لماذا نحج

لماذا نحج | مرابط

الكاتب: محب الدين الخطيب

1083 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم، ومن ثم فهو تجديد للحياة، وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبرورًا، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
 
لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر، وتوطَّدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله، إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان، والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام، حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقمًا قياسيًّا لا نظير له في التاريخ.
 

حِكَم العبادات

ولكن بقي أمر آخر يجب أن يعرفه المسلمون جميعًا، ويجب أن يؤمن به الحجاج منه ويعملوا به، وهو أن العبادات كما أن لها أركانًا ومناسك لا تتمُّ إلا بأدائها، فإن لها كذلك حكمة عالية ومقاصد سامية، هي روحها وهي سببها الأول، وهي الغاية القصوى منها.

 

الصلاة

فالصلاة وصفها الله عز وجل في سورة العنكبوت بأنها {تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. وأن تكبير الله في إحرامها، وفي أركانها يُصغِّر أمر الدنيا كلها في نفس المصلي، حتى يرى أنها لا تساوي بخزائنها وكنوزها ارتكاب جريمة تتغير بها هذه الصفة الإلهية للصلاة، فالمصلي الذي يعلم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يستحي من الله، وهو يعلن عن عظمته بجملة: الله أكبر، أن يكون هو الذي ينقض صفة صلاته بما يستبيحه من بعض مخازي الفحشاء والمنكر، وأكثرها شيوعًا الكذب والغش والغيبة والنميمة.
 
بل يستحي من ربه، وهو بين يديه يخاطبه، طالبًا منه أن يهديه الصراط المستقيم، ثم لا يكاد ينفتل من صلاته حتى يخرج بشيء من أقواله أو أفعاله عن الصراط المستقيم!
والحج هذه الشعيرة من شعائر الإسلام يقبل المسلمون على إقامتها والمسارعة إليها بشغف ونشاط وارتياح، ويدَّخرون لنفقاتها كرائم أموالهم، والحلال الطيب من نقودهم، فلماذا نقصِّر في إرشادهم إلى الحكمة الإلهية في الحج والمقاصد الإسلامية منه؟

 

الحكمة من الحج

لماذا لا نقول لهم إذا بلغوا أعلام الحرم وحدوده، وخلعوا عنهم المخيط من ملابس الحضارة، ليلتفوا بمئزر الفطرة من لباس الإحرام: إننا نخلع مع ثياب الحضارة ما أغرانا به الشيطان من آثامها وزلاتها، إننا اليوم أمام فرصة أنعم الله بها علينا لنتوب إليه توبة نصوحًا من كل ما اقترفنا قبل اليوم من إثم، وعلينا الآن أن نبرأ إليه من زلات الماضي، ونتطهر من أوضاره؛ لندخل في حياة جديدة، نعاهد الله على أن تكون حياة نظيفة، يرضاها لنا ويثيبنا عليها بسعادة الدنيا والآخرة؟

لماذا لا نقول لهم: إننا إذا هتفنا نناجي الله بكلمة (لبيك) لا معنى لذلك إلا أننا نعقد عقدًا بيننا وبين الله على الاستجابة لكل ما هدانا إليه من مبادئ الإسلام العالية وهداياته السامية، واجتناب كل ما يدنِّس حجنا، ويسخط ربنا ما دمنا أحياء، إلى أن نلقاه مع أوليائه وصفوه عباده الصالحين؟
 
لماذا لا نقول لهم: إننا بتوجيه كلمة (لبيك) لله وحده عز وجل نعترف لربنا ولأنفسنا بأننا لا نطلب الخير والنفع إلا منه، ولا نشرك به أحدًا غيره من نبي أو ملك أو ولي، فضلًا عن غيرهم، وأن كل ما سوى الله مخلوق له وكل مخلوقاته -على مراتبهم- محتاجون إليه، ملتمسون رحمته، ولا يكون منهم شيء إلا بإذنه؟
 
إن مشركي الجاهلية كانوا في حجهم يلبون كما نلبيه نحن في الإسلام، غير أنهم كانوا يستثنون فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. فجاء الإسلام ليبطل هذه المثنوية وليوجه قلوب الناس إلى الله وحده.
 
لماذا لا نقول لهم إذا جاءوا لرمي الجمرات في منى: إن هذه حرب يعلنها الإسلام على الشيطان وحزبه وتسويلاته، وإننا كلما خطر ببالنا بعد اليوم خاطر نعلم أنه يسخط الله يجب علينا أن نعلم أن هذا الخاطر من تسويل الشيطان، وأنه عدو لنا، وأننا آذناه بالحرب ونحن نرمي هذه الجمرات في الحج، ومن تمام الحج بعد الحج، وما دام الحاج على قيد الحياة، مواصلة مخالفة الشيطان، واعتباره العدوَّ الذي لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن وساوسه وينقاد لتسويلاته.
 
