مقامات التسليم لله

مقامات التسليم لله | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

385 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

للتسليم لله تعالى مقامان لا يتم إلا بهما، أحدهما التسليم لأمر الله الشرعي، والثاني التسليم لأمر الله القدري.

وإنما يتم التسليم لأمر الله الشرعي بتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تحقيقا لقول الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"، وحقيقة ذلك الاستجابة لأمر الله ونهيه، والتصديق الجازم بخبره، وعدم تقييد مبدأ التسليم للنصوص الشرعية بأي قيد، لا بمعارض عقلي، ولا بكشف صوفي، ولا بتقليد لإمام أو التزام بمذهب مع تبين دلالة النصوص على خلافه.

وتتبين حقيقة هذا التسليم على وجهها بمعرفة حال الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا عليه من التسليم بخبر الله وأمره دون أدنى تردد أو اعتراض، ومما يظهر به فضلهم على جميع الأمة ممن جاء بعدهم أنهم قد عايشوا التنزيل فما كان منهم في جميع أحوالهم إلا الاستجابة لكل ما يتجدد من شرائع الدين وأحكامه بمجرد علمهم بها.

وتأمل حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أشكل على كفار قريش خبر الإسراء والمعراج، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم به، وظنوا أن ما حصل لهم من الشك ربما يحصل لأبي بكر رضي الله عنه، لكنه واجههم بقوله دون تردد: "لئن قاله لقد صدق، إنه ليخبرني الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض، في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أعجب مما تعجبون منه".

وتأمل في سرعة استجابتهم للأمر يأتي به الوحي ما كان من حال بعض الصحابة الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، على الحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فلما نزل الوحي بتحويل القبلة، وجاء أحد الصحابة ممن صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أولئك الصحابة يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم، قال لهم: "أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت".

وتأمل أيضا حالهم في سرعة الاستجابة للنهي حين حرمت الخمر فأمروا بإهراقها من فورهم حتى سالت بها سكك المدينة.

وأما التسليم لأمر الله القدري فيتحقق بالرضا بقضاء الله وقدره، وعدم الاعتراض والتسخط على ما يقدره الله على المؤمن، والجزم بكمال عدل الله وحكمته، وأنه لا يظلم أحدا، ولا يكون في قضائه وقدره إلا ما هو غاية الحكمة، والتحقق بمعنى ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك"، فإذا استقر اليقين بذلك في قلب المؤمن فوض أمره لله تعالى، وسلم أمره لله تعالى تسليما تاما لا اعتراض معه، واجتهد في مقاومة ما قد يحصل له من التشويش والتسخط وإن قل،  وتجنب ما قد يلقيه الشيطان في قلبه من أنه لو فعل كذا لكان كذا وكذا، وحرص على عدم تزكية نفسه في هذه المقامات الخفية، فإن ما يقع في النفوس من ذلك مما قد يخفى على كثير من الناس، مع أنه يندر أن يسلم منه أحد، ويخشى على من يزكي نفسه في هذا المقام أن يكون ممن أظلم قلبه حتى لم يبصر ما ابتلي به، فاللهم رحمتك ولطفك في النجاة مما يعارض التسليم بقضائك وقدرك.

وتأمل أيها الحريص على نجاة نفسه بعين قلبك ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى حيث يقول: "أكثر الخلق، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما استحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعتبا على القدر، وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك…

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى، وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم،فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى".

والموفق هو من جمع بين هذين المقامين في التسليم لرب العالمين، فاحذر وأنت تسير في طريق العبودية كل ما يشوش عليك التحقق بهما، من الشبه العارضة أو الشهوات الصارفة أو الظنون الكاذبة، واعلم أنك في جهاد دائم لتصحيح إيمانك وتجديده حتى يأتيك اليقين، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التسليم-للنص-الشرعي #التسليم
اقرأ أيضا
دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الأول


نعلم أن سهام منكري السنة تتوجه في الغالب إلى السنة النبوية ذاتها سواء في متنها أو سندها أو حتى حجيتها من الأساس فهم لا يؤمنون بأنها وحي من عند الله وفي المقابل يدعون الإيمان بالقرآن وما جاء فيه ومن هنا ندرك أهمية الوقوف على حجية السنة النبوية من نصوص القرآن الكريم وفي هذا المقال يقدم لنا الكاتب أحمد يوسف السيد أدلة قرآنية تثبت أن السنة النبوية هي وحي من عند الله

بقلم: أحمد يوسف السيد
2333
بما فضل الله | مرابط
مقالات المرأة

بما فضل الله


فمهما حاولت المرأة التخلص من العاطفة في حكمها على الأمور لن تستطيع لأنه مركوزة في فطرتها وتكوينها.. فنقص العاطفة عند الرجال كنقص العقل عند النساء تفضيل أودعه الله في الخلق لحكمة يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
261
العجيبة الثامنة ج1 | مرابط
فكر مقالات

العجيبة الثامنة ج1


المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب ذهب جلها ولم يبق منها إلا قلها وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل وهو على ذلك شيء عظيم ففي مكتبات إسطنبول كما نقلوا أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم وفي مصر ثمانون ألف مخطوط وفي موريتانيا واليمن وغيرهما

بقلم: علي الطنطاوي
737
مع القلوب الصخرية | مرابط
مقالات

مع القلوب الصخرية


يا أخي والله لقد قرأت كثيرا كثيرا في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ وجربت كثيرا من الوسائل التي ذكروها وأصدقك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى لا أنكر أن فيها فائدة لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط دواء واحد لا غير وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي هذا العلاج هو بكل اختصار تدبر القرآن.

بقلم: إبراهيم السكران
254
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
293
النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة


خرج الترمذي من حديث يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون إزداد وإن كان مسيئا ندم أن يكون نزع وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هشام الرفاعي حدثنا حفص بن غياث عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر دفن حديثا فقال: لركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفلون يراهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم

بقلم: ابن رجب الحنبلي
1203