حدود الواقع وتجاوزها

حدود الواقع وتجاوزها | مرابط

الكاتب: عمرو عبد العزيز

2093 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

القدرة على رسم حدود الواقع: هي القدرة على السيطرة!

 

هذه الجملة العميقة الذكية، والتي قالها جيري روبين (الناشط الثوري الأمريكي) منذ زمن؛ لو تم استيعابها جيدًا لتيسر فهم السياسة العالمية في مسألة الديمقراطية المُقدمة لدول العالم الثالث، بشكل عام، وعالم ما بعد الثورة العربية المسلم بشكل خاص..

 

وليس في الأمر نظرية مؤامرة ضد المسلمين بشكل خاص، فالأمريكان -مثلا- يستخدمون هذا المبدأ في تضليل شعبهم نفسه، فضلًا عن الشعوب الأخرى!

(لا أمر شخصي في الموضوع؛ إنما هو عمل يا صديق) كما يقول المثل الأمريكي النفعي!

 

حدود الواقع في الديمقراطية

 

إن حدود واقعك في الديمقراطية ستكون محصورة في الدائرة الآتية: تشكيل أحزاب، ولوج العملية السياسية والغوص فيها، تقديم تنازلات وعقد تحالفات تعزز فرصتك كمرشح يرضى عنه مجلس شورى الحكم العالمي، الوصول لهيئة مجلس الشورى فالبقاء لسنوات أربع، لا بد أن تُبدي فيهم الأدب والطاعة كي يتم التجديد لك! ثم تخرج لتُفسح المجال لغيرك بعد انتهاء مدتك.

 

يؤمن البعض أنه لن يتنازل أبدًا؛ لكن الحقيقة أن الدخول إلى لعبة أطرافها معروفين جيدًا كهذه هو تنازل كبير في حد ذاته! فبينما قد يُعذر حزب آخر مُغفل؛ لعدم درايته بأطراف اللعبة وحقيقة مجلس الشورى الحاكم.. فإن هذا الاعتذار يبدو واهيا بالنسبة لمن يعرف كافة الأطراف ثم يُصر، برغم ذلك، على الاشتراك في اللعبة.

 

وهم الحتمية

 

طبعا؛ لا يوجد شيء اسمه الحتمية في تلك المسائل.. الله وحده علام الغيوب، وقد ينصر أناسا تُظهر يقينك في فشلهم: وتاريخ المسلمين مزدحم بعشرات الأمثلة لأفراد وجيوش لم تكن على الإطلاق بنفس النقاء العقدي لأفراد وجيوش أخرى؛ ومع ذلك جعل الله النصر على أيديهم: وقد فشل صحابة ومجاهدون أتقياء في فتح القسطنطينية، بينما نجح في فتحها رجل آخر جيشه كان فيه التباس ببدع وأوهام.. هكذا لا توجد حتمية تاريخية جقيقية تسمح باليقين في فشل أو نجاح أي مسار على المستوى الدنيوي.

 

كسر حدود الواقع المرسوم

 

لكن هل يعني ذلك أن تسمح لنفسك بأن يتلاعب بك الآخر؟
أن تسمح لنفسك بعدم كسر حدود الواقع المرسوم، وبالتالي عدم الخروج من سيطرته؟!

 

لن يُمحى من التاريخ قيام الثورة الإيرانية الناجحة بمغامرة جنونية، بينما البلد لازالت هشة واهنة تلو سقوط الشاه عندما نفذت اقتحاما شجاعا للسفارة الأمريكية؛ فشغلت به الأمريكيين بأنفسهم وبمعتقليهم، عن تدبير المؤامرات الكبرى المحطمة للدولة، في هذه المرحلة السائلة والخطيرة من عمر ثورتها، بالتالي قطعت يد القوى العالمية المتلاعبة أو على الأقل أصابتها بعجز مؤقت.

 

فقد رفض الإيرانيون مبكرًا، بقيادة عبقرية الخوميني السياسية، أن يكون حاكمهم المختار مجرد عضو ذليل في مجلس الشورى العالمي، خاصة بعد أن كانوا قد قتلوا قادة الجيش وأذابوه؛ فلم يعد لديهم سوى هيئة حكم واحدة منهم. وصحيح أن أمريكا عاقبتهم فيما بعد بتحفيز صدام على الهجوم عليهم لكن إيران صمدت وخرجت في النهاية أقوى وأكثر استقلالا في قراراتها.. لقد تعلم الإيرانيون من درس مصدق والشاه القديم، وغباء التعامل مع الأمريكيين أو القوى العالمية المهيمنة على بلادهم بلين..

 

أما صمود البلاشفة السوفييت العجيب في وجه جيوش الأرض وأعدائهم الداخليين، راضين بالتضحية بأنفسهم وبملايين الروس من أجل نموذج اعتقدوه هو اليوتوبيا الأرضية التي تحكم فيها البروليتاريا الفقيرة - فهو مما يثير التعجب!

