ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافيه فعل الأسباب، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع وهو حاصل بالقدر؛ لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ذكر له في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم: هل يستمر ويمضي في سيره أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه، ثم استقر رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة، ولما عزم على ذلك جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح وكان عمر رضي الله عنه يجله ويقدره، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف ترجع إلى المدينة، أفرارٌ من قدر الله؟ قال رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وبعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائبًا في حاجةٍ له، فحدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الطاعون: (إذا سمعتم به في أرضٍ فلا تقدموا عليه) ، الحاصل قول عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله، فهذا يدل على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله عز وجل، ونحن نعلم أن الرجل لو قال: أنا سأؤمن بقدر الله، وسيرزقني الله ولدًا بدون زوجة، لو قال هذا لعدّ من المجانين، كما أنه لو قال: أنا أؤمن بقدر الله ولن أسع في طلب الرزق، ولم يتخذ أي سببٍ للرزق لعدّ ذلك من السّفه.
إذًا: الإيمان بالقدر لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها.