هل القرآن منقول من الكتاب المقدس ج1

هل القرآن منقول من الكتاب المقدس ج1 | مرابط

الكاتب: د منقذ السقار

1828 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الشبهة:

قالوا: القرآن منحول عن الكتاب المقدس في كثير من معارفه ونصوصه التي شابهت ما في الكتاب المقدس من أخبار السابقين.

 

الرد عليها:

والجواب: إن القرآن يصرح بوجود التشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: ١٠٥)، ومثله في قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (الأعلى: ١٦ - ١٩) (١)، فوحدة المصدر تستلزم وجود التشابه، والتشابه بينهما يكون بقدر ما يشتمل عليه الكتاب المقدس من حق وما بقي فيه من هدي الأنبياء {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (النساء: ١٦٣).

لكن التشابه بين الكتابين ليس مطردًا، فثمة فروق كبيرة بينهما سنعرض لبعضها بعد أن نبين أن الكثير مما يظنه البعض تشابهًا هو في حقيقته مشتمل على مفارقة كبرى تبطل زعم الزاعمين بالتشابه بين الكتابين.

فمثلًا لا تشابه ولا توافق بين ما جاء في الإنجيل وما جاء في القرآن عن المحرومين من دخول الجنة رغم ما قد يظن من تشابه السياقين، ففي الإنجيل أن المسيح قال لتلاميذه: "الحق أقول لكم: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله" (متى ١٩/ ٢٣ - ٢٥)، فهذا النص في تجريم الأغنياء وحرمانهم من الجنة؛ بينما القرآن ضرب هذا المثل في حديثه عن الكفار المكذبين المجرمين، لا الأغنياء {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (الأعراف: ٤٠)، فالتشابه بين النصين ينطبق عليه تشبيه العلامة ديدات بالشبه بين الجُبن والطباشير، وإن كنت لا أشك بتشابه القرآن مع ما أنزله الله على المسيح عليه الصلاة والسلام، مما أضاعوه وحرفوه.

ونود أن ننبه هنا إلى أن آيات القرآن بلغت ٦٢٣٦ آية، وأن التشابه بينها وبين النصوص الكتابية لا يزيد - بحال من الأحوال - عن مائة آية، ونعتقد جازمين أن هذه الكتب قبل تحريفها كان فيها من صور التشابه مع القرآن ما هو أكثر من ذلك بكثير.

كما يلزم العلم بالاختلاف والبون الكبير بين موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس، فالعهد القديم (التوراة) في حقيقته هو تاريخ بني إسرائيل وأنسابهم وأعدادهم وسير ملوكهم وأنبيائهم وقصص حروبهم، فهو في الجملة كسائر كتب التاريخ المعروفة، كالبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الأمم والملوك للطبري، ولا يستثنى من ذلك إلا سفران فقط (اللاويون والتثنية)، فهما معنيان بالأحكام التشريعية.

وأما العهد الجديد (الإنجيل) فيتكون من أناجيل أربعة، تضمنت سيرة المسيح من الولادة إلى الصلب المزعوم، فهي أشبه ما تكون بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يرويها ابن إسحاق أو تهذيبها لابن هشام، كما يتضمن العهد الجديد أيضًا رسائل التلاميذ، وهي تحكي عن قصصهم ورحلاتهم وأُعجوباتهم ووصاياهم الموجهة إلى أصدقائهم ومعارفهم لتوضيح بعض المفاهيم اللاهوتية أو لطلب بعض القضايا الشخصية.

أما القرآن الكريم فهو مختلف في تكوينه وموضوعه، فهو يحوي (شرح حقائق الإيمان - قصص السابقين - أحكام تشريعية - توجيهات للمجتمع المسلم - معالجة قضايا في العصر النبوي - وصف اليوم الآخر وما يتعلق به).

وينحصر المشترك بين موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس في ثلاثة محاور (حقائق الإيمان - قصص السابقين - الأحكام التشريعية).

لكن نظرة فاحصة ستكشف التباين الكبير بين حديث القرآن وحديث الكتاب المقدس في هذه الموضوعات الثلاثة، وهو ما نفصله بإذن الله.

 

أ. حقائق الإيمان بين القرآن والكتاب المقدس

الكتب التي ينزلها الله يتوقع قارئها جميعًا أن تركز على حقائق الإيمان الرئيسة كالتعريف بالله وأنبيائه وملائكته وكيفية عبادته، ومن البدهي أن تتطابق هذه الكتب، لوحدة مصدرها، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بدعًا عن إخوانه الأنبياء، بل جاء لبيان المعاني ذاتها التي بعثهم الله للدعوة إليها، وفي مقدمة ذلك توحيد الله والتعريف به وبصفاته {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٢٥)، والتحذير من الشرك {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} (الزمر: ٦٥ - ٦٦)، فهذه حقائق أطبق الأنبياء على ذكرها، ولا يتصور خلو دعوة نبي منها، فالتشابه بينها لازم لها، وهو دليل وحدة أصلها، وأما الاختلاف بينها في التعريف بهذه الحقائق فذاك دليل تحريف بعضها، وأنه ليس من عند الله تعالى.

