الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2466 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

الأصل الرابع: أن الإيمان بالله ضرورة أخلاقية اجتماعية:

 
 
ومعنى هذا الأصل: أن الناس لا يمكن أن يقيموا لأنفسهم نظاما أخلاقيا صالحًا لضبط السلوك الإنساني وتسيير حياتهم في الأرض إلا مع الإيمان بوجود الله.
 
فلا أحد من العقلاء يعارض في أن الأخلاق مكوّن ضروري من مكونات الحياة الإنسانية، وأنه لا يمكن أن تقوم الحياة ولا تستقيم مسيرتها إلا بالأخلاق الصالحة، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يملك نظاما كاملًا واضحًا عن الأخلاق، بل إن أقوى ما يتميز به الإنسان عن البهيمية مبدأ طلب الصلاح والبحث عن الكمال والاستقامة، وذلك كله إنما يكون بالأفعال الأخلاقية.
 
والمنظومة الأخلاقية هي القوة الروحية الكبرى التي استطاعت أن تعلو بالإنسان عن مرتبة البهيمية إلى مستوى أعلى وأرقى في التعامل والتصرف في الحياة، فكل التصرفات الإنسانية الحياتية مبنية على الأخلاق، فالبيع والشراء، والصدقة والزواج، والصداقة والاشتراك في العمل، وتداول الأخبار وتناقلها، والأخذ والإعطاء، وغيرها، مرتبطة بطبيعة الأخلاق التي تهيمن على حياة الإنسانية، فلا حياة للإنسان بلا أخلاق، ومتى ما اختفت الأخلاق من حياة الإنسان أو اضطرب نظامها، فإن ذلك مؤذن بفساد الحياة الإنسانية كلها.
 
وإذا ثبت أن النظام الأخلاقي أمر ضروري في حياة الإنسان، ومكوّن جوهري من مكوناته، فإن هذا النظام لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بوجود الله، وقد خصصنا لبيان ذلك مبحثًا خاصًا في هذا بالبحث سيأتي إن شاء الله.
 
وحاصل ما فيه أن المبادئ الأخلاقية لا بد أن تكون متصفة بالإطلاق والثبات، بحيث تكون معتبرة في كل زمان ومكان، ولا يصح دخول النسبية فيها؛ ﻷن دخول النسبية فيها يؤدي إلى ضياع الصواب والخطأ، وينتهي إلى المساواة بين الصالح والفاسد، ويغلق الأبواب أمام كل دعوات الإصلاح وحركات التطوير الأخلاقي للشعوب، ويفتح الأبواب مشرعة أمام المفسدين ليفعلوا ما شاؤوا، بحجة أن لكل فرد أو مجتمع أخلاقًا تخصه، بل إنها تؤدي إلى مستويات متردية من الأخلاق، فمع النسبية لا يجد المرء مسوغًا لمنع أقبح فعل يمكن أن يقع في الوجود.
 
وإذا ثبت أن الأخلاق لا بد أن تقوم على مبادئ مطلقة وقوانين ثابتة، وأن قيامها على النسبية يؤدي بها إلى الفساد، فإن الوصول إلى المبادئ المطلقة لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى؛ ولا يمكن للعقل الإنساني المنكر لوجود الله أن يصل إليها البتة؛ ﻷن البلوغ إلى الإطلاق والثبات الشامل لكل زمان ومكان يشترط فيه شرطان: الأول تمام العلم بكل شيء، والثاني تمام التجرد من كل الأهواء والأغراض والتحزبات، والعقل الإنساني لا يمكنه أن يتصف بذلك؛ لكون الإنسان قاصرًا في علمه وتجرده، فلا بد أن يعتمد على غيره في البلوغ إلى مرحلة الإطلاق.
 
فإذا أنكر الملحد وجود الله، فقد أغلق كل الطرق الموصلة إليه، فلا يمكنه في الحالة هذه أن يؤمن بالمبادئ المطلقة، وأما المؤمن بوجود الله وخلقه للكون، فإن الأمر في حاله بين، فهو يؤمن بأن الله مطلق في علمه وكامل في عدله، وبالتالي فإنه سبحانه هو أساس الإطلاق في الكون ومصدر العدل فيه.

 

الأصل الخامس: أن الله تعالى متصف بالكمال المطلق:

 

ومعنى هذا الأصل: أن المؤمن كما أنه يؤمن بأن الله موجود، وأنه الخالق للكون، فإنه يؤمن مع ذلك بأن الله متصف بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، المؤمن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له أقصى ما يمكن من الكمال (1)
 
فحياة الله كاملة من كل وجه، وكمالها يستلزم نفي الموت عنه والنوم والسّنة، وعلم الله كامل من كل وجه، وكماله يستلزم نفي الجهل عنه والنسيان والغفلة، وقدرة الله كاملة من كل وجه، وكمالها يستلزم نفي العجز والضعف عنه وهكذا الحال في كل صفات الكمال الإلهي.
 
