مقامات التسليم لله

مقامات التسليم لله | مرابط

الكاتب: عبد الله القرني

538 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

للتسليم لله تعالى مقامان لا يتم إلا بهما، أحدهما التسليم لأمر الله الشرعي، والثاني التسليم لأمر الله القدري.

وإنما يتم التسليم لأمر الله الشرعي بتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تحقيقا لقول الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"، وحقيقة ذلك الاستجابة لأمر الله ونهيه، والتصديق الجازم بخبره، وعدم تقييد مبدأ التسليم للنصوص الشرعية بأي قيد، لا بمعارض عقلي، ولا بكشف صوفي، ولا بتقليد لإمام أو التزام بمذهب مع تبين دلالة النصوص على خلافه.

وتتبين حقيقة هذا التسليم على وجهها بمعرفة حال الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا عليه من التسليم بخبر الله وأمره دون أدنى تردد أو اعتراض، ومما يظهر به فضلهم على جميع الأمة ممن جاء بعدهم أنهم قد عايشوا التنزيل فما كان منهم في جميع أحوالهم إلا الاستجابة لكل ما يتجدد من شرائع الدين وأحكامه بمجرد علمهم بها.

وتأمل حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أشكل على كفار قريش خبر الإسراء والمعراج، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم به، وظنوا أن ما حصل لهم من الشك ربما يحصل لأبي بكر رضي الله عنه، لكنه واجههم بقوله دون تردد: "لئن قاله لقد صدق، إنه ليخبرني الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض، في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أعجب مما تعجبون منه".

وتأمل في سرعة استجابتهم للأمر يأتي به الوحي ما كان من حال بعض الصحابة الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، على الحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فلما نزل الوحي بتحويل القبلة، وجاء أحد الصحابة ممن صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أولئك الصحابة يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم، قال لهم: "أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت".

وتأمل أيضا حالهم في سرعة الاستجابة للنهي حين حرمت الخمر فأمروا بإهراقها من فورهم حتى سالت بها سكك المدينة.

وأما التسليم لأمر الله القدري فيتحقق بالرضا بقضاء الله وقدره، وعدم الاعتراض والتسخط على ما يقدره الله على المؤمن، والجزم بكمال عدل الله وحكمته، وأنه لا يظلم أحدا، ولا يكون في قضائه وقدره إلا ما هو غاية الحكمة، والتحقق بمعنى ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك"، فإذا استقر اليقين بذلك في قلب المؤمن فوض أمره لله تعالى، وسلم أمره لله تعالى تسليما تاما لا اعتراض معه، واجتهد في مقاومة ما قد يحصل له من التشويش والتسخط وإن قل،  وتجنب ما قد يلقيه الشيطان في قلبه من أنه لو فعل كذا لكان كذا وكذا، وحرص على عدم تزكية نفسه في هذه المقامات الخفية، فإن ما يقع في النفوس من ذلك مما قد يخفى على كثير من الناس، مع أنه يندر أن يسلم منه أحد، ويخشى على من يزكي نفسه في هذا المقام أن يكون ممن أظلم قلبه حتى لم يبصر ما ابتلي به، فاللهم رحمتك ولطفك في النجاة مما يعارض التسليم بقضائك وقدرك.

وتأمل أيها الحريص على نجاة نفسه بعين قلبك ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى حيث يقول: "أكثر الخلق، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما استحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعتبا على القدر، وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك…

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى، وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم،فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى".

والموفق هو من جمع بين هذين المقامين في التسليم لرب العالمين، فاحذر وأنت تسير في طريق العبودية كل ما يشوش عليك التحقق بهما، من الشبه العارضة أو الشهوات الصارفة أو الظنون الكاذبة، واعلم أنك في جهاد دائم لتصحيح إيمانك وتجديده حتى يأتيك اليقين، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التسليم-للنص-الشرعي #التسليم
اقرأ أيضا
اهضم مبدعا | مرابط
فكر ثقافة

اهضم مبدعا


هناك فكرة جميلة يسمونها في الغرب اسرق مبدعا وليس معنى ذلك أن تسطو على أعماله وتنسبها لنفسك وإنما معناه أن تقصد إلى نتاج مبدع في مجاله وفنه وتعكف عليه عكوف المتبتل لا تدير وجهك عنه حتى تتشربه وتقف عليه وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه حتى تهضمه ويسلس لك قياد أعماله.

بقلم: د. طلال من فواز الحسان
445
الصحبة قسمان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصحبة قسمان


مقتطف للعلامة ابن القيم من كتاب الفوائد يتحدث فيه عن الاجتماع بالإخوان وكيف أنه ينقسم إلى نوعين نوع فيه مضرة ونوع فيه منفعة والمتأمل لهذا الاقتباس يدرك مدى حرص علماء المسلمين وسلفنا الصالح على الوقت وعلى كل لحظة من لحظات الطاعة ومدى تجنبهم لصغائر الأمور قبل كبائرها

بقلم: ابن القيم
2206
التغريب: الأهداف والأساليب ج4 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج4


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2376
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ج4 | مرابط
تفريغات

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ج4


إن الله سبحانه وتعالى قد فرض فرائض وشرع شرائع وأمر بلزومها ومن أعظم هذه الشرائع هي أركان الإسلام الخمسة التي أمر الله عز وجل بها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بركنيتها للإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما في قوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا

بقلم: عبد العزيز الطريفي
829
بالمساواة يتحقق العدل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

بالمساواة يتحقق العدل


المساواة هي الشعار البراق اللامع الذي يرفعه الكثير من الناس ويقدمونها كأنها قيمة مثالية عليا متى تحققت صلح الواقع وبالتالي فلا يحق لأحد معارضتها أو إنكارها ولكن الحقيقة أن هذا الشعار البراق هو محض وهم فالمساواة ليست دائما حسنة ومن هنا يقف بنا المقال عند قيمة العدل وقيمة المساواة للتفريق بينهما وفهم ميدان عمل كل واحد منهما

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2288
الأطفال وجناية الشهرة | مرابط
مقالات

الأطفال وجناية الشهرة


من الظواهر المؤلمة التي ظهرت مؤخرا ظاهرة شهرة الأطفال وإبرازهم وجعلهم ممن يشار إليهم بالبنان وممن تلاحقهم الأضواء والفلاشات وهذه ظاهرة سيئة لها تبعاتها الخطيرة على الطفل وعلى مستقبله في هذه الحياة. والأدهى والأمر تصنيف ذلك على أنه نجاح وتوفيق وتحقيق هدف ونموذج ينبغي أن يحتذى فيكون ميزان النجاح بعدد المتابعين وكثرة لظهور أمام الفلاشات وهذا وربي من المفاهيم المغلوطة التي ينبغي أن تصحح.

بقلم: د. طلال الحسان
394