أهم شي في العبادات - ومنها أدعية الحج – أن نعقل معاني ألفاظها ، ومن تعلَّم أن هذه المعاني تنعقد بها العهود بين المخلوق والخالق، وأن المخلوق ينبغي له عقد العزيمة على توخِّي ما يدعو الله به، وإلا فإنه لا يكون جادًّا بدعائه، ولا يكون دعاؤه مستجابًا، ولو أن كلَّ مسلم إذا قال لربه في صلاته : {اهدنا الصراط المستقيم}. تصور معاني هذه الكلمات، وتأمل في مدلولاتها، وعقد عزمه على توخي الصراط المستقيم في تصرفاته الشخصية، وفي معاملاته مع الناس، لكان المسلمون بهذه الكلمة وحدها أمة صدق واستقامة وخير، وكان ذلك منهم أبرع إعلان عن الإسلام في أمم الأرض، وأنه النظام الذي تبحث عنه الإنسانية ولا تزال تائهة عنه.
أيها الواعظون في الحج، أوصلوا هذا الخير إلى نفوس إخوانكم الحجاج وقلوبهم، علِّموه لهم كما تعلمونهم مناسكهم.
 
وإذا أفلح الحجاج - عامًا فعامًا – في الانخلاع من الماضي، والتطهر من أوضاره، ونَوَوْا صادقين أن يجدِّدوا عهدهم مع الله، وعلى تجديد حياتهم بما يرضيه، فإنهم سيعودون إن شاء الله إلى أوطانهم حاملين معهم نصيبًا مباركًا من رسالة الإسلام، كما بعث الله بها حامل أكمل رسالاته ، وأرجو أن نعمل بذلك من عامنا هذا؛ ليعود إلينا النور والهدى من بلاد النور والهدى، والله ولي العاملين.

 


 

المصدر:

مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (3/44)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحج
اقرأ أيضا
وأنذرهم يوم الحسرة | مرابط
فكر

وأنذرهم يوم الحسرة


وكم من صاحب جاه وسلطان يهاب الناس سطوته ود لو كان عبدا وضيعا مغمورا بين الناس لما يرى من مثالب تكبره واستعلائه على الخلق ويرى الحساب العسير للكبراء كل على قدر مكانته ومسؤوليته!! ولن يسلم من نوع حسرة أحد حتى المحسن يود لو أنه استفرغ وسعه وزاد في إحسانه ولسان حاله يا ليتني قدمت لحياتي!!

بقلم: د. جمال الباشا
349
تعظيم الأمر والنهي | مرابط
تعزيز اليقين فكر اقتباسات وقطوف

تعظيم الأمر والنهي


ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم ولهذا طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا ولكن قولوا: بم أمر ربنا

بقلم: ابن القيم
1191
محاكم التفتيش | مرابط
تاريخ فكر

محاكم التفتيش


محاكم التفتيش من أبشع الأحداث التي حفظها لنا التاريخ والتي تكشف لنا كم الحقد والضغينة التي يحملها الصليبيون في دواخلهم للمسلمين فقد وصلت الأخبار بطرق التعذيب البشعة والتي لا يتصورها عقل ولا يرقى إليها خيال أما عن الأدوات التي كانوا يستخدمونها فحدث ولا حرج كانوا ينتقون أكثر الطرق إيلاما قبل الموت وفي المقال خلاصات حول هذا الحدث التاريخي المشهور

بقلم: راغب السرجاني
3569
لماذا نصوم الجزء الأول | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الأول


الصيام من أركان الإسلام عبادة لا يفوتها أي مسلم العالم منهم والعامي ولكن كثيرا من المسلمين لا يعرفون لماذا نصوم وما هي حكمة الصيام وكيف نؤدي هذه العبادة على وجهها الصحيح وبين يديكم تفريغ لمحاضرة هامة لأبي بكر الجزائري يجيب فيها عن هذا السؤال: لماذا يصوم المسلمون

بقلم: أبو بكر الجزائري
784
كيف نتعامل مع الإنترنت ومشكلة التشتت والتركيز | مرابط
ثقافة

كيف نتعامل مع الإنترنت ومشكلة التشتت والتركيز


نحن أقررنا بأن الإنترنت لمعظمنا لا يمكن الاستغناء عنه وبالتالي الفكرة التي سنقدمها ستكون أن نقلل من الضرر بقدر الإمكان وذلك باستخدام خمس نصائح: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى تخلص من فوبيا فوات الأشياء اتبع نظام جلسات العمل لا تضح بنصيبك من العزلة كن واعيا بحجم المشكلة

بقلم: علي محمد علي
439
شبهات حول القرآن الكريم | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

شبهات حول القرآن الكريم


يناقش هذا المقال بعض الشبهات والأباطيل المثارة حول القرآن الكريم ومن أبرزها: ادعاء وجود أخطاء لغوية في نص القرآن الكريم وادعاء وجود أخطاء علمية أو آيات مخالفة لأمور علمية ثابتة والأخير هو ادعاء وقوع التناقض في نص القرآن والكاتب أحمد يوسف السيد يرد على هذه الشبهات الثلاث بالدليل الدامغ

بقلم: أحمد يوسف السيد
2331