شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج2

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج2 | مرابط

الكاتب: محمد ناصر الدين الألباني

853 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

درء التعارض بين حديث: (إذا أنا مت فحرقوني) وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

في هذا الحديث مثل رائع وعظيم جدًا كتفسير لبعض النصوص من الكتاب والسنة كقوله تعالى:  وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [لأعراف:156] وكقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (سبقت رحمتي غضبي) مثل هذا الإنسان إذا ما سُئل أي عالم في الدنيا -عالم حقيقي- عن إنسان أوصى بمثل هذه الوصية ونفذت فيه، هل يكون مسلمًا أم كافرًا؟ لابد أن يكون الجواب: هو كافر، والحجة واضحة بينة؛ ذلك لأن هذا الإنسان في هذه الوصية يذكرنا بذاك الذي ذكره الله عز وجل في القرآن مشيرًا إليه بقوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ... [يس:78-79] إلى آخر الآيات.

فهذا الإنسان كأنه لا يؤمن، كأنه من هذا الجنس الذي قال:  مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] مع ذلك نجد أن الله عز وجل قد غفر لهذا الإنسان، فإذا سُئل عالم عن مثل هذا الإنسان يوصي بمثل هذه الوصية فلا يسعه إلا أن يحكم عليه بأنه كافر كفرًا يخلد صاحبه في النار لا يخرج منها أبدًا، وإذا الأمر كذلك فكيف يمكن أن نتلقى هذا الحديث بالقبول، وظاهره يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه منصوص هذا المعلوم في القرآن الكريم حين قال رب العالمين: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فهذه الآية صريحة الدلالة، أي: بتعبير علماء الأصول هي قطعية الثبوت قطعية الدلالة، ودلالتها أن الله عز وجل يمكن أن يغفر أي ذنب مهما كان عظيمًا، إلا الشرك بالله تبارك وتعالى فإن الله لا يغفره إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]؟
قد يقول قائل كتوفيق بين هذا النص القرآني القطعي الثبوت والدلالة: التوفيق بينه وبين هذا الحديث من ناحيتين:

 

الناحية الأولى: إن الآية قالت: إن الله لا يغفر الشرك، والكفر غير الشرك.

وبمعنى آخر: إن ما جاء في هذا الحديث ليس فيه شرك، وإنما هو الكفر؛ لأن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل، وإيمانه بالله حمله على هذه الوصية الجائرة؛ لأنه شعر بأنه يستحق هذا العذاب، فخلاصًا من عذاب الله عز وجل له أوصى بها، فهو يخاف الله وليس يؤمن به فقط، بل ويخاف الله، فكان من أثر خوفه من الله أن أوصى بهذه الوصية.

فإذًا: هو مؤمن بالله ولم يشرك مع الله أحدًا، فالتوفيق بين الحديث وبين الآية بأن تبقى الآية على ظاهرها:  إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، أما الكفر الذي ليس شركًا فيمكن أن يقال: إن الله يغفره، والدليل على ذلك هذا الحديث. قد يقول قائل هذا، ويبدو لأول وهلة بأن هذا التوفيق مقبول ومعقول، لكن الأمر ليس كذلك؛ لأن هناك حقيقة شرعية يجب أن نكون على علم بها:

أولًا: لأنه شرع يجب أن يفهم على وجهه وعلى حقيقته.

 

التوفيق بين النصوص

ثانيًا: لأن هذا الفهم يساعدنا على التوفيق بين كثيرٍ من النصوص التي يبدو بينها تعارض وتضارب، ما هي هذه الحقيقة الشرعية؟

هي: أن كل كفر شرك، ومعلوم لدى جميع الناس على الأقل الفقهاء أو طلاب العلم أن كل شرك كفر، لكن العكس ليس معلومًا عندهم، المعلوم عندهم أن كل شرك كفر، لكن أن كل كفر شرك فهذا غير معلوم عند جماهير الناس، مع أن هذا حق مثلما أنكم تنطقون، أي: كل كفر شرك كما أن كل شرك كفر، لا فرق بينهما إطلاقًا.

