موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج2

موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج2 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

4025 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

ثم إنه قد روى عنه عدد من الصحابة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع أبو نعيم الأصفهاني عددًا منهم فقال عن معاوية: "حدث عنه من الصحابة: عبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وجرير والنعمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر وعبد الله بن الزبير"(1)، وقد أحصى بعض الباحثين ثلاثًا وعشرين صحابيًا رووا عن معاوية الحديث، وبعض هذه الأسانيد جاءت في البخاري ومسلم(2)، وقد نص عدد من العلماء من أهل الاستقراء على أنه ليس هناك أحد من الصحابة والتابعين كان يتهم معاوية بالكذب وفي هذا يقول ابن تيمية عن معاوية وعمرو ابن العاص:

 

"ولم يتهمهم أحد من أوليائهم -لامحاربوهم، ولاغير محاربيهم- بالكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله، مأمونون عليه في الرواية عنه"(3).


فلو كان معاوية كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا أو مقدوحًا في دينه وأمانته فكيف استساغ أولئك النفر من الصحابة الرواية عنه؟! وكيف صدقوه في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
 
ويدل حال الصحابة على أنهم كانوا لا يسكتون عن أي مخالفة تقع في الدين سواء كانت من معاوية أو من غيره، وقد اختلف أبو ذر -رضي الله عنه- مع معاوية في اكتناز المال، وشدد أبو ذر على معاوية حتى شكاه إلى عثمان، فهل من المعقول أن يكون معاوية متاجرًا في بيع الأصنام في زمن عثمان -كما جاء في القصة التي يعتمد عليها الطاعنون- أو كافرًا أو منافقًا أو شاربًا للخمر أو مستهترًَا بدين الله ثم يترك أبو ذر وغيره من الصحابة كل ذلك ويقف معه في قضية أقل منها وهي اكتناز المال؟! ألا يدل اختلافهم ذلك على أن أبا ذر وغيره من الصحابة لم يجدوا عند معاوية ما يوجب له الفسق والكفر وإلا لبادروا على إعلان النكير عليه؟!
 
ولما اجتمع معاوية ابن أبي سفيان بكبار الصحابة في آخر أيام خلافته، وهم ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر والحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، ليأخذ منهم الإقرار بولاية العهد لابنه يزيد، أنكروا ذلك عليه ولم يؤيدوه على فعله ورأيه(4)، وهذا يدل على أن الصحابة لو كانوا يرون عند معاوية ما يخالف الدين لما سكتوا عنه ولأظهروا المخالفة له، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

 

كيف تعامل الصحابة مع أخطاء معاوية ؟


والتقريرات والدلائل العقلية السابقة لا تعني أن الصحابة كانوا يرون معاوية مبرأ من الخطأ، ولكنَّ أخطاءه عندهم لا تصل إلى الكفر والنفاق والفسق والقدح في ديانته.
 
فليس هناك شك في العقل أن عليًا ومن معه من الصحابة كانوا يرون أن معاوية مخطئًا في قتاله لعلي، وكثير من الصحابة كان يرى هذا الرأي خاصة بعد قتل عمار بن ياسر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية! عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار»(5).
 
ولكنهم لم يبالغوا في الحكم على معاوية ولم يصدروا أحكاما جائرة، فلم يحكموا عليه بالكفر ولا بالفسق ولا بالنفاق ولا بالقدح في الدين، وإنما عدوه مجتهدًا متأولًا.
 
ومن أمثلة مواقف الصحابة من أخطاء معاوية: ما ذكره المسور بن مخرمة رضي الله عنه -وهو من صغار الصحابة- أن معاوية قال له: "يا مِسْوَر! ما فعل طعنُك على الأئمة؟ قال: دَعْنا من هذا وأحسن. قال: لا والله! لَتُكلِّمَنِّي بذات نَفسكَ بالذي تعيبُ عَلَيَّ! قال مسور: فلم أترك شيئا أعيبُه عليه إلا بيَّنت له. فقال: لا أبرأ من الذنبِ! فهل تَعُدُّ لنا يا مِسْوَر ما نَلِي من الإصلاح في أمر العامة -فإن الحسنة بعشر أمثالها- أم تعُدُّ الذنوبَ وتَترُكُ الإحسان؟! قال: ما نَذكرُ إلا الذنوب! قال معاوية: فإنَّا نعترفُ لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟ قال: نعم! قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحقَّ مني؟! فوالله ما ألي من الإصلاح أكثرَ مما تَلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره؛ إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لَعَلَى دينٍ يُقبَلُ فيه العمل؛ ويُجزى فيه بالحسنات؛ ويُجزى فيه بالذنوب؛ إلا أن يعفوَ اللهُ عنها.
 