 

لماذا صمد السوفييت الفقراء الضعفاء من أجل تحقيق حلمهم المادي الفاسد أمام حرب أهلية وغزو من بريطانيا وأمريكا وألمانيا واليابان وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا وصربيا واليونان وإيطاليا والصين، بينما نخاف نحن المسلمون من حرب مع دولة ضعيفة هشة مثل إسرائيل؟ هل تهددنا بالإبادة النووية؟

هل يخاف المسلمون حقًا الموت في سبيل الله؟ كيف يخاف المسلمون الموت النووي بينما لم يخشه الفيتناميون في صراعهم مع الأمريكان؟

كيف يخاف المسلمون السحق والجوع، وقد صمد من لا يؤمن بإله، مثل البلاشفة الحمر، في وجه كل العالم بصمود وتمن للموت بلا خوف ولا وجل؟

كيف استطاع هتلر إقناع شعبه بأن لا سبيل للرضوخ أكثر من هذا لإذلال أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى،  وأن الموت الكريم في سبيل الاستقلال أفضل من العيش الذليل تحت جناح التبعية المهينة؟

كيف استطاع هؤلاء الصمود هكذا مهما كانت التضحيات الشعبية؛ بينما المسلمون والمطالبون بالشريعة من أهل الساسة يخافون اللعب (خارج حدود الواقع المرسوم) كيلا يصيبهم ويصيب شعوبهم الأذى؟

 

الدخول في اللعبة السياسية

 

أما إن كان سعيك الحثيث للدخول في الديمقراطية نابعا من رغبة في التحرك داخل إطار المنظومة العالمية التي تسيطر عليها القوى الكبرى: فما هو أكبر آمالك من تبنيك لها وتحركك بداخل هذه المنظومة؟ أن تصبح إمبراطورًا على عدة بلاد؟

 

هذا حدث يوما -صدق أو لا تصدق- وكان هناك حاكم له إمبراطورية ممتدة عبر قارتين؛ هو السلطان سعيد البوسعيد، سلطان عمان وزنجبار.. هذا الرجل قام ببناء إمبراطورية إفريقية-آسيوية تمتد من ممباسة التنزانية حتى مشارف الهند.. لكنه ارتضاها أن تكون تحت الرعاية البريطانية، أقوى أمم الأرض وقتها، ومشتبكة بالتفاهمات الإمبريالية العالمية.

 

فماذا كان المصير؟ لقد كان من ساعدوه في البناء هم أول من هدم صرحه الضخم! البريطانيون الأصدقاء الأوفياء تآمروا على ورثته فقسموا إمبراطوريته ثم قاموا بغزوها لاحقًا..

 

وهم الحكمة

 

كان سعيد البوسعيد موصوفًا بالحكمة الدائمة بسبب "تلاعبه" بالبريطانيين لمصلحة شعبه الآنيّة، تماما كما وُصف السادات بالحكمة لمصلحة شعبه الآنيّة في عقد معاهدة كامب ديفيد للسلام.. لكن هذين الحكيمين اللذين ظنا أنهما تلاعبا بالقوى العظمى لمصلحة الشعوب تسببا في مهلكة لشعبيهما لاحقا بتلك المعاهدات الحكيمة؛ مهلكة زنجبار ومهلكة التطبيع!

 

إن اللعب بقواعد القوى الكبرى ليس من الحكمة، والظن بأنه من الممكن خداع هذا النظام بالانضواء تحت لوائه هو سذاجة منقطعة النظير؛ قبل أن تكون خيانة لله وللأمة. هذا نظام قسم ظهر ألمانيا واليابان قبلا فكيف تظن نفسك مخادعه؟ كيف تظنه بهذه السذاجة؟

 

غيّر قواعد اللعبة

 

لا بد للشباب المسلم أن يفهم أولا زيف الأنظمة الديمقراطية في الأمة الغربية عامة؛ وفي الأمة الإسلامية خاصة.. أن يتعرف جيدًا على حدود الواقع المرسوم، محاولا الخروج من نطاقه بطرح حلول أخرى تهدم التبعية وتهدم الزيف.. أن يأخذ بالحكمة القائلة "عندما تخسر باستمرار عليك أن تغير قواعد اللعبة"

 

نعم، هذه مهمة المفكرين.. عليهم السعي في تغيير قواعد اللعبة كلها أساسا.. وفوق كل ذلك أن يظهروا مهارة في صنع نموذج مع الحرص على ألا يستسلموا، فالنظام الديمقراطي يعتمد على التنويم الشعبي والإيحاء القوي والتضليل المستمر، وقد أثبت الواقع أنه أصعب في الهدم من النظام القمعي الديكتاتروي الصريح.. على أن يحرص المفكر على ألا ينتابه الكبر؛ فيهاجم بضراوة لا تسامحية الإسلامي الآخر الغارق في محاولة كسر الواقع الجبري بفلسفات أخرى.. فلا أحد يعلم يقينا هوية المنهج الذي سينجح في النهاية، مادام الانحراف محدودًا.

