هل شك إبراهيم عليه السلام

هل شك إبراهيم عليه السلام | مرابط

الكاتب: د منقذ محمود السقار

2481 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نص الشبهة:

 

قالوا: القرآن أساء إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، حين اتهمه بالشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعلم أن الله عزيز حكيم"
 
كما نقل عنه أنه قال بربوبية الشمس والقمر "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ"
 

الجواب:

 

والجواب: أن إبراهيم عليه السلام -حسب القرآن- هو المثال الأعلى للمؤمنين، فقد اصطفاه الله "إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" وأمر جل وعز بالتزام دينه "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" فدينه أحسن الأديان، وهو خليل الله "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" كما أمر القرآن بالتأسي به "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وممَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده" ففي هذه الآيات وغيرها من بيان فضل إبراهيم الخليل ما يقطع قول كل خطيب.
 

الانتقال إلى منزلة أعلى من اليقين

 

وأما الشك في الإيمان فهو منفي عن إبراهيم الخليل، عليه السلام، بدليل قوله تعالى "قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" فقد آمن عليه الصلاة والسلام بقدرة الله على الإحياء، وانعقد قلبه على ذلك، وسؤاله لرؤية عملية الخلق فعل حسن أراد أن يترقى به في معارج الإيمان؛ بالانتقال من حال علم اليقين، وهي حالة ذهنية متيقنة إلى حال عين اليقين، أي مشاهدته، فسؤاله طلب ليقين بعد يقين.
 
وقد نفى، صلى الله عليه وسلم، الشك عن إبراهيم بقوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" (1)، أي أنه منزه عنه كتنزيه النبي، صلى الله عليه وسلم، عنه.

 

مسألة ربوبية الشمس والقمر

 

وأما قول الخليل عن الشمس والقمر أنها ربه؛ فكان من باب تبكيت الخصم وإقامة الحجة عليهم، فقد يقول المجادل ما لا يعتقده في إقامة الحجة والبرهان على مجادله ومناظره، قال الرازي "هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا ﻷجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه"
 
وقوله عليه السلام عن الشمس والكوكب "هذا ربي" إنما هو نوع من التدرج في إبطال ربوبيتها بدليل قوله تعالى في السياق "وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ"
 
وقد ذكر الرازي وجوهًا في توجيه قول إبراهيم عليه السلام منها:

 

"أنه، صلى الله عليه وسلم، أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبُعد طباعهم عن قبول الدلائل؛ أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم بربوبية الكواب، مع أن قلبه، صلوات الله عليه، كان مطمئنًا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله، وتمام التقرير أنه لم يجد إلى الدعوة طريقًا سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأمورًا بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر" (2)

 

وقال ابن تيمية "قاله على سبيل التقرير، لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي" (3) وقال ابن القيم "قيل: إنها على وجه إقامة الحجة على قومه، فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول، ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصًا آفلا" (4)
 
فكل أحد يعلم أن الشمس ستغيب آخر النهار وكذلك الكوكب، وقوله "فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" ليس لطروء علم جديد على إبراهيم، بل لتبكيت المشركين عبدة الشمس والكواكب بعد إظهار الموافقة على سبيل الجدل والتنزل مع المخالف.
 
والعودة الفاحصة للآيات تكشف لكل حصيف ما تتضمنه الآيات من تعظيم إبراهيم لله عز وجل دون سواه "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ"

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. أخرجه البخاري ح(3272)، ومسلم ح(151)
  2. التفسير الكبير، الرازي (40/13)
  3. دقائق التفسير، ابن تيمية (112/2)
  4. مدارج السالكين، ابن القيم (61/3)

 

المصدر:

  1. د. منقذ محمود السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص145
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
هل الحجاب يتعارض مع أناقتي في المناسبات؟ | مرابط
المرأة

هل الحجاب يتعارض مع أناقتي في المناسبات؟


التأنق والأناقة التي أفهمها تعني التزين ومواكبة الموضة والألوان والاتجاهات المنتشرة في الملبس فتلبس في الصيف كذا وتلبس في الشتاء كذا وتضع اكسسوارا بالصورة الفلانية وتلف الطرحة بالطريفة كذا وكذا .. كل هذه الأمور لا تلزم المسلمة في شيء ما دامت تخالف الركن الركين في زي المرأة المسلمة وهو: الستر.

بقلم: محمد حشمت
403
معنى جوامع الكلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

معنى جوامع الكلم


وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته لم تسقط له كلمة ولا زلت به قدم ولا بارت له حجة ولم يقم له خصم ولا أفحمه خطيب

بقلم: الجاحظ
344
قل ولا تقل: قاعدة الاستبدال | مرابط
لسانيات

قل ولا تقل: قاعدة الاستبدال


على الرغم من شيوع هذه القاعدة ومعرفة معظم المشتغلين والناطقين بالعربية بها فإن الخطأ فيها شائع جدا على مستوى الممارسة. والقاعدة هنا تقول إن باء الجر تدخل على المتروك لا على المأخوذ عند استخدام فعل التبديل بدل أو أي فعل من نفس مادته استبدل تبدل أبدل.. أو أي من مشتقات هذه الأفعال.

بقلم: محمود عبد الرازق جمعة
548
جوهر المبدأ العالماني | مرابط
مقالات العالمانية

جوهر المبدأ العالماني


عرف شلدون -في موسوعته السياسية- العالمانية بأنها: فلسفة أو نظرة عالمية تشدد على المنظورين الأرضي والإنساني في مقابل الروحي أو الديني لتفسير المجتمع والسياسات وكثيرا ما يشار إليها على أنها الأنسنة والتي هي مقاربة عالمانية تلغي الإله والإلهي وفوق الطبيعي والرؤى الدينية الأخرى أو تتجاهلها عند مناقشة السياسة أو مباشرتها

بقلم: د سامي عامري
2060
ابتسامة عفوية | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

ابتسامة عفوية


اليوم ابتسامة عفوية وغدا لقاء عابر في حدود الأدب طبعا وبعده مجاملة رقيقة عابرة في مناسبة أو ما شابه.. ثم يأتي التعلق القلبي وتأتي المرأة تشتكي أنها لا تملك لقلبها شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بقلم: محمود خطاب
360
حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها | مرابط
النسوية

حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها


مع انتشار موجة النسوية وما تحمله من أفكار مخالفة للشريعة فإن من الواجب على المصلحين أن يعتنوا بمقاومة هذه الموجة ويبنوا أسوار الوقاية من أضرارها وينقضوا أصولها ويكشفوا زيف شعاراتها بالحجة والبرهان. غير أن بعض من يقاوم هذه الموجة يتعامل بطريقة تزيد من انتشارها بدلا من تقليصها وهذا ما يوضحه الكاتب في مقال موجز.

بقلم: أحمد يوسف السيد
570