والسؤال: هل يتشابه القرآن مع الكتاب المقدس فيما يتعلق بحقائق الإيمان؟

للإجابة عن هذا السؤال نكتفي بعرض مسألة واحدة من مسائل الإيمان وهي أهمها، مسألة التعريف بالله وصفاته، ليقيس القارئ الشاهد على الغائب.

وفي التعريف بالله وصفاته يتشابه الكتابان (القرآن والكتاب المقدس) بقدر ما يحويه الكتاب المقدس من الحق، ويفترقان بقدر ما تحويه هذه الكتب من الشوائب والتحريف بسبب التدخل البشري فيها.

ولا ريب أن في الكتاب المقدس اليوم مجموعة من النصوص التي تعظم الله وتتحدث عن وحدانيته، فأصول هذه الكتب من عند الله، وهذه الحقائق الإيمانية الصحيحة بقايا آثار الأنبياء في هذا الكتاب, فتطابق القرآن معها دليل على وحدة المصدر، وهو الله عز وجل، ولا يعني بالضرورة أن القرآن نقل منها؛ إذ التشابه لا يدل بالضرورة على النقل، فقد تطابق الإنجيليون الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) في الكثير من نصوصهم مع أسفار العهد القديم، ولم يزعم أحد من مثيري الأباطيل عن القرآن أنهم كانوا ينقلون من العهد القديم أو من بعضهم البعض.

وإزاء التطابق بين القرآن والكتاب المقدس في بعض المعاني فإنه يمكن للمتابع رصد الكثير من التفاصيل المختلفة بين الكتابين، وهو ما يُحيل أن يكون أحدُهما مصدرًا للآخر، فالله - بحسب القرآن الكريم - إله عظيم بائن من خلقه، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا ندرك كُنه ذاته ولا كيفية صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١)، بينما هو بحسب الكتاب المقدس إله يخالط مخلوقاته، فيتجسد في صور بشرية، وينزل إلى الأرض، ويمشي فيها " هو ذا الرب يخرج من مكانه، وينزل ويمشي على شوامخ الأرض" (ميخا ١/ ٣)، ويركب على الملائكة الكروبيم في تنقلاته " طأطأ السماوات ونزل، وضباب تحت رجليه، ركب على كروب، وطار، ورئي على أجنحة الريح ... " (صموئيل (٢) ٢٢/ ١٠ - ١١)، وقد نزل مرة إلى باب خيمة الاجتماع، فكلم موسى وجهًا لوجه "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" (الخروج ٣٣/ ١١).

وإذا كان الله عز وجل منزهًا - بحسب القرآن - عن الطعام والشراب والنقائص فإن الكتاب المقدس يزعم أن الرب زار إبراهيم وأكل عنده بعض اللحم مع اللبن (انظر التكوين ١٨/ ٨).

وإذا كان القرآن ينزه الله سبحانه وتعالى عن الشبيه والمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١)، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص: ٣)، فإنه في الكتاب المقدس أشبه ما يكون بالإنسان الذي خلقه مشابهًا له "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (التكوين ١/ ٢٦).

ووصفه سفر دانيال بصفات الإنسان الجسدية، فشعر رأسه أبيض وملابسه كذلك بيضاء"وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، شعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار" (دانيال ٧/ ٩)، وله عينان وأجفان (انظر المزمور ١١/ ٤)، وله شفتان ولسان (انظر إشعيا ٣٠/ ٢٧ - ٢٨)، وله رجلان رآهما بنو إسرائيل (انظر الخروج ٢٤/ ٩)، وأيضًا له فم وأنف يخرج منهما دخان ونار "صعد دخان من أنفه، ونار من فمه" (المزمور ١٨/ ٩).

وقد مشى في الجنة، حتى سمع آدمُ وحواءُ وقعَ خطواته: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار " (التكوين ٣/ ٨).

والله - بحسب القرآن - لا يُرى في الدنيا {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام: ١٠٣)، وهذا خلاف المفهوم التوراتي الذي يزعم أن موسى رآه وجهًا لوجه (انظر الخروج ٣٣/ ١١)، كما رآه يعقوب حين صارعه بعد أن عبر وادي يبوق، فسمى المكان "فينئيل"، وهي كلمة عبرانية معناها (وجه الله) "قائلًا: لأني نظرت الله وجهًا لوجه، ونجيت نفسي" (التكوين ٣٢/ ٣٠).

وإذا كان الله تعالى يصف نفسه في القرآن بأنه على كل شيء قدير؛ فإن سفر التكوين وهو أحد أسفار الكتاب المقدس الذي زعموا أن القرآن منحول منه يزعم في قصة يعقوب السابقة أن الله هُزم في مصارعته ليعقوب، وكذلك فإن سفر القضاة يذكر أن الرب عجز عن نصر بني إسرائيل على بعض أعدائهم، لأن لهم مركبات من حديد (انظر القضاة ١/ ١٩).

وهكذا، فإن هذا وغيره يثبت التباين الكبير في أهم مسألة كان يفترض أن ينقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب المقدس لو كان هو مصدره في التعرف على الله تبارك وتعالى، لكن القرآن الموحى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف الكتاب في هذه المسائل وغيرها، لأنه وحي الله تبارك وتعالى.


 

الإشارات المرجعية:

  1. للأسف هذه الإحالة القرآنية إلى أسفار موسى نفتقدها في الأسفار المنسوبة إلى موسى في الكتاب المقدس بسبب ما تعرضت له الكتب السابقة من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.

 

المصدر:

د. منقذ السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص65
 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تنزيه-القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
الغضب لله والغيرة على حرماته | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغضب لله والغيرة على حرماته


وإن الغضب لله والغيرة على حرماته من أهم نتائج الإيمان وعلاماته وكما أن محبة الله مقترنة بمعرفته ملازمة لها فإن الغيرة لا تنفك عن المحبة وإن المحب يغار وغيرته تلك علامة حبه وبذلك نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مشاعر المؤمن تجاه حرمات الله: إن المؤمن يغار والله أشد غيرة

بقلم: محمد علي يوسف
460
معرفة جلال الله وعظمته | مرابط
اقتباسات وقطوف

معرفة جلال الله وعظمته


مقتطف لأبي حامد الغزالي من كتابه إلجام العوام عن علم الكلام يشير فيه إلى السبيل الحق وهو معرفة جلال الله وعظمته وصفاته من كتابه بعبارة الوحي الصادقة الصافية بعيدا عن عبارات أهل الكلام حتى لو أنهم يصلون إلى نفس النتيجة ولكن بطرق ملتوية تشوش قلوب المؤمنين

بقلم: أبو حامد الغزالي
2238
الرد على المفوضة الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الرد على المفوضة الجزء الثاني


وردت الكثير من الشبه حول مسألة التفويض في آيات الصفات ونسبتها إلى أهل السنة وعقيدة السلف في هذه ذلك هو الإيمان بالمعنى وتفويض الكيف أما المعطلة فيظهر فساد مذهبهم في ذلك وتأثرهم بعلم المنطق وبين يديكم تفريغ لمحاضرة للشيخ الألباني يرد فيه على المفوضة وعلى من نسب عقيدتهم إلى السلف

بقلم: الشيخ الألباني
720
في القرآن كفاية الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

في القرآن كفاية الجزء الأول


في القرآن كفاية تأتي هذه الشبهة في مقولة تظهر صاحبها في صورة المكتفي بالقرآن مصدرا للحجة والاستدلال فإذا استدللت لحكم شرعي بدليل من السنة النبوية قذف بهذه المقولة في وجهك مدعيا كفاية القرآن في إقامة الدين دون الحاجة لمصدر آخر وقد يعضد صاحب هذه المقولة مقولته ببعض الأدلة القرآنية كمثل قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء أو قوله سبحانه: ما فرطنا في الكتاب من شيء

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2579
الاستغاثة بالأموات | مرابط
مقالات

الاستغاثة بالأموات


سؤال الميت والغائب نبيا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
588
مغالطة يوثيفرو ضد دلالة الأخلاق والقيم على ضرورة وجود الله | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

مغالطة يوثيفرو ضد دلالة الأخلاق والقيم على ضرورة وجود الله


من أشهر الاعتراضات التي يوردها الملاحدة على دليل القيم والمبادئ ما يسمى معضلة يوثيفرو euthyphro وهو رجل من اليونان نسبت إليه المعضلة وقد كانت نتيجة حوار بينه وبين سقراط وكان يرى أن مصدر الأخلاق يرجع إلى الإله فقال له سقراط: هل الأخلاق حسنة لأن الله يريدها أم أن الله أرادها لأنها حسنة

بقلم: سلطان العميري
1235