قال: فخَصَمَني! قال عروة: فلم أسمَع المِسْوَر ذَكَرَ معاويةَ إلا صلَّى عليه"(6). فهذا الأثر يدل على أن الأخطاء التي ذكرها المسور في معاوية ليست أخطاء كبيرة توجب الكفر أو النفاق أو الفسق، ولو كانت كذلك لما أقره المسور على أنها مغفورة بالحسنات والأعمال الصالحة
 
وكذلك عائشة -رضي الله عنها- أنكرت على معاوية قتله حجر بن عدي وأصحابه من أهل العراق، ولكن معاوية بين لها حجته وتأوله، وأنه خشي أن يحدث فتنة في الناس بإعلانه القوى على إمامته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»(7)، وقال لها: «وأما حجر وأصحابه فإنني تخوفت أمرا وخشيت فتنة تكون تهراق فيها الدماء وتستحل فيها المحارم وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء، قالت: تركتك والله تركتك والله تركتك والله»(8).
 
وهذا الموقف الإعذاري الذي اتخذته عائشة من معاوية هو الموقف نفسه الذي اتخذه أبو بكر وعمر من خالد حين قتل مالك بن نويرة مع أنه أعلن إسلامه، فمع أنهم حكموا بخطئه وأنكروا فعله إلا أنهم لم يفسقوه ولم يكفروه ولم يقدحوا في دينه، ومستندهم في ذلك موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسامة وخالد بن الوليد حينا قتلا من أعلن إسلامه.
 
مع أنه لا بد من التنبيه على أن قتل معاوية لحجر بن عدي -رضي الله عنه- اشتمل على ملابسات كثيرة جدًا، والقصة تحتاج إلى قدر كبير من التحقيق، وليس من قصد البحث تحقيق الكلام فيها، وإنما قصده تحقيق مواقف الصحابة مما وقع فيه معاوية من إزهاق الدم المسلم.


موقف تلاميذ الصحابة من معاوية


ثم إذا انتقلنا إلى تلاميذ الصحابة وتلاميذ تلاميذهم من التابعين وأتباعهم، وهم الأعلم بمواقف الصحابة والأكثر فقها لآرائهم وأصول مذهبهم والأعمق في تصور عقيدتهم، وهم الأشد حرصا على اتباع الصحابة والتمسك بما كانوا عليه من دين، وهم كذلك أعداد كبيرة جدًا، وقد عاش كثير منهم بعد انتهاء دولة بني أمية.
 
فإنا لو رجعنا إلى مواقفهم من معاوية نجدهم أطبقوا على الثناء عليه والإعلان عن حبه وتقديره واعتقاد عدالته وحسن سيرته، فمن المستبعد عقلاً أن تتوارد هذه الأعداد الغفيرة على عقيدة خلاف ما تلقوه من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن المستبعد عقلاً أن تتوارد هذه الأعداد الغفيرة على كتمان الحق الذي تلقوه من الصحابة؟!


تعليق أخير:


فهذه الشواهد التاريخية والدلالات العقلية تُكوِّن لدينا ترسانة علمية صلبة في التعامل مع معاوية -رضي الله عنه-، وتكشف لنا عن حقيقة نظرة الصحابة إليه وتعاملهم معه، وهي لا شك ستعين القارئ في تاريخ معاوية على فهم كثير من النصوص الشرعية التي جاءت في حقه، وتعينه على توسيع أفقه في التعامل مع مشاهد سيرته، ولا يجوز في موازين المنهجية العلمية القفز عليها أو تجازوها ما لم نقدم عنها جوابًا مقنعًا.
 
وتعاملات الصحابة تلك تمثل عقبة كبيرة أمام القادحين في معاوية لإقناع المسلمين برأيهم؛ إذ كيف يقتنع المسلمون بأن معاوية كان كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا أو فاسد الديانة وهم يعلمون مواقف الصحابة معه؟!
 
ولا بد من التنبيه في ختام هذه الورقة التقريرية المختصرة أنه لم يكن القصد منها استيعاب كل ما يتعلق بمعاوية -رضي الله عنه- من النصوص الشرعية وغيرها، وإنما القصد دراسة وتحليل مواقف الصحابة فقط.
 
ولا بد من التنبيه على أن الغالين في ذم معاوية قد ذكروا أخبارًا وآثارًا عديدة تدل في ظاهرها على أن الصحابة كانوا يقدحون في معاوية ويذمونه، ولكن هذه الأخبار كلها ليست صحيحة ولا ثابتة، وقد قام عدد من الباحثين المعاصرين برصد تلك التهم والأخبار وقاموا بدراستها حديثيًا وتاريخيًا وأثبتوا بطلانها وخطأها، ومن أجمع البحوث التي قامت بذلك كتاب (سل السنان في الذبِّ عن معاوية ابن أبي سفيان)، فقد جمع فيه كل ما أثير ضد معاوية وأجاب عنها جوابًا مفصَّلاً. ثم إن ما كان منها صحيحًا فإنه لا يدل على مقدار الحكم الجائر الذي وصفوا به معاوية!!

