة، ويفتحون أمامها كل الأبواب لتلجها، يريدون إبعادها بأي شكل ممكن عن البيت! يريدون إغراقها في دوامات المظلومية والمناكفات ضد الرجال، يريدون صرفها بأي صورة ممكنة عن إخراج جيل صالح يعرف للأمة الإسلامية قدرها = وهنا يتغير البناء الاجتماعي بأكمله وتتخلى الأسرة عن دورها؛ فالأم غارقة في سوق العمل مثل الرجل تمامًا، والبيت خلوٌ من قيمته الأساسية، والأسرة لم تعد الركيزة والحاضنة الأساسية للتربية والتنشئة = وبذلك يفقد المجتمع بأكمله قدرته على المقاومة والصمود، ويتحول إلى حالة سائلة يشكلها الغرب كما يشاء.

معنى الحرية

وفي سبيل ذلك يستخدمون أساليب متنوعة وكثيرة، مثل البرامج واللقاءات والكتب والندوات والجمعيات الداعمة للنسوية، والمنابر، والمؤسسات الغير حكومية، والمنح الدراسية المجانية، وبرامج التدريب وغير ذلك.. كل هذا يساهم في تشكيل مجتمع مدني حديث، بتعبيرهم، وهم يقصدون مجتمعًا يتحلى بقيم وأفكار الغرب.. وأيضًا لا يمكن أن نغفل دور الدراما! التي تخاطب وجدان المشاهد وتلعب على وتر المشاعر، وهناك تجارب كثيرة لدور السينما القوي في التغيير والتأثير..

يوثق نيثان غردلز تجربة الكاتبة والناشطة النسوية هيرسي علي، فيقول عنها:

"ولكن لأنها تقف في تحد على حافة مفصل الصراع بين الغرب والإسلام المتطرف -دور النساء- فإنها بالتأكيد وبحق تشعر بأنها مهددة في كل مكان" (5)

أرأيت التعبير؟ يعني مفصل الصراع بيننا وبينهم -بين الإسلام وبين الغرب: النساء! هكذا بكل صراحة يرى الغربيون المعركة.. النساء هن المستهدفات بشكل أساسي للتغيير أو للتحرير، وهن مفصل الصراع، يعني أهم مناطق الصراع! (6) .. المهم، يوثق تجربتها، ويهمني هنا أن أتوقف عند دور السينما في مسيرتها يقول الكاتب: "وبعد أن جربت تأثير السينما في حياتها الخاصة، فهي مصممة الآن على إقناع هوليوود بالتوقف عن إغفال مسؤوليتها وتركيز مواهبها على المساعدة على ارتقاء المرأة المسلمة خاصة تلك التي في إفريقيا والعالم العربي، حيث تسود الأعراف، إلى ما يتجاوز حياة القمع التي تعيشها النساء هناك بتقديم صورة مقارنة للمرأة المعاصرة في المجتمعات الأخرى، وهي تعيش حرة وبكرامتها" (7)

والحقيقة أن هذا النقل جدير بالتأمل والتحليل؛ فالكلام ليس على ظاهره كما يظن البعض؛ بل هم يعبرون بعبارات براقة وشعارات جذابة عن مضامين أخرى؛ فمثلًا ما مفهوم هيرسي علي عن ارتقاء المرأة المسلمة؟ وما مفهومها عن العيش بحرية وكرامة؟ وما الهدف من مقارنة المرأة المسلمة بنظيرتها الغربية؟ نستكمل كلام المؤلف حتى نفهم شيئًا من مقصودها، يقول "ومع اندفاع الطوفان وتحطم الأبواب وانتشار التليفزيون في حي هيرسي علي، اعتاد المزيد من الأطفال مشاهدة البرامج التليفزيونية مستدعين الشيطان إلى بيوتهم.. بشكل ما كانت جدة هرسي علي محقة..، كان الطريق الذي حطت عليه هذه الفتاة الصومالية الشابة في ذلك اليوم بتعرضها لفيلم هوليوودي سخيف، قد أدى بها بعد سنوات إلى الإلحاد والتصدي للإسلام التقليدي وقوانين الشريعة الإسلامية التي تعتبرها هرسي علي اليوم قانون عشائري متقدم" (8) 

إذن.. ارتقت وتحررت هيرسي علي بأن ألحدت وتصدت للإسلام وقوانين الشريعة؟ الحقيقة أن هذه إجابة منطقية جدًا.. فالنهضة أو التحرر أو التحديث بالنسبة لهم يعني فتح الأبواب على مصراعيها بما يشمله ذلك من التحرر الجنسي والمادي والانفكاك عن المنظومة الأسرية التقليدية، التحرر يعني أن تتمركز المرأة حول ذاتها، وأن تتحول إلى أنثى كما يعبر الدكتور عبد الوهاب المسيري، التحرر يعني أن تخلع عنها ربقة العبودية لله، وترفض قوانين الشريعة التي لا تروق لها.. الحرية هي أن تخرج من دائرة الإسلام أصلًا! فالحرية هنا هي الحرية بالمفهوم العلماني الصريح، وهذا ما يريدونه لنساء المسلمين.

يذكّرني مفهوم التحرر السابق بما قاله المتفرنج المغرب لويس عوض تعليقًا على كلام الجبرتي الذي وثق ما فعلته الحملة الفرنسية بنساء مصر؛ حيث عملوا على نشر الفسق والخلاعة بأن استجلبوا معهم عددًا من النساء الفرنسيات، وخرجن إلى الطرقات كاشفات حاسرات، وخصصوا أماكن للاحتفال مع النساء أمام مرأى ومسمع عامة المصريين، وكان الهدف من ذلك هو نشر الاعتياد والألفة بينهم تجاه هذه العادات، وتطور الأمر بأن قاموا بأسر الكثير من النساء وتحولوا إلى سبايا، فكان الواحد منهم يطء ما يستحسنه من النساء، يعاشروهن معاشرة الأزواج، ويزيّوهن بزيّ الفرنسيات ودفعوهن إلى السير على طريقتهن، ووصل الحال ببعض النساء إلى التكسب عن طريق البغاء، حتى انخلع نقاب الحشمة والوقار كليًّا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. (9)

هذه الكارثة الكبرى يسميها لويس عوض "حركة تحرر النساء" ويرى أنها حركة اجتماعية منظمة تعبر عن فئة كبيرة من المثقفين في المجتمع المصري، وأن هذا هو السبيل للنهضة والخروج من ظلام العصور الوسطى!! بل ويقول في تعليق عجيب "ويستفاد من وصف الجبرتي أن تحرر المرأة المصرية في عصر الحملة الفرنسية قد تم درجة درجة: بدأ تلقائيًا وفي حدود ضيقة ثم تفشى بعد ثورة القاهرة الثانية حين سبى الفرنسيون أجمل نساء بولاق وبناتها وزيّوهن بزيّ نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال؛ أي ألبسوهن الفستانات والشيلان الكشمير المزركشة والمناديل الملونة وأبرزوهن سافرات وعلموهن ركوب الخيل وغير ذلك من العادات وأساليب السلوك وربما الأفكار التي كانت تتميز بها المرأة الفرنسية يومئذ..،  وهكذا اتسعت طبقة النساء اللواتي حاكين المتفرنسات والعادات الفرنسية (فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار) بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق" (10)

ويعلق محمد جلال كشك على كلامه فيقول "وعبارة سبايا الفرنسيين المتحررات ليست هزلية، ولا وضعت للتفكه، وإن كانت كذلك، بل هي منطقية للغاية مع هذا التفسير الجنسي للتاريخ.. فكونهن سبايا الفرنسيين لا يتنافي أبدًا -في هذا المنطق- مع كونهن متحررات.. فالحرية التي يدور حولها الجدل هنا هي الحرية الجنسية -بالمعنى السوقي المبتذل- ومن ثم يمكن أن تكون المرأة جارية سبية "متحررة" بل وطليعة ثورة تحررية، ﻷنها تلبس الفستان وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع محررها ومالكها في نفس الوقت!" (11)

ويقول في موضع آخر من نفس الكتاب "مؤرخ المدرسة الاستعمارية يجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب بالجنس -وهذا واضح من إشارة الجبرتي إلى بذل الفرنسيين الأموال للنساء- ثورة نساء وبداية تحرر المرأة! وهو بذلك يعكس احتقارًا عميقًا للمرأة، كما يعكس مفهومًا بورجوازيًا وقحًا لمعنى تحرر المرأة" (12)

فالشاهد أن هذا الأمر ليس حادثًا بل كل أبناء المدرسة الغربية يعبّرون بالحرية والنهضة ويقصدون بها المعنى العلماني الصريح؛ بما يمشله من حرية جنسية وفسق ومجون وخروج من ربقة الأديان.. بل إن هذا المعنى هو عين العبودية التي يزعمون أنهم يخرجون النساء منها.. فالحقيقة أ،هم يأسرون النساء، ولكن الفِطَر المنتكسة لا ترى الحق إلا باطلًا، ولا ترى الباطل إلا حقًا.. ولهذا يقول يقول د. هنري ماكوو: تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد، خدعة قاسية أغوت النساء الأميركيات وخربت الحضارة الغربية.

خلاصة موجزة

إذن ننتهي من كل هذا إلى عدد من النقاط؛ يستهدف العالم الغربي هدم المنظومة الأسرية بشكل كامل في العالم الإسلامي، ويريد أن يفرغ مفهوم الأسرة من محتواه، فتفقد الأسرة أهميتها وقيمتها كحاضنة تربوية أساسية في حياة النشئ. وبالطبع بعد أدنى تأمل، تُدرك أن المرأة هي اللبنة الأساسية في الأسرة، ولذلك ترى الحملات التي تخاطب النساء وتخضهن = مستعرة ومتزايدة بشكل مجنون، يريدون أن تنصرف المرأة عن مهمة التربية والتنشئة حتى لا تخرج أجيالا تعتز بثقافتها وأمتها فتكون حائط صد أمام الغرب، يريدونها أن تخرج أجيالا خاوية لا قيمة لها.. وكيف يتم لهم ذلك والنساء المسلمات ملتزمات بغرز هذا الدين وتعاليمه؟ كيف يتم لهم ذلك والنساء يرضعن تعاليم الإسلام وتاريخ الأمة للأبناء في الصغر؟ لا بد إذن من صرف النساء تمامًا عن التربية وتغيير مفهوم الدين في أعينهن.. لا بد من إخراج المرأة من بيتها، لتعمل عددًا كبيرًا من الساعات فلا يبق أي مساحة للتربية والتنشئة، لا بد أن تنشغل بسوق العمل، وأن تقع فريسة للنسوية، لتتمركز حول ذاتها فلا تبقى هي الأم، ولكن تتحول إلى الأنثى فقط، الأنثى المنشغلة بمعاركها مع الرجال ومع التراث والتقاليد، لا بد من تدمير علاقتها بالرجل ومحو المودة والسكينة بينهما، لا بد أن يتصارعا ويتناكفا فينهار البناء الأسري، لا بد أن تشك في فرضية الحجاب والقوامة وغير ذلك من الشرائع.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.


الإشارات المرجعية:

  1. المبشر شاتيلا، الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب
  2. عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الذات، ص36
  3. علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية، ص49، دار الفكر
  4. عبد الله الوهيبي، التبرج المسيس، ص57
  5. نيثان غردلز، الإعلام الأمريكي بعد العراق: حرب القوة الناعمة ص149
  6. مقطع للأستاذ عمرو عبد العزيز يتحدث عن هذه الجزئية من الكتاب: اضغط هنا
  7. نيثان غردلز، الإعلام الأمريكي بعد العراق: حرب القوة الناعمة، ص149
  8. المصدر السابق، ص148
  9. (للاطلاع على كلام الجبرتي، اضغط هنا)
  10. لويس عوض، تاريخ الفكر ص200 ج1
  11. محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، ص366
  12. المصدر السابق، ص363
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
واجبنا تجاه ما أخبر به الله ورسوله | مرابط
تفريغات

واجبنا تجاه ما أخبر به الله ورسوله


فعلى العبد أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته على الوجه الذي يليق به سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته فنؤمن بذلك على الوجه الذي يليق به سبحانه ليس له مثيل ولا نظير ولا كفء ولا ند جل وعلا فعلمه كامل ليس كعلمنا وقدرته كاملة ليست كقدرتنا وبصره كامل ليس كبصرنا وهكذا بقية صفاته سبحانه وتعالى وهكذا يسمع ويبصر ليس كسمعنا وبصرنا بل هو أكمل وأعظم

بقلم: ابن باز
296
الرجل الصفر الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الرجل الصفر الجزء الأول


وأعني بالرجل الصفر ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية ودنو الهمة ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات وكما أن هناك رجلا صفرا فإن هناك أيضا امرأة صفرا وكل ما قيل في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معا إلا فيما يختص به الرجال من مجال ولذلك على النساء أن ينتبهن وأن يتابعن مثل هذا الموضوع فإنها تشارك الرجل في كل كلمة تقال فيه

بقلم: إبراهيم الدويش
757
محاسن الإسلام في براهينه | مرابط
تعزيز اليقين مقالات اقتباسات وقطوف

محاسن الإسلام في براهينه


إن من أهم ما يوقف الناظر المتأمل على محاسن الإسلام وجماله وبهائه وتميزه هو النظر في البراهين المثبتة لصحته ومقارنتها ببراهين أي فكرة أخرى على وجه الأرض إن دين الإسلام قد جاء مبرهنا على صحة كل أصوله ببراهين قوية متعددة متنوعة وهذا ما لا تجده في أي دين آخر ولا في أي توجه أو تيار أو مذهب أو طائفة

بقلم: أحمد يوسف السيد
968
لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط
مقالات

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام


إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن وكتب السنة النبوية المشهورة بصحة رواتها إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق فإنها وحدها تبلغ كتابا وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

بقلم: محمد الخضر حسين
330
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج4 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج4


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
702
ألهاكم التكاثر | مرابط
مقالات اقتباسات وقطوف

ألهاكم التكاثر


تعليق ماتع لابن القيم على قول الله تعالى ألهاكم التكاثر يقف بنا على دلالاتها ومعنى ألهاكم ولماذا قال ألهاكم ولم يقل أشغلكم وكذلك يوضح المقصود بالتكاثر هل هو على الإطلاق أم لا وهل اللهو كله محرم أم لا وكذلك التكاثر وغير ذلك من اللمحات المفيدة

بقلم: ابن القيم
1474