واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: حياؤه من الله تعالى، والثاني: حياؤه من الناس، والثالث: حياؤه من نفسه.
فأما حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره، وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استحيوا من الله عز وجل حق الحياء، فقيل: يا رسول الله فكيف نستحي من الله عز وجل حق الحياء؟ قال: من حفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الدنيا، وذكر الموت والبلى، فقد استحى من الله عز وجل حق الحياء ـ وهذا الحديث من أبلغ الوصايا ..... وهذا الحياء يكون من قوة الدين وصحة اليقين ....
وأما حياؤه من الناس فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح .... وهذا النوع من الحياء قد يكون من كمال المروءة وحب الثناء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ـ يعني ـ والله أعلم ـ لقلة مروءته، وظهور شهوته .... وقال بعض الشعراء:
ورب قبيحة ما حال بيني * وبين ركوبها إلا الحياء
إذا رزق الفتى وجها وقاحا * تقلب في الأمور كما يشاء
وقال آخر:
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا * وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع.
وأما حياؤه من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات، وقال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك، وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر، ودعا قوم رجلا كان يألف عشرتهم، فلم يجبهم، وقال: إني دخلت البارحة في الأربعين وأنا أستحي من سني، وقال بعض الشعراء:
فسري كإعلاني وتلك خليقتي * وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري
وهذا النوع من الحياء قد يكون من فضيلة النفس وحسن السريرة، فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة فقد كملت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا، وقال بعض الشعراء:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنى * وعن شتم ذي القربى خلائق أربع
حياء وإسلام وتقوى وطاعة * لربي ومثلي من يضر وينفع
وإن أخل بأحد وجوه الحياء لحقه من النقص بإخلاله بقدر ما كان يلحقه من الفضل بكماله، وقد قال الرياشي: يقال إن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان يتمثل بهذا الشعر:
وحاجة دون أخرى قد سنحت لها * جعلتها للتي أخفيت عنوانا
إني كأني أرى من لا حياء له * ولا أمانة وسط القوم عريانا
المصدر:
الماوردي، أدب الدنيا والدين