 

لكن الأكيد أن المتنازل عن دينه لن ينقل المسلمين إلى المرحلة الأخيرة من الحديث النبوي الشهير، لن ينقلنا إلى ما بعد الملك الجبري الديمقراطية.. لن يهدم أوثان حاضره الكابرى.. إذ كيف يهدي أهل عبادة الأوثان من يعترف بها كواقع؟

 

قدرة الحاكم على خرق أي نظام مثالي

 

إن الديمقراطية وغيرها سواء لنا كمسلمين، مادام الحاكم فاسدًا مبتعدًا عن الوحي والشريعة، فكل نظام للحكم مهما كان يبدو مثاليا لا بد من أن ينجح شر الحاكم وزبانيته في الالتفاف عليه..

فلو كان الشعب هو من سيختار حكامه سعى الشر في التلاعب بعقول الأغلبية وزين لهم الباطل ممثلا في الإيمان بحتمية استمرار الحاكم الطاغية

وإن كانت نخبة بيدها الشورى تلاعب الشر بهذه النخبة ليتخلص من معانديها، ثم يفرض الترغيب والترهيب على الباقي ليسبّح كل منهم بحمد حاكمه.. وفي كليهما يستخدم الفرعون سحرته لسحر أعين الناس، ولتعزيز شرعيته برسم حدود للواقع وحدود للتغيير تنتهي عند مقعد عرشه.

 


 

المصدر:

  1. وطن الراشدين، عمرو عبد العزيز، مقال حدود الواقع وتجاوزها
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عمرو-عبد-العزيز #وطن-الراشدين
اقرأ أيضا
لماذا نحج | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

لماذا نحج


الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم ومن ثم فهو تجديد للحياة وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبرورا والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر وتوطدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقما قياسيا لا نظير له في التاريخ

بقلم: محب الدين الخطيب
1084
الحياة الأدبية والأمة الإسلامية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحياة الأدبية والأمة الإسلامية


لا تستطيع أمة أن تعيش بغير تاريخها والذي يريد أن ينشئ في هذا الزمن أمة أخرى عن طريق التوهم فهو مخطئ وهذا ضرب من العبث الأمم بلسانها فقط الأمم بحركتها الأدبية واللغوية فقط أما الأشياء الأخرى من الصناعة وكذا وكذا والآراء الاجتماعية فهذه زائلة ومتحولة ويمكن أن تتحول في أي وقت لكن إذا تحول التاريخ فلا يمكن أن يبقى إنسان على صورة صحيحة في هذه الحياة.

بقلم: محمود شاكر
292
الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال


والكيان الصهيوني غرس غرسا في فلسطين ليلعب دورا قتاليا ضد المنطقة العربية وعلى مستوى من المستويات يمكن القول إن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى نقل الفائض البشرى اليهودي من أوروبا إلى فلسطين وتحويله إلى مادة قتالية تخدم المصالح الغربية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
544
بما فضل الله | مرابط
مقالات المرأة

بما فضل الله


فمهما حاولت المرأة التخلص من العاطفة في حكمها على الأمور لن تستطيع لأنه مركوزة في فطرتها وتكوينها.. فنقص العاطفة عند الرجال كنقص العقل عند النساء تفضيل أودعه الله في الخلق لحكمة يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
259
من أشراط الساعة: تمني الموت | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أشراط الساعة: تمني الموت


ومن أشراط الساعة: تمني الرجل الموت وجواز ذلك لشدة ما ينزل في الأفراد من فتنة أو ضراء وقد جاء في الصحيح من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيتمنى أن يكون مكانه وفي هذا إشارة إلى أن تمني الموت في بعض الأحيان جائز عند استحكام الشر واستغلاقه وعند شدة الفتن والتباس الأمر يعني: أن يدعو الإنسان أن يقبضه الله غير مفتون وأن يكون مكان صاحب القبر

بقلم: عبد العزيز الطريفي
623
كن طبيبا لنفسك | مرابط
اقتباسات وقطوف

كن طبيبا لنفسك


اعلموا أنه من لم يحسن أن يكون طبيبا لنفسه لم يصلح أن يكون طبيبا لنفس غيره ومن لم يحسن أن يؤدب نفسه لم يحسن أن يؤدب نفس غيره. واعلموا أن من لم يعرف ما لله عزوجل عليه في نفسه مما أمر به ونهاه عنه ولم يأخذ نفسه بعلم ذلك كيف يصلح أن يؤدب زوجته وولده وقد أخذ الله عزوجل عليه تعليمهم ما جهلوه؟! وما أسوأ حال من توانى عن تأديب نفسه ورياضتها بالعلم وما أحسن حال من عني بتأديب نفسه وعلم ما أمره الله عزوجل به وما نهاه عنه وصبر على مخالفة نفسه واستعان بالله العلي العظيم.

بقلم: الآجري
184