ومن مجموع هذه الكمالات يتحقق الكمال المطلق لله تعالى، فالكمال المطلق عبارة عن اجتماع صفات الكمال كلها في ذات واحدة، وانتفاء صفات النقص عنها، فهو إذن نتيجة اجتماع أنواع الكمالات وانتفاء جنس النقص.
 
وهناك تلازم ضروري بين الإيمان بوجود الله وبين الإيمان بثبوت الكمال المطلق له، فكل من آمن بوجود الله فإنه يلزمه أن يؤمن بالكمال المطلق له، وشعور المؤمن بثبوت الكمال المطلق لله لا يختلق عن شعوره بوجود الله وربوبيته للكون، فهما متلازمان في عقله وفطرته، يقول ابن تيمية:

 

"هذا المعنى -ثبوت كمال الله- مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء" (2)

 

وكل من آمن بالله وبربوبيته للكون ثم لم يؤمن بثبوت الكمال له، فإنه سيكون متناقضا لا محالة؛ لكونه فصل بين متلازمات ضرورية.

 

وأما الأصول التي تدل على ثبوت الكمال المطلق لله، فهي متعددة الجوانب والاتجاهات، تتضافر فيما بينها في الدلالة والبيان:
 
ومنها: أن كمال الله تعالى من ذاته لا من أحد سواه، فإنه سبحانه مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه، فما له من الكمال لا يمكن إذن أن يكون من غيره، وإنما هو من ذاته فقط، وما كان من ذاته فهو ملازم له، فذاته قديمة الوجود، فكماله لا بد أن يكون قديم الوجود لا ينفك عن ذاته (3)
 
ومنها: أن الله تعالى خالق الوجود كله بضخامته وتنوعه واتساعه، والخلق يستلزم كمال الحياة؛ إذ يستحيل وجود الخلق العظيم بدون الحياة، ويستلزم أيضًا كمال العلم؛ إذ يستحيل وجود هذا الخلق العظيم المتقن الجاري على سنن مستقيمة مع الجهل أو نقص العلم.
 
ويستلزم أيضًا كمال الإرادة؛ إذ يستحيل وجود هذا الكون العظيم في وقت محدد وصيغة محددة ونظام محدد مع عدم الإرادة والقصد، ويستلزم أيضًا كمال القدرة؛ إذ يستحيل انتقال الكون العظيم من العدم إلى الوجود بغير قدرة وقوة توجب ذلك، ويستلزم كمال الحكمة؛ إذ يستحيل أن يكون ما نشهده في الكون من خير وجمال ودقة وانتظام ووضع لكل شيء في موضعه من غير أن يكون ذلك ناتجا عن حكمة بالغة.
 
واجتماع هذه الصفات في ذات يستلزم ثبوت سائر الكمالات؛ ﻷنها أصول الكمال وأساسه، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن القيم:

 

"وخلقه تعالى لهم متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته، وذلك يستلزم لسائر صفات كماله ونعوت جلاله" (4)

 

وقد دل القرآن في نصوص كثيرة على ثبوت الكمال المطلق لله تعالى بطرق متعددة، ومن ذلك: إثبات المثل الأعلى لله تعالى "كما في قوله تعالى "ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم" والمراد بالمثل الأعلى: الصفات العليا، والكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه (5)
 
ومن ذلك إثبات الحمد لله تعالى في آيات كثيرة جدًا، ومن أعظم أسباب استحقاق الله الحمد ثبوت الكمال له، فالله تعالى يحمد على ما اتصف به سبحانه من الكمال والجلال والجمال، كما يحمد على ما أنعم به من النعم والخيرات (6)
 
ومع إيمان المؤمنين بثبوت الكمال المطلق لله تعالى، فإنهم يؤمنون أيضًا بأن الكمال الذي يجب لله تعالى هو الكمال الممكن الوجود، وأما الممتنع فليس من الكمال الاتصاف به؛ ﻷنه في الحقيقة ليس بشيء، ولا يمكن تحققه في الواقع، فعدم وجوده ليس نقصًا، فلا يكون انتفاؤه منافيا للكمال (7)
 
وكذلك يؤمنون بأن كمال أفعال الله متعلق بحكمته البالغة التي لا يعملها إلا هو، فانتفاء بعض الأفعال في وقت من الأوقات، أو في حال من الأحوال، لعدم تعلق الحكمة بها ليس نقصًا، بل هو اكلمال عينه، ﻹمعلوم في العقل أن مجرد فعل من الأفعال لا يكون محققًا للكمال، وإنما لا بد من توافقه مع طبيعة الحال والواقع وانسجامه مع الحكمة (8)، وفي توضيح هذه الحقيقة يقول ابن القيم:

 

"القدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته، وبقصدها بفعله، كان فعله فسادا، كصاحب شهوات الغي والظلم، الذي يفعل ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإن هذا وإن كان له قوة وعزة، لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده
 
وكذلك العلم كماله أن يقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه سيفه غاو، وعلمه عون له على الشر والفساد، هذا إذا كان عالما قادرا مريدا له إرادة من غير حكمة، وإن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولا ممتنع من الحي، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنع، كوجود إرادة بدون شعور.
 
والمقصود أن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما، واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية الكونية، وهو حكيم في كل ما خلقه وأمر به" (9)

 

ومقتضى هذا التقرير أن المؤمن لا ينظر إلى الكمال الإلهي إلا بمنظار التضافر بين صفات الكمال كلها، بخلاف غيره من الناقدين للأديان، فإنهم لم يدركوا هذه الحقيقة، فأخذوا ينظرون إلى الكمال الإلهي بنظرة التفرقة والانفصال بين صفات الكمال، فوقعوا في مشكلات معرفية كبيرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 71/6
  2. المرجع السابق 71/6
  3. انظر: المرجع السابق 77/6
  4. الفوائد
  5. انظر: معالم التنزيل، البغوي (73/3)، وزاد المسير، ابن الجوزي (459/4)، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير (575/2)
  6. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية (84/6)
  7. انظر: المرجع السابق (107/6)
  8. انظر: المرجع السابق (107/1)
  9. طريق الهجرتين (233/1)

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
مراجعة لكتاب التبرج المسيس للوهيبي | مرابط
فكر مناقشات

مراجعة لكتاب التبرج المسيس للوهيبي


مازالت مشكلات الانحلال السلوكي والتدهور الأخلاقي مسيطرة على المشهد في الكثير من مجتمعات المسلمين وخصوصا في مسألة العلاقة بين الجنسين وموضوعات تحرير المرأة واعتدنا أن نسمع تحليلات تقليدية لهذه المشاكل ترجعها إلى عوامل فردية أو ظواهر عشوائية غير موجهة ولا مقصودة ولكن مؤلف كتاب التبرج المسيس قرر أن يتتبع هذه الظواهر ويصل إلى محركاتها الأولى وبالطبع وصل في تحليله إلى خيوط سياسية كأن هذا المشهد الذي نراه جميعا يقع ضمن أهداف سياسية ومخططات دولية ومن هنا نجد أنفسنا أمام سياسات مكافحة الإرهاب المحل

بقلم: إبراهيم السكران
2449
نريد أن نعيد المرأة إلى خدرها | مرابط
اقتباسات وقطوف

نريد أن نعيد المرأة إلى خدرها


نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة واللائي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصون إلى العمل الجدي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون إلى حجابها الذي أمر الله به ورسوله طوعا أو كرها.

بقلم: أحمد شاكر
293
حديث الدولتين | مرابط
تاريخ فكر مقالات

حديث الدولتين


مقال هام لشيخ العربية محمود شاكر أبو فهر يتحدث عن القضية الفلسطينية وحل الدولتين ودور أمريكا وبريطانيا في ترسيخ أقدام اليهود في أرض فلسطين المباركة يكشف لنا الكثير من المؤامرات والأحداث التاريخية لنعرف كيف وصلنا إلى وضعنا الحالي

بقلم: محمود شاكر
2249
السمة المركزية الغائبة | مرابط
تفريغات تعزيز اليقين

السمة المركزية الغائبة


كان الإنسان يفتش دائما ويقرأ ويطالع في سيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم: ما هو المعامل الإيماني ما هو المكون العقدي ما هو الشيء الذي وجد عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم غائب عند أبناء المسلمين بحيث لو استطعنا أن نعزز من هذه القيمة في نفوسنا استطعنا أن نخلق حالة من حالات الحصانة من الذوبان في المعطى الحضاري الغربي كيف يستطيع الإنسان أن يحصن نفسه من ضغط هيمنة النموذج الثقافي الغربي؟

بقلم: عبد الله العجيري
456
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج2 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج2


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
851
حفظ اللسان | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

حفظ اللسان


إن ربنا سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد جاء عنهما الأمر بحفظ اللسان هذا العضو السريع الحركة أسرع الأعضاء حركة وأنشطها لا يكل ولا يمل من كثرة الاستعمال قال الله عز وجل في كتابه العزيز: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد سورة ق 18 فكل ما خرج منه يكتب ويرصد ويحفظ ويجمع لينشر يوم الدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت

بقلم: محمد صالح المنجد
1307