فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان. فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا إليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبدالله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.
ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع. فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذا السبيل. وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء.
وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، لسبب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية، كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى. ومن شركهم الغلو في البشر والابتداع في العادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد.
فلما أصبحنا ذهبت إلى الميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالًا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقًا لا يعرفه أحد من العلماء. وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة. وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر. وأن لهم طريقًا وله طريق. وهم الواصلون إلى كنه التحقيق وأشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق.
أبرز تلبيسات الرفاعية
وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.
قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فعاد الرسول، إلي مرة ثانية فبلغه أنّا في الطريق، وكان كثير من أهل الاتحاد مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعنيهم في حضورهم. فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق في هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع. فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء. وقال إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت هذا من البهتان.
وها أنا ذا أصف ما كان. قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار. وفي ذلك الحديث الصحيح. وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم. وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا على الملك العادل كتغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم. فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب. فصنعوا خشبًا طوالًا وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون على الأرض وأخذوا منه مالًا كثيرًا ثم انكشف له أمرهم.
قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة. وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلًا في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا إنه طلب منه جملة من المال؛ فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز.
فذكرت للأمير هذا؛ ولهذا قيل لي إنه لما انقضى المجلس وانكشف ما لهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره صورة ما جرى.
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع، مثل الأغلال ونحوها، وأنّا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبدالله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام...
تحدي دخول النار معهم
قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالًا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه -سواء وافق الشرع أو خالفه- وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار.
فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم! قد استخرت الله في ذلك وألقي في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشارتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب إلينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.
وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم. فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حربًا عظيمًا، ولعل ذلك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر، أنا وهو وبهادر، فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن لهم فيهم ظنًا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال؛ فإنه ذكر لي.
وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق؛ فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان. وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، والظفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: "واقصد في مشيك واغضض من صوتك".
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يسمي نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه: عبدالله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك. وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي علي تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين نظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.
المصدر:
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - 11/445