حديث الدولتين

حديث الدولتين | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

2136 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

بريطانيا وفلسطين

 

الآن حصحص الحق، ولم تبق في نفس ريبة تحجبها عن رؤية الحقيقة سافرة بينة واضحة تكاد تنطق وتقول هأنذا فاعرفني؛ فهذه بريطانيا أم المكر والدسائس قد دخلت أرض فلسطين العربية ليقول قائد جيشها يومئذ حين وطئت قدماه المدنستان هذه الأرض المطهرة "هذه آخر حرب صليبية" فكان ذلك إعلانا عما اعتمل في نفوس أولئك الغزاة من سخائم الحقد والضغينة والعصبية الجاهلية الموروثة، ثم لم تلبث هذه الدولة أن نكثت عهودها للعرب، وكانت قد قطعت هذه العهود على نفسها لتستجر معونة العرب لها في الحرب العالمية الأولى.
 
ولم يكن ذلك فحسب، بل إنها كانت تكيد للعرب من وراء حجاب، فقطعت عهدا آخر يناقض عهودها للعرب، وكان هذا العهد لرجل غير مسؤول من الأفاقين الصهيونيين المتعصبين، فلما دخلت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى أظهرت أنها دولة لا تستطيع أن تنقض عهدها فإن العهد هو شرفها الشامخ الباذخ النقي الطاهر، فمن أجل ذلك أصرت على أن تحمي اليهود الذين جاءوا من أرجاء بلاد الله ليحتلوا أرض فلسطين.
 
وظلت وكالات الأنباء تطمس حق العرب فيما تنشره الصحافة، وتجلو باطل اليهود جلاء منيرًا، حتى انخدعت الدنيا كلها بالترهات التي تحوكها هذه الشركات الصهيونية.. وثار العرب يطلبون حقهم ويريدون طرد هؤلاء الدخلاء من أرض الآباء والأجداد، فوقفت بريطانيا تذود عن باطل اليهود فتفتك بالعرب فتكًا وحشيًا؛ تعذب طلاب الحق وتهينهم وتشردهم لا ترعى حرمة لطفل ولا شيخ ولا امرأة، وضربت الغرامة على القرى والدساكر والبلاد لأهون سبب، وهي في أثناء ذلك ترخى للأفاقين من اليهود وتغريهم بالعرب وتمهد لهم في الحكومة حتى يستولوا على السلطان وتحميهم من شر العرب وبأسهم، وتسلطهم على رقاب المسلمين والنصارى أهل فلسطين.
 
وجعلت صحفها وشركات أنبائها تذيع على العالم الأكاذيب، وتصور العرب في صورة المعتدين الباغين، وتسمى الأحرار من أبناء إبراهيم وإسماعيل عصابات ولصوصًا وفتاكا، وترميهم بالبهتان والكذب، وتستر عن العالم كله فظائع ما ترتكبه في حق الأحرار المجاهدين.
 
وظلت بريطانيا على ذلك الطغيان الفاجر تعمل بالدسيسة والوقيعة والكذب والتغرير، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فقام الأبالسة من رجال السياسة البريطانية يفتلون في الذروة والغرب من هذه العرب حتى لانوا وانخدعوا بأن بريطانيا سوف تنصفهم وتعطيهم حقهم يوم تضع الحرب أوزارها، وهي في خلال ذلك تجند اليهود في جيوشها وتزودهم بالسلام وتدخلهم فلسطين ونظهر الكراهة لما تفعل، وتبطل الغدر فيما تريد.
 
فاحتشدت من اليهود جيوش جرارة في فلسطين باسم الديمقراطية والدفاع عنها، وباسم الاضطهاد الذي أنزله النازيون بهم في أوربة، وبغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي تعلق بها السياسة البريطانية.
 

أمريكا وفلسطين

 

ووضعت الحرب أوزارها، واشتد ساعد اليهود، وهم أهل المال وحُرّاسه، فأعانوا بريطانيا، ثم لم يلبثوا أن كشفوا القناع في أمريكا وهم فيها القوة الظاهرة في انتخاب رئاسة الجمهورية وأصحاب الشركات والأموال في نواحي الاقتصاد الأمريكي، وهم شياطين الصحافة والمتسولون على إعلاناتها وشركات أنبائها ورجال تحريرها، فإذا أمريكا تندفع في طريق الصهيونية غير عابئة بالحق الظاهر، ولا بمصالحها في بلاد العرب، ولا بكرامتها بين الأمم ولا بسمعتها في دواوين التاريخ.

وإذا هي أشد بغيا على العرب من بريطانيا، وإذا صحافتها أشد جلافة من الهمجي الذي لم يهذبه تأديب ولا تثقيف، هكذا كان أمر بريطانيا وأمر أمريكا، وإذا هيئة الأمم المتحدة ترسل لجنة إلى فلسطين لتضع تقريرًا، وإذا هذا التقرير فجور ليس بعده فجور، ولا عجب فإنها لجنة كانت أول أمرها ضالعة مع اليهود، فقسمت أو أشارت بأن تقسم فلسطين قيمة جائرة بين العرب واليهود.
 
أما العجب العجاب فهو أن نرى بريطانيا العظمى ذات السلطان والبأس والبطش، تذل لعدوان اليهود على جنودها وعلى جلد ضباطها وشنقهم واختطافهم وتعذيبهم، ثم يأتي قرار التقسيم الذي اقترحته اللجنة، فإذا بريطانيا تزعم أنها سوف تجلو عن فلسطين وتدع العرب واليهودي لكي يحلوا هذه المشكلة المستعصية على ساسة بريطانيا العظمى أيضًا!!
 
فماذا تريد بريطانيا بهذا الانسحاب المفاجئ بعد أن كانت هي سر النكبة التي نزلت بساحة العرب مسلمهم ونصرانيهم في فلسطين وفي سائر البلاد العربية؟ لا جرم أنها تريد أن يقع القتال بين العرب واليهود، وتخرج هي سالمة من هذا الصراع، وهي في خلال ذلك سوف تعطي اليهود من المعونة والسلاح، ويجهد أسطولها خفية في تهريب الأفاقين إلى فلسطين.
 
أما أمريكا فهي تضحك الثكالى بسياستها في هذه المشكلة، فهي تلجأ إلى هيئة الأمم المتحدة ويقوم مندوبها في اجتماع اللجنة الخاصة ببحث مشكلة فلسطين، ويكشف القناع عن سياسة هذه الدولة المحدثة في السياسة ويقول إن حكومته تؤيد مشروع تقسيم فلسطين، وتؤيد سياسة الهجرة التي اقترحتها لجنة التحقيق في تقريرها، وليس هذا فحسب، بل تتبرع هذه السياسة الأمريكية فتقترح تجنيد قوة دولية من المتطوعين بواسطة هيئة الأمم المتحدة، لكي تتولى الإشراف على تنفيذ قرارات الجمعية العمومية
 
فماذا تريد أمريكا بهذا التدخل المفاجئ، بعد أن كانت بمعزل عن الغلو في في السياسة الاستعمارية، ولها مصالح كثيرة في بلاد العرب تعمل جاهدة على تثبيتها وتوطيدها، لا ريب في أنها تريد أن تحل محل بريطانيا في حمل خبائث الاستعمار بعد أن شاخت أم الخبائث، ولا ريب في أن نفسها تسول لها أن اليهود أهل جد وعمل وإتقان، وأصحاب مال وافر وأنهم إذا تم لهم إقامة دولة يهودية في قلب البلاد العربية، فذلك إيذان باستيلائهم على الميادين الاقتصادية كلها.
 
وأن يهود إذا فعلت ذلك ضمنت لأمريكا الحق الأول في السياسة الاقتصادية في الشرق الأوسط كله. وإذن أمريكا تريد أن تلتمس أسبابا للتدخل في مسألة فلسطين، فهي تؤيد اليهود مستهينة بمصالحها في بلاد العرب، لكي يقع القتال بين العرب واليهود، وتنتهز هي الفرصة فتعين اليهود بالمال والسلاح والرجال، ثم تلعب هي وبريطانيا لعبا خبيثًا في هيئة الأمم المتحدة لكي يجندوا جيشًا دوليا لتنفيذ مشروع التقسيم بالقوة.
 
ويكون قوام هذا الجيش من أهل العصبية الصهيونية الذين استشرى أمرهم في بلاد أمريكا ويومئذ تدخل أمريكا الشرق الأوسط كله بصك توقعه لها هيئة الأمم المتحدة - أي سوق الرقيق ادلولية. وإذن فالأمر كما ترى بيّن كإسفار الصباح، وهو أن هاتين الدولتين الاستعماريتين تتخذان أسلوبين مختلفين في الظاهر متفقين في الباطن، يفضي إلى حمل العرب على قتال يهود، ونعم ما أرادوا.
 

المعركة بين العرب واليهود

ونحن العرب نقبل منهما هذا التحريض الخبيث، لأننا نريد أن نقاتل اليهود قتالا لا هوادة فيه، فإن دماءنا ليست أغلى من حريتنا وشرفنا وديننا، ولعل أمريكا قد سمعت لأولئك الأفاقين اليهود الذين يزعمون لها أننا نهدد على غير طائل وإنما هي جعجعة ولا طحن لها، فآثرت أن تكشف سوءتها وقبيح نيتها للعرب وتصالح اليهود وتتملقهم وتحطب في حبالهم.
 
فلتعلم أمريكا ولتعلم بريطانيا أنا لسنا كاليهود ولسنا كسواهم من الذين يجرؤون لأنهم يحملون أسباب الغدر والخيانة والإبادة، فلو لقوا أعداءهم وجها لوجه لفروا واندحروا صاغرين. إن العرب ليريقون دماءهم في سبيل الحرية والشرف والنبل وإن كانت كثرة السلاح مما يعوزهم، وفرق بين النذل الجبان والشريف الشجاع، فهذا يكون أقل السلاح حصنا له وحافزًا ومحرضًا، وذلك إذا رأى حملة صدق انتثرت نفسه وطار قلبه وألقى عدته وسلاحه وأغمض في الأرض هاربا.. فهذه يهود وهذا نحن أيها المخدوعون.
 
إن بريطانيا وأمريكا وصحافتها قد استعلنت لنا بأحقادها فلنعلن نحن أحقادنا، وإن يهود قد استغرت بقوتها وبمعونة بريطانيا وأمريكا ومظاهرتها لعدوانها علينا، فلا تأخذنا بعد اليوم رحمة بيهود، فقد رحمناهم يوم اضطهدوا وآويناهم أيام شردوا، وأفسحنا لهم بلادنا وقد طردتهم الأمم المسيحية القديمة طرد الكلاب الجربى، ولكنهم أنكروا ذلك ونسوه، وعضوا اليد التي مسحت آلامهم وجروحهم على مر العصور.
 
ونعم ما فعلت يهود، فإنها قد أيقظتنا من غفلتنا، ويسرت لنا أن ننقذ العالم عاجلا وآجلا من عربدة هذا الجيل الذي طهر الله أسلافه، وصب لعنته على الأخلاف لعنة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

 


 

المصدر:

  1. محمود شاكر، جمهرة المقالات، ص459
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محمود-شاكر #حل-الدولتين
اقرأ أيضا
مخالفة المرجئة لأهل السنة والجماعة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر تفريغات

مخالفة المرجئة لأهل السنة والجماعة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص


أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان درجات وشعب يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن المؤمنين يتفاوتون بحسب علمهم وعملهم وان بعضهم أكمل إيمانا من بعض وليس إيمان جبريل وأبي بكر وعمر كإيمان آحاد الناس وهذا خلاف عقيدة المرجئة وهو ما يوضحه الكاتب في المقال

بقلم: محمد صالح المنجد
1080
شبهات حول الإجماع | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

شبهات حول الإجماع


وصل الحال عند بعض من ينكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنا على الخطأ وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به

بقلم: أحمد يوسف السيد
2970
من جماليات الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

من جماليات الإسلام


من جماليات الإسلام إنه لا يكبت طاقة عندك أبدا كلما كبت شهوة أو منع محرم جعل تصريفها في مستحب تؤجر عليه! تأمل مثلا حين كبت شهوة اللسان وأمرك بحفظه كيف أتاح لك صرف الرغبة المحمومة في إطلاق لسانك باستحضار معية الله؟!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
312
انشراح الصدر وأسبابه | مرابط
تعزيز اليقين

انشراح الصدر وأسبابه


وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر وطيب النفس ونعيم القلب لا يعرفه إلا من له حس به وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن فرؤيتهم قذى عينه ومخالطتهم حمى روحه

بقلم: ابن القيم
314
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج4 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج4


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
905
معالم في طريق تمكين الأسرة | مرابط
فكر المرأة

معالم في طريق تمكين الأسرة


هناك حملة عالمية لتمكين المرأة تحركها جهات معلومة وأدواتها لم تعد خافية على أحد لا يريدون خيرا بالمرأة ولا يسعون لتحريرها بل لتحرير الوصول إليها. ولقد بات معروفا حتى لدى بسطاء الناس أن هدف هذه الجهات ليس الرقي بالمرأة ولا رعاية مصالحها بل تحطيم الأسرة التي هي نواة المجتمع والتي تمثل المرأة فيها محورها وقطب رحاها.

بقلم: د. جمال الباشا
307