الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2321 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأصل الرابع: أن الإيمان بالله ضرورة أخلاقية اجتماعية:

 
 
ومعنى هذا الأصل: أن الناس لا يمكن أن يقيموا لأنفسهم نظاما أخلاقيا صالحًا لضبط السلوك الإنساني وتسيير حياتهم في الأرض إلا مع الإيمان بوجود الله.
 
فلا أحد من العقلاء يعارض في أن الأخلاق مكوّن ضروري من مكونات الحياة الإنسانية، وأنه لا يمكن أن تقوم الحياة ولا تستقيم مسيرتها إلا بالأخلاق الصالحة، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يملك نظاما كاملًا واضحًا عن الأخلاق، بل إن أقوى ما يتميز به الإنسان عن البهيمية مبدأ طلب الصلاح والبحث عن الكمال والاستقامة، وذلك كله إنما يكون بالأفعال الأخلاقية.
 
والمنظومة الأخلاقية هي القوة الروحية الكبرى التي استطاعت أن تعلو بالإنسان عن مرتبة البهيمية إلى مستوى أعلى وأرقى في التعامل والتصرف في الحياة، فكل التصرفات الإنسانية الحياتية مبنية على الأخلاق، فالبيع والشراء، والصدقة والزواج، والصداقة والاشتراك في العمل، وتداول الأخبار وتناقلها، والأخذ والإعطاء، وغيرها، مرتبطة بطبيعة الأخلاق التي تهيمن على حياة الإنسانية، فلا حياة للإنسان بلا أخلاق، ومتى ما اختفت الأخلاق من حياة الإنسان أو اضطرب نظامها، فإن ذلك مؤذن بفساد الحياة الإنسانية كلها.
 
وإذا ثبت أن النظام الأخلاقي أمر ضروري في حياة الإنسان، ومكوّن جوهري من مكوناته، فإن هذا النظام لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بوجود الله، وقد خصصنا لبيان ذلك مبحثًا خاصًا في هذا بالبحث سيأتي إن شاء الله.
 
وحاصل ما فيه أن المبادئ الأخلاقية لا بد أن تكون متصفة بالإطلاق والثبات، بحيث تكون معتبرة في كل زمان ومكان، ولا يصح دخول النسبية فيها؛ ﻷن دخول النسبية فيها يؤدي إلى ضياع الصواب والخطأ، وينتهي إلى المساواة بين الصالح والفاسد، ويغلق الأبواب أمام كل دعوات الإصلاح وحركات التطوير الأخلاقي للشعوب، ويفتح الأبواب مشرعة أمام المفسدين ليفعلوا ما شاؤوا، بحجة أن لكل فرد أو مجتمع أخلاقًا تخصه، بل إنها تؤدي إلى مستويات متردية من الأخلاق، فمع النسبية لا يجد المرء مسوغًا لمنع أقبح فعل يمكن أن يقع في الوجود.
 
وإذا ثبت أن الأخلاق لا بد أن تقوم على مبادئ مطلقة وقوانين ثابتة، وأن قيامها على النسبية يؤدي بها إلى الفساد، فإن الوصول إلى المبادئ المطلقة لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى؛ ولا يمكن للعقل الإنساني المنكر لوجود الله أن يصل إليها البتة؛ ﻷن البلوغ إلى الإطلاق والثبات الشامل لكل زمان ومكان يشترط فيه شرطان: الأول تمام العلم بكل شيء، والثاني تمام التجرد من كل الأهواء والأغراض والتحزبات، والعقل الإنساني لا يمكنه أن يتصف بذلك؛ لكون الإنسان قاصرًا في علمه وتجرده، فلا بد أن يعتمد على غيره في البلوغ إلى مرحلة الإطلاق.
 
فإذا أنكر الملحد وجود الله، فقد أغلق كل الطرق الموصلة إليه، فلا يمكنه في الحالة هذه أن يؤمن بالمبادئ المطلقة، وأما المؤمن بوجود الله وخلقه للكون، فإن الأمر في حاله بين، فهو يؤمن بأن الله مطلق في علمه وكامل في عدله، وبالتالي فإنه سبحانه هو أساس الإطلاق في الكون ومصدر العدل فيه.

 

الأصل الخامس: أن الله تعالى متصف بالكمال المطلق:

 

ومعنى هذا الأصل: أن المؤمن كما أنه يؤمن بأن الله موجود، وأنه الخالق للكون، فإنه يؤمن مع ذلك بأن الله متصف بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، المؤمن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له أقصى ما يمكن من الكمال (1)
 
فحياة الله كاملة من كل وجه، وكمالها يستلزم نفي الموت عنه والنوم والسّنة، وعلم الله كامل من كل وجه، وكماله يستلزم نفي الجهل عنه والنسيان والغفلة، وقدرة الله كاملة من كل وجه، وكمالها يستلزم نفي العجز والضعف عنه وهكذا الحال في كل صفات الكمال الإلهي.
 
ومن مجموع هذه الكمالات يتحقق الكمال المطلق لله تعالى، فالكمال المطلق عبارة عن اجتماع صفات الكمال كلها في ذات واحدة، وانتفاء صفات النقص عنها، فهو إذن نتيجة اجتماع أنواع الكمالات وانتفاء جنس النقص.
 
وهناك تلازم ضروري بين الإيمان بوجود الله وبين الإيمان بثبوت الكمال المطلق له، فكل من آمن بوجود الله فإنه يلزمه أن يؤمن بالكمال المطلق له، وشعور المؤمن بثبوت الكمال المطلق لله لا يختلق عن شعوره بوجود الله وربوبيته للكون، فهما متلازمان في عقله وفطرته، يقول ابن تيمية:

 

"هذا المعنى -ثبوت كمال الله- مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء" (2)

 

وكل من آمن بالله وبربوبيته للكون ثم لم يؤمن بثبوت الكمال له، فإنه سيكون متناقضا لا محالة؛ لكونه فصل بين متلازمات ضرورية.

 

وأما الأصول التي تدل على ثبوت الكمال المطلق لله، فهي متعددة الجوانب والاتجاهات، تتضافر فيما بينها في الدلالة والبيان:
 
ومنها: أن كمال الله تعالى من ذاته لا من أحد سواه، فإنه سبحانه مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه، فما له من الكمال لا يمكن إذن أن يكون من غيره، وإنما هو من ذاته فقط، وما كان من ذاته فهو ملازم له، فذاته قديمة الوجود، فكماله لا بد أن يكون قديم الوجود لا ينفك عن ذاته (3)
 
ومنها: أن الله تعالى خالق الوجود كله بضخامته وتنوعه واتساعه، والخلق يستلزم كمال الحياة؛ إذ يستحيل وجود الخلق العظيم بدون الحياة، ويستلزم أيضًا كمال العلم؛ إذ يستحيل وجود هذا الخلق العظيم المتقن الجاري على سنن مستقيمة مع الجهل أو نقص العلم.
 
ويستلزم أيضًا كمال الإرادة؛ إذ يستحيل وجود هذا الكون العظيم في وقت محدد وصيغة محددة ونظام محدد مع عدم الإرادة والقصد، ويستلزم أيضًا كمال القدرة؛ إذ يستحيل انتقال الكون العظيم من العدم إلى الوجود بغير قدرة وقوة توجب ذلك، ويستلزم كمال الحكمة؛ إذ يستحيل أن يكون ما نشهده في الكون من خير وجمال ودقة وانتظام ووضع لكل شيء في موضعه من غير أن يكون ذلك ناتجا عن حكمة بالغة.
 
واجتماع هذه الصفات في ذات يستلزم ثبوت سائر الكمالات؛ ﻷنها أصول الكمال وأساسه، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن القيم:

 

"وخلقه تعالى لهم متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته، وذلك يستلزم لسائر صفات كماله ونعوت جلاله" (4)

 

وقد دل القرآن في نصوص كثيرة على ثبوت الكمال المطلق لله تعالى بطرق متعددة، ومن ذلك: إثبات المثل الأعلى لله تعالى "كما في قوله تعالى "ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم" والمراد بالمثل الأعلى: الصفات العليا، والكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه (5)
 
ومن ذلك إثبات الحمد لله تعالى في آيات كثيرة جدًا، ومن أعظم أسباب استحقاق الله الحمد ثبوت الكمال له، فالله تعالى يحمد على ما اتصف به سبحانه من الكمال والجلال والجمال، كما يحمد على ما أنعم به من النعم والخيرات (6)
 
ومع إيمان المؤمنين بثبوت الكمال المطلق لله تعالى، فإنهم يؤمنون أيضًا بأن الكمال الذي يجب لله تعالى هو الكمال الممكن الوجود، وأما الممتنع فليس من الكمال الاتصاف به؛ ﻷنه في الحقيقة ليس بشيء، ولا يمكن تحققه في الواقع، فعدم وجوده ليس نقصًا، فلا يكون انتفاؤه منافيا للكمال (7)
 
وكذلك يؤمنون بأن كمال أفعال الله متعلق بحكمته البالغة التي لا يعملها إلا هو، فانتفاء بعض الأفعال في وقت من الأوقات، أو في حال من الأحوال، لعدم تعلق الحكمة بها ليس نقصًا، بل هو اكلمال عينه، ﻹمعلوم في العقل أن مجرد فعل من الأفعال لا يكون محققًا للكمال، وإنما لا بد من توافقه مع طبيعة الحال والواقع وانسجامه مع الحكمة (8)، وفي توضيح هذه الحقيقة يقول ابن القيم:

 

"القدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته، وبقصدها بفعله، كان فعله فسادا، كصاحب شهوات الغي والظلم، الذي يفعل ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإن هذا وإن كان له قوة وعزة، لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده
 
وكذلك العلم كماله أن يقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه سيفه غاو، وعلمه عون له على الشر والفساد، هذا إذا كان عالما قادرا مريدا له إرادة من غير حكمة، وإن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولا ممتنع من الحي، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنع، كوجود إرادة بدون شعور.
 
والمقصود أن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما، واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية الكونية، وهو حكيم في كل ما خلقه وأمر به" (9)

 

ومقتضى هذا التقرير أن المؤمن لا ينظر إلى الكمال الإلهي إلا بمنظار التضافر بين صفات الكمال كلها، بخلاف غيره من الناقدين للأديان، فإنهم لم يدركوا هذه الحقيقة، فأخذوا ينظرون إلى الكمال الإلهي بنظرة التفرقة والانفصال بين صفات الكمال، فوقعوا في مشكلات معرفية كبيرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 71/6
  2. المرجع السابق 71/6
  3. انظر: المرجع السابق 77/6
  4. الفوائد
  5. انظر: معالم التنزيل، البغوي (73/3)، وزاد المسير، ابن الجوزي (459/4)، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير (575/2)
  6. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية (84/6)
  7. انظر: المرجع السابق (107/6)
  8. انظر: المرجع السابق (107/1)
  9. طريق الهجرتين (233/1)

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
الدعوة إلى الحق | مرابط
فكر مقالات

الدعوة إلى الحق


الله تعالى هو الحق الذي قامت الأدلة العقلية والنقلية على وحدانيته وعظمته وسعة أوصافه وكماله المطلق الذي لا غاية فوقه الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والمجد إلا هو ودينه هو الحق الذي دارت أخباره على الحقائق الصادقة والعقائد النافعة المصلحة للقلوب والأرواح وأحكامه على العدل المتنوع في العبادات والمعاملات في أداء حقوقه وحقوق الخلق باختلاف أحوالهم وحقوقهم ومراتبهم وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا الأنعام: 115 صدقا في إخبارها عدلا في أحكامها وأوامرها ونواهيها

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
7788
لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط
مقالات

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام


إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن وكتب السنة النبوية المشهورة بصحة رواتها إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق فإنها وحدها تبلغ كتابا وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

بقلم: محمد الخضر حسين
326
مستقبل الثقافة وماضيها | مرابط
مقالات

مستقبل الثقافة وماضيها


إن هذا الجيل الجديد من أبنائنا واقف في مفترق طرق لا يدري أيها يسلك وقد فتح عينيه على زخارف تستهوي من الثقافة الغربية وقد أصبحت هذه الثقافة أقرب إلى عقله وذوقه لما مهد أهلها ودعاتها من المسالك إلى النفوس ولما تنطوي عليه من المغريات والمعاني الحيوانية ولما فيها من موجبات التحلل والانطلاق ولما تزخر به من الشهوات وحظوظ الجسد ولما يشهد لأهلها من شهود العلم وهو يفتح عينيه كل يوم منها على جديد.

بقلم: البشير الإبراهيمي
302
إنهم يبرمجونك! | مرابط
اقتباسات وقطوف

إنهم يبرمجونك!


إنهم يبرمجونك يا رجل عن بعد إنه تتم برمجتك يا رجل! تشاهد هذا في الأخبار فتقول: لقد شاهدت هذا في الأخبار.. إنها حقيقة.. لا ليست كذلك إنها هراء! نعم إن هذه هي حقيقة هذا الجهاز المسمى بالتلفاز إنه يقوم ببرمجة عقولنا إنه يقوم بقصف العقل بمجموعة هائلة من الصور بدون تسلسل منطقي لها

بقلم: محمد علي فرح
325
الموظفة: الترغيب في المحتارة والزهد في المختارة | مرابط
المرأة

الموظفة: الترغيب في المحتارة والزهد في المختارة


المرأة العاملة غارقة في مخالفات شرعية كالاختلاط وكثرة الخروج ومزاحمة حق الرجل في العمل لكن لا ينبغي تعميم الحكم فمنهن المضطرة التي تسأل الله القرار ولم يتيسر لها بعد

بقلم: قاسم اكحيلات
257
مشكلة خفاء الله | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات الإلحاد

مشكلة خفاء الله


يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودا حقيقة فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله ولكن واقعنا اليوم يخبر أن طوائف من الناس ملحدة لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد وتعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة الخفاء الإلهي divine hiddenness وهي تقوم على زعمين أولهما: أنه إذا كان الله موجودا فلا بد أن يكون وجوده واضحا للجميع بلا أدنى ريبة وثانيهما: أن وجود الله غير بين لجل الناس وفي المقال الذي بين يدينا يقف المؤلف على هذه الشبهة ويمحصها و

بقلم: سامي عامري
1664