من شؤم علم الكلام على أصحابه أنه يوقعهم في الحرج والحيرة حين يعرضون لبيان موقف أئمة أهل السنة من علم الكلام، وذلك أنهم إن وافقوهم في القدح في علم الكلام وأنه منهج مبتدع في الدين فقد ناقضوا منهجهم وأبطلوه، وإن خالفوا أئمة أهل السنة فقد أظهروا المباينة بينهم وبين من ثبتت إمامتهم عند عموم المسلمين، وأنهم قد شذوا عنهم وانحرفوا عن منهجهم، ويكون المخرج الذي يسلكونه لتجنب الوقوع في هذين الخيارين أن يتأولوا تحذير الأئمة من علم الكلام على غير وجهه.
ومثال ذلك أن الفخر الرازي قد عقد فصلا في كتابه عن مناقب الإمام الشافعي وعنوانه "ما روي عن الإمام الشافعي من الطعن في علم الكلام" وذكر فيه من أقوال الإمام الشافعي في التحذير من علم الكلام والتشديد في ذلك ما يحصل معها الجزم بأن موقف الإمام الشافعي من علم الكلام هو اعتقاد بطلانه ومباينته للمنهج الحق الذي عليه أئمة الإسلام المقتدى بهم.
ومما نقله عن الإمام الشافعي قوله: "ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح" وقوله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل منكسين، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"، ونقل عنه ما يفيد أن كتب علم الكلام ليست من كتب العلم، وأن أهل الكلام ليسوا من أهل العلم.
وقد احتار الرازي كيف يصنع مع هذه الأقوال وما فيها من التصريح بالتشنيع على علم الكلام والبراءة منه ومن أهله، وقد ذكر أنه قد حصل الخلاف بين طائفتين في تفسير موقف الشافعي، وملخص ما ذكره هو أن: "هذه الروايات دلت على حصول العداوة بين الشافعي وبين أصحاب علم الكلام، فمن اعتقد أن الكلام علم شريف استدل به على الطعن في الشافعي، ومن اعتقد أن الشافعي إمام كامل فقد استدل به على الطعن في علم الكلام".
واجتهد الرازي في أن يجد مخرجا يجمع فيه بين الاعتبار لمكانة الشافعي وعدم القدح في علم الكلام، وانتهى إلى أنه لا بد من تأويل ما نقل عن الشافعي من الذم لعلم الكلام والتحذير منه بما لا يتنافى مع أن علم الكلام هو أشرف العلوم وأجلها حسب قوله، وذكر في تبرير هذا المخرج تأويلات مستنكرة.
ومما ادعاه في ذلك قوله: "إن الفتن العظيمة وقعت في ذلك الزمان، بسبب خوض الناس في مسألة القرآن، وأهل البدع استعانوا بالسلطان وقهروا أهل الحق، ولم يلتفتوا إلى دلائل المحققين، فلما عرف الشافعي أن البحث في هذا العلم ما كان في ذلك الزمان لله وفي الله، بل لأجل الدنيا والسلطنة، لا جرم تركه وأعرض عنه وذم من اشتغل به".
ومما ادعاه الرازي أيضا من التأويلات أن الشافعي لم يذم مطلق علم الكلام بل هو قبيل ذم بعض السلف للقياس، وهم إنما قصدوا بذمهم القياس الفاسد خاصة، وعلى هذا فإن: "الذم العظيم المنقول عن الشافعي للكلام يجب صرفه إلى الكلام الذي كان أهل البدع ينصرونه ويعولون عليه".
وختم الرازي هذه التأويلات بما هو الحق الذي أراده الشافعي، لكنه غير مقبول عند الرازي، وحاصله أنه ربما كان مقصود الشافعي أنه يجب الاكتفاء بالدلائل المذكورة في القرآن، وأن "التوغل في الدقائق التي لا سبيل للعقل إلى الخوض فيها غير جائز،فلهذا السبب بالغ في ذم من حاول الخوض في تلك الدقائق".
وإذا كان الرازي قد تعسف لتبرير علم الكلام غاية التعسف، وذكر من التأويلات ما يناقض ما هو صريح موقف الإمام الشافعي فإنما يكشف ذلك عن حقيقة التباين بين منهج الإمام الشافعي الذي هو منهج أهل السنة وبين ما أحدثه المتكلمون وابتدعوه في منهج الاستدلال وأصول الاعتقاد، وأنهما منهجان متناقضان لا يمكن التوفيق بينهما إلا بمثل ما ذكره الرازي من هذه التأويلات المنكرة، وأنه لا خيار لأحد إلا أن يقول بحقية أحد هذين المنهجين وما يلزم عنه من بطلان المنهج الآخر.
وأما ما ذكره في التأويل الثالث من أن الشافعي كان يكتفي بالدلائل المذكورة في القرآن وينهى عن الخوض فيما وراء ذلك مما خاض فيه المتكلمون من الدلائل البدعية فهو الحق الذي لا يختص به الإمام الشافعي، بل هو الحق الذي قرره أئمة أهل السنة وتواتر النقل عنهم قرنا بعد قرن بما يدل عليه ويبينه غاية البيان.
ومدار منهجهم في ذلك أنه لا تلازم بين مطلق الاستدلال العقلي وبين علم الكلام، بل قد جاءت النصوص بما فيه الكفاية في الاستدلال بالبراهين العقلية على أصول الاعتقاد، وأن ما أحدثه المتكلمون من البدع في أصول الاعتقاد فإنما يستند إلى ما أحدثوه مما يخالف طريقة القرآن في منهج الاستدلال.
ومن لم يعرف حقيقة هذا الفرق بين المنهجين ف لا بد أن يلتبس عليه الأمر في تمييز الحق من الباطل في منهج الاستدلال، ويتعدى اللبس عندهم إلى الظن بأن من اشتهر عنه بيان الدلائل العقلية على أصول الاعتقاد والرد على المخالفين فيها فهو عندهم على منهج المتكلمين، حتى وقع الخلط عندهم في حقيقة موقف ابن تيمية، حيث عده بعضهم من أهل الكلام، مع ما هو معلوم من عظيم جهاده في الرد عليهم وإبطال منهجهم.