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. معرفة الصحابة، أبو نعيم [5/2497].

  2. انظر: سل السنان في الذب عن معاوية ابن أبي سفيان [15].

  3. مجموع الفتاوى، ابن تيمية [35/66].

  4. انظر خبر ذلك في: تاريخ خليفة خياط [213-214].

  5. أخرجه: البخاري [2657].

  6. أخرجه: معمر في الجامع -المطبوع مع مصنف عبدالرزاق [20717]، وابن سعد في الطبقات [1/123]، وقال ابن عبدالبر عن هذا الأثر: "وهذا الخبر من أصح ما يروى من حديث ابن شهاب" الاستيعاب في معرفة الأصحاب [3/1422]، وصححه عدد من العلماء.

  7. أخرجه: مسلم [4904].

  8. أخرجه: ابن عساكر في تاريخه [12/230]

 

المصدر:

  1. http://iswy.co/e121dd
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الرد على بعض شبهات الصوفية | مرابط
تفريغات

الرد على بعض شبهات الصوفية


قد تجد أهل الباطل والضلال عندهم جميع الإمكانات التي ينشرون بها ضلالهم وتجد أهل الحق ضعافا لا يملكون شيئا ومع ذلك يصل الحق إلى الناس ولا يصل الباطل بالرغم من الإمكانات لأن قوة الحق في كونه حقا بل نقذف كأن الحق قذيفة بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه الأنبياء:18

بقلم: أبو إسحق الحويني
409
محاسن الفراسة | مرابط
اقتباسات وقطوف

محاسن الفراسة


ومن ألطف ما يحكى في ذلك: أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه فقال: سعد يا أمير المؤمنين فقال: أي السعود أنت قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين وسعد الذابح لأعدائك وسعد بلع على سماطك وسعد الأخبية لسرك فأعجبه ذلك ويشبه هذا: أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقارب في خطوه فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين قال: إنك لجلد قال: على أعدائك قال: وإن فيك لبقية قال: هي لك

بقلم: ابن القيم
734
عن النسوية الإسلامية | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

عن النسوية الإسلامية


إن هذه القراءة النسوية للإسلام هي بعينها القراءة النسوية الغربية للنصرانية واليهودية فالقراءة هنا تتم بعيون غربية للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وذلك من خلال الدعوة إلى مناهضة ما يسمى بالتفسير الأبوي الذكوري للإسلام والعمل على تأسيس ما يعرف بالتفسير النسوي الذي يركز على النوع والجنوسة

بقلم: سامية العنزي
528
شؤم إنكار السنة | مرابط
تعزيز اليقين

شؤم إنكار السنة


من شؤم إنكار السنة: عدم القدرة على إقامة فرائض الدين الكبرى التي أمر الله بها في القرآن كالصلاة والزكاة والحج إذ إن تفصيلاتها وحدودها وأركانها وواجباتها إنما اتضحت عن طريق السنة.ومن جمال إثبات السنة: وضوح العبادات العملية والقدرة على أدائها ببرهان ويقين ووضوح.

بقلم: أحمد يوسف السيد
291
شهادة امرأة غربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

شهادة امرأة غربية


كان النساء يعاملن على أنهن كائنات أدنى حتى جاء الإسلام.. في الحقيقة نحن النساء لا زلنا نعاني في الغرب حيث يعتقد الرجال أنهم أرقى من النساء. وهذا أمر من الممكن أن نراه في نظم الترقية والرواتب من عاملات التنظيف إلى النساء في مجالس الإدارة. النساء الغربيات لا زلن يعاملن كسلعة حيث الاستعباد الجنسي في علو وإن كان يتغطى تحت كنايات تسويقية حيث تروج أجساد النساء عبر عالم الإعلانات.

بقلم: إيفوني ردلي
312
خطر البدعة وأهلها | مرابط
تفريغات

خطر البدعة وأهلها


ثم أصحاب البدع يحملون أوزارهم وأوزار الذين أضلوهم كما قال تبارك وتعالى:ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمالنحل:25 إن المبتدعة ليس عندهم علم ولا برهان وإنما هو استحسان شيء ظنه قربة إلى الله عز وجل لذلك نخرج من هذا بالقاعدة المعروفة عند أهل السنة: إن الزيادة في الخير ليست خيرا إلا أن تكون مشروعة

بقلم: أبو إسحق الحويني
779