ومن الأدلة على ذلك: المحاورة التي ذكرها الله عز وجل في سورة الكهف بين المؤمن والمشرك، قال الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ [الكهف:32-34] قال صاحب الجنتين وهو كافر مشرك كما ستسمعون لصاحبه المؤمن: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:34-36] هذا بالتعبير العام أو بالعرف العام أشرك أم كفر؟ هذا كفر؛ لأنه أنكر البعث والنشور:  قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:35-37] صاحبه المؤمن: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38].

ختم موعظته ومحاورته لصحابه بأنه لا يشرك كشركه:  وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38] ففي هذا بيان أن الرجل صاحب الجنتين -أي: البستانين- حينما شك في البعث والنشور أشرك بالله عز وجل، لذلك قال له صاحبه المؤمن: أنت كفرت وأشركت، أما أنا فلا أشرك بربي أحدًا، وتمام القصة -أيضًا- تؤكد هذا؛ لأن في نهاية الآيات: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42] ما الذي أشرك؟ الظاهر أنه أنكر البعث والنشور، فأين الشرك؟ هنا النكتة، الشرك أن كل كافر بأي سبب كان كفره فقد اتخذ إلهه هواه، فمن هنا جاء الشرك بالنسبة لكل نوع كفر به صاحبه، من هنا قلنا: إن هناك حقيقة شرعية وهي: أن كل كفر فهو شرك، وهذا في السياق الذي ذكرناه لكم أكبر دليل على ذلك.

وعلى هذا فلا يصح التوفيق بين الآية السابقة الذكر:  إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] وبين هذا الحديث على الوجه الذي حكيناه آنفًا؛ ذلك لأن معنى الآية بعد هذا الشرح هو: إن الله لا يغفر أن يكفر به، أي: سواء كان الكفر شركًا لغةً أو لم يكن، فالله عز وجل لا يغفر الكفر مطلقًا؛ سواء كان شركًا أو ليس بشرك، وهذا البيان -كما قلت لكم- يفتح لنا حل مشاكل كثيرة، فإذا ما عرفنا أن الشرك في لغة الشرع هو الكفر والكفر هو الشرك؛ فحينئذٍ تعود الآية دلالة صريحة على أن الله عز وجل لا يغفر الشرك بكل أنواعه، اللهم إلا إذا كان شركًا عمليًا وليس شركًا قلبيًا.

الحديث الذي هو كالحديث السابق هو قول المؤلف الحافظ المنذري رحمه الله: وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلًا كان قبلكم رغسه الله مالًا) أي: وهبه الله أعطاه مالًا.. (فقال لبنيه لما حضر: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنني لم أعمل خيرًا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته) رواه البخاري ومسلم أيضًا.

يفسر تلك اللفظة الغريبة فيقول: (رغسه) بفتح الراء والغين المعجمة بعد سين مهملة (رَغَسه) قال أبو عبيدة: معناه: أكثر له منه، أي: من المال وبارك له فيه.

فهذا الحديث كالحديث السابق، وكان من رواية أبي هريرة فيما أذكر، وهذا مما يدل على أن الحديث مع صحة إسناده من طريقه الأولى فهو ليس حديثًا غريبًا فردًا، بل قد اشترك في روايته جماعة من الصحابة، ذكر منهم المؤلف اثنين، الأول: أبو هريرة، والآخر: أبو سعيد هنا.

وكنا تساءلنا: ما الجواب عن هذا الحديث الذي ظاهره أن هذا الموصي بالوصية المذكورة فيه وهي وصية جائرة، ظاهر هذا أن الرجل كفر بالله عز وجل، وشك في قدرة الله تعالى على أن يبعثه وأن يحييه وأن يحاسبه ذلك الحساب الذي يستحقه؟

ولقد أوردنا جوابًا في الدرس الماضي ولا نرتضيه بطبيعة الحال، ووعدنا أن نأتي بالجواب الصحيح المقنع إن شاء الله..

هذا الرجل لما أوصى بهذه الوصية أن يحرق وأن توزع ذرات جسده بعد أن احترقت في البحر وفي الهواء، لاشك أن هذا الفعل يدل على الكفر، فكيف أن الله عز وجل لم يعامله بمقتضى كفره، بل غفر له؟ وقد قلنا في الدرس السابق: إن الكفر لا يغفر، بدليل الآية السابقة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فكيف غفر لهذا؟

قلنا: قد يقول البعض: إن الآية تنفي أن يغفر الله الشرك، فهذا ما أشرك وإنما كفر، فوضحنا لكم بأنه لا فرق شرعًا بين الكفر والشرك، فكل كفر شرك وكل شرك كفر، خلافًا لما يذهب إليه بعض العلماء قديمًا وحديثًا، وعلى هذا فالآية:  إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] أي: أن يكفر به، سواءً كان نوع الشرك من الناحية اللغوية شركًا فعلًا أن يتخذ مع الله شريكًا، أو كان كفرًا بأن يجحد شيئًا مما شرعه الله أو أخبر الله به، ومن لم يرتض ذلك الجواب، فما هو الجواب الصحيح؟

هو ما أجاب به الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهما من الشراح والحفاظ، قالوا: إن هذا الرجل

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات الإلحاد

لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الثاني


يتصور البعض أن وجود الشرور في العالم وانتشار بعض صور الخراب والدمار تعني بصورة ما أنه ليس هناك إلها خالقا مدبرا حكيما لهذا الكون وإلا لما كان يوجد هذا الشر المستطير وعلى النقيض يؤمنون أن وجود الخالق مرهون بانتفاء الشر من العالم وهذه شبهة قديمة يرد عليها الدكتور سامي عامري في هذا المقال ويوضح الخطأ فيها

بقلم: د سامي عامري
2310
اللغة العربية ودعوات العامية | مرابط
لسانيات

اللغة العربية ودعوات العامية


إذن اللغة العربية هي لغة متخطية للحدود التاريخية والجغرافية والقومية بل والحدود الزمكانية إن صح التعبير فهي لغة كلام الله المنزه المنزل من فوق سبع سموات وهي لغة أهل الجنة.. فكيف لا تكون الحرب عليها بهذه الضراوة؟! بكلتا النقطتين يتبين لنا ملمح مهم من ملامح الإعجاز القرآني بخلاف الإعجاز اللغوي والعلمي والتشريعي وما إلى ذلك.. ألا وهو صيانة هذه الأمة والحفاظ على وحدتها ووجودها إلى قيام الساعة..

بقلم: عمرو كامل
535
القدر والأسباب | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

القدر والأسباب


الإيمان بالقدر لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها وبين يديكم مقتطف سريع لابن عثيمين يدور حول هذه المسألة

بقلم: ابن عثيمين
441
تجريم التعظيم | مرابط
مقالات

تجريم التعظيم


الغضب لله أصبح في مجتمعات المسلمين مجرما تجرمه القوانين بل ويجرمه كثير من النخب والرموز الدعوية والهيئات الإسلامية حتى صارت ثقافة تجريم التعظيم شائعة في المسلمين وساعد في نشر هذه الثقافة وجود ممارسات سيئة من بعض الجماعات الإسلامية فكردة فعل عليها هرب الناس من رمضاء الغلو إلى نار التهاون في حق الله وحق رسوله وحق دينه وهذا التهاون لا يقل خطورة أبدا عن خطورة الغلو

بقلم: إياد قنيبي
710
بدايات حركة السفور وتحرير المرأة | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

بدايات حركة السفور وتحرير المرأة


فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرت مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر

بقلم: محمد جلال كشك
680
بناء الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

بناء الإسلام


مقتطف للأستاذ محمود شاكر يعلق فيه سريعا على بناء الإسلام ومهمة المسلمين الأولى ثم يناقش بناء الاجتماع من الناحية الاجتماعية ومن الناحية السياسية ويقف على الشاغل الأول الذي لا يجب أن يفارق رجال الإسلام وهو إنقاذ المجتمعات الإسلامية من أسباب ضعفها

بقلم: محمود